بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل الحادي عشر والأخير


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5333 - 2016 / 11 / 4 - 22:56
المحور: الادب والفن     

إذن، ليست المكيدة ابنة اليوم، قال عبد السلام لنفسه. إنها إستراتيجية مكيافيلية استخدمت منذ سنوات طويلة، يلعب دافيدسون فيها دور العسكري القابل للرثاء والعديم الذمة ذي المطامح السرية. ماذا يستطيع عبد السلام أن يفعل؟ استرجع الذاكرة، لكن تريده الذاكرة أن يكون مثقلاً بتبكيت الضمير وبالعجز، بالآلام وبالغضب على نفسه. تاريخ الإنسان لا يُختصر بثلاثة أسطر يمحوها التاريخ، أبدًا لا يُختصر. إنه تاريخ كل هذه الأحاسيس التي تنبثق ثانية من كل الأنحاء، والتي تصنع الذاكرة. هذا يخص كل الذين أحببناهم أو كرهناهم، كل الذين سنحبهم أو سنكرههم. ولخير كل الذين نحبهم، لا يمكننا إلا أن نقاتل التمويه، الحيلة، التآمر، وكل تلاعب آخر خليق بالشياطين. لكن كيف؟ كيف نقاتلها وهي تملأ ذاكرتنا بالخداع، بالمؤامرات، بالمجازر، بالرعب، بالبؤس، باللامبالاة، فتحرمنا من سخونة هذه الذاكرة، من سرها، من عظمتها، ومن لحظاتها الأكثر رقة؟ قدر عبد السلام أشبه بقدر هاملت، حب مجهض، حقد، نفس الحقد الذي يقاتله، عدالة مرجأة. ربما سيفعل ابنه شيئًا، حفيده، ابن حفيده. هو، سيمثل دور المصاب بالنسيان حتى النهاية. هكذا هي المكيدة السرية التي تفرض على الكل ألا يكونوا سوى دولاب في ماكينة عملاقة. لكنه يعي أن المستقبل سيكون شيئًا آخر، طالما كانت هناك ساندرا، طالما كانت هناك ليا، طالما كانت هناك ياسمين، طالما كانت هناك فريدة، طالما كانت هناك نادين، طالما كانت هناك أغنيتا، طالما كانت هناك بدرية، طالما كانت هناك كلارا.
عاد إلى البيت عاقدًا العزم على الزواج من ساندرا، فوجد نفسه أمام شادية، الجالسة في الصالون، إلى جانب حقيبة كبيرة، تلك التي رآها في ذلك اليوم، حين وعكته.
- إنها الحقيبة المُزْحِمَة لشذى، هل تتذكر؟ بدأت شادية القول عابسة.
- أتذكر، همهم عبد السلام وهو يبحث عن ساندرا بعينيه ثم وهو ينادي: ساندرا!
- ليست هنا. لا أحد هنا. كنت تعبانة، تعبانة كثيرًا، فالزبائن كثيرون هذه الأيام. هذا طبيعي، بعد صدمة مذابح صبرا وشاتيلا. الناس يطلقون مكبوتاتهم فيّ، وأنا، الجسد الملعون، أُرضي رغباتهم في السراء والضراء. قلت لساندرا إنني أفضل عدم البقاء، إنني سأواصل ماراثون الرغبات والمتع المختنقة، لكنها ألحت. لطيفة البنت! بعد مظاهرة اليوم، كان عليها أن تعمل قفزة إلى مقر "السلام الآن".
- وَلِيا؟
- لم أرها. على أي حال، أنا لا أعرفها.
- كانت في المظاهرة، هي كذلك.
- لكني أنا، لم أكن فيها. كنت على موعد مع ساندرا قبل المظاهرة. مرت لتأخذ قهوة بينما كنتَ أنت في الضفة، وقدمتُ لي فنجانًا. وبعد ذلك، تحدثنا قليلاً عن كل شيء، عنك، كولونيل، خاصة. جعلتَها تشتاق إليك كثيرًا، فدعوتها لتأكل طبقًا من عندنا. عادت ترى حقيبة أختي، وباتفاق مشترك، قررنا إحضارها هنا، هناك مكان لِسَرِية مدفعية بأكملها. لم تكن فكرة جيدة.
- بلى، همهم عبد السلام. بلى، بلى. هذه فكرة جيدة.
- لكن لا يبدو ذلك.
- منذ انتحار سيمون، لساندرا أفكار جيدة دومًا.
- أشكرها على أي حال.
- ألا تريدين أن ترتاحي قليلاً؟ تعالي، أنا أترك لك غرفتي.
- لهذه الليلة فقط. غدًا، سأذهب.
- يمكنك البقاء الوقت الذي يعجبك، هذا لا يزعجني، قال لها وهو يحمل الحقيبة. ثقيلة كثيرًا، هذه الحقيبة! سأنام مع ساندرا، أضاف وهو يدخلها غرفته. الآن، عليك أن ترتاحي.
- لك سرير مريح جدًا، قالت شادية وهي ترتمي في سرير عبد السلام وهي تقهقه. مثالي لعمل الحب. تعال، كولونيلي، دَعَتْهُ بيد ممتدة، أنت لا تختلف عن الآخرين. أستطيع أن أنفس عنك، أنت كذلك.
- ماذا تلعبين، شادية؟ رمى بالعربية وهو يجذبها من ذراعها. سمعتِ كل شيء، تلك الليلة، وتعرفين كل شيء عني. أنتِ هنا لأجل شيء آخر غير الحقيبة الهالكة لأختك. قولي لي لماذا أنتِ هنا، يا دين الكلب!؟
- لأخريك أكثر ما يكون، كولونيلي، رمت بالعربية بدورها.
- إذا كان من أجل هذا، كوني مطمئنة، فأنا مخرى حتى النخاع!
- من يتكلم، الكولونيل أم الفدائي؟ سألت متهكمة.
- لا أحد. أنا مصاب بالنسيان، وسأبقى ما بقيت ساندرا، ما بقيت ليا، ما بقيت...
- ...بيضاتي! جبن! ماخور خراء!
تخلصت، واستقامت في وضع الهجوم، كالمصارعة.
- هؤلاء هم الخصيان الذين اخترتهم كأسرة، قتلة الأطفال هؤلاء، قذرو الخراء هؤلاء الذين سرقونا كل شيء، التاريخ، الأرض، الوطن؟
- ساندرا وليا، قتلة أطفال؟
- ليس لأنهما زعقتا ساعة أو ساعتين "السلام الآن"، سلامهما الخراء، ستبرئهما. الواحد يقتل، والآخر يزعق، والله حلوه هادي! كلهم متفقون على نقطة، نقطة واحدة: إبادتنا.
- ليس كلهم.
- بيضاتي! افتح عينيك جيدًا، كولونيل تساهل. يقتلون جنودهم ليكون العساكر الآخرون مستعدين دومًا للدفاع عن أنفسهم، يعني للقتل. كل الإسرائيليين مجرمون.
- بينهم من يقول إن كل الفلسطينيين مجرمون.
- مجرمون، نحن؟ نحن الذين جيشهم، ج-ي-ش-ك كولونيل الخراء، يعتبرنا حيوانات؟ لنترك جانبًا المجازر التي ارتكبت في لبنان وقل لي ماذا فعلتَ لتحول دون مجازر عين بيت الماء؟ كنتَ الوحيد الذي يمكنه عوننا.
- أصيب الجنود بالذعر، فأنذرَتْهم الليوتنانت مردوخ بوقف إطلاق النار، متأخرة قليلاً، أعترف، لكنها فعلت ما تقدر عليه.
- بنت بطلة، الليوتنانت مردوخ! مضاجِعة حقيقية للرجال! ألا تجد ذلك؟ لكنك كنت تحترق من الحمى، ولم تكن تحس بها. هل أوقفتْ الجرافات، مضاجِعة الرجال هذه؟ إعدام الناس؟ المطاردة؟ اعتقال الأطفال؟ نعم، ستقول لي، لكن "متأخرة قليلاً"! قبضايات الجيش الذين يرتكبون الأهوال، نحن نعرفهم كلهم. ماذا تنتظر، كولونيل تساهل، لترميهم في الحبس؟ أنت لست جديرًا حتى أن تكون ضابطًا إسرائيلي!
- فيما هي الأشياء عليه، أنا لست جديرًا بشيء.
- أحسن حجة! أرى أنهم نجحوا في العمل منك واحدًا مثلهم: بطل تبرير دائم، متباكٍ.
- أنا ضحية، مثلك. هل تعرفين، شادية...
- لا تَدْعُني شادية، أنا لا أسمح لخائن أن يدغدغ لي بيضاتي مناديًا باسمي.
- لكني ضحية تعي مصيرها. يعني، عكسك، أستطيع النظر إلى المستقبل.
- أي والله؟ وماذا ترى، هل يمكنك أن تقول لي، ما عدا بؤس أكثر لنا، قمع أكثر، تمييز أكثر، عدوانية أكثر، احتقار أكثر، باختصار خ-ر-ا-ء أكثر؟
في تلك اللحظة، عادت ليا إلى البيت. اقتربت بحذر، و "شالوم" يتكلم اللغة التي من المفترض أنه نسيها. بقيت في انفراج الباب تسمع، وهي تحبس أنفاسها.
- أستطيع النظر إلى المستقبل ورؤية الأطفال الذين ستعطيني إياهم ساندرا سعداء، تابع، وهم يلعبون مع أطفال آخرين في حدائق قريتي صفورية.
- يا لك من أحمق مسكين! قريتك صفورية لم تعد موجودة سوى في رؤوس المنحطين عقليًا.
- والحال هذه، الحقيقة، أنا منحط عقليًا، مجنون من صفورية، مريض بهذه اللحظة القادمة التي لم تزل بعيدة.
- مريض، نعم، لكنك مريض نسي ماضيه، أرضه، أمه، شالوم نسي أسرته. والله بده يجنني! اصح، عبد السلام، أنت استعدت ذاكرتك، خراء! اصح، وعد إلى أسرتك، أسرتك تاع صح، إلى كلاشينكوفك، إلى قضيتك.
- بعد موت أمي، أخي، ومنفى باقي أسرتي، أسرتي تاع صح هنا، ومن هنا سأخوض المعركة لأجل قضيتي.
- اصح، عبد السلام، يا أَحْبِة الرب! ابنا خالتك، إسماعيل وإسحق، لا يريدان أن يصحيا كذلك. هما في تل أبيب، إذا كنت تريد أن تعرف، يعيشان عند أسرة يهودية، مثلك، وشكلهما سعيد، القذران. يقولان هناك يهودي ويهودي، مثلما هناك عربي وعربي. لم يريدا مساعدتي في نسف رأس ربهم يهوه، فهو عمل جنوني وعبثي لهما. لا يقبلان بفكرة نشر الرعب عندهم، تمامًا كما يفعلون عندنا، لنجعلهم يشعرون، خاصة أولئك المدللون الذين ولدوا بعد الحرب، بما هو العذاب، لندفعهم إلى وضع حد للاستيطان. يجب أن يتعذبوا بالقدر الذي نتعذب، كل أولئك الملائكة، ليشعروا قليلاً بما نعاني. يجب أن يخافوا، أن يشخوا في كلاسينهم، أن يقولوا "لنهرب بسرعة وبعيدًا من رعب الميعاد!" هل تسمعني، كولونيل تساهل؟ أنت والإرهابيون الحقيقيون للجيش، عليكم أن تسمعوني. هيا اذهبوا! هيا اذهبوا! أنتم تستعمرون أرضنا، هيا اذهبوا! ماذا تنتظرون لتذهبوا؟ اذهبوا إلى إسرائيل! هذه المنطقة الفردوسية التي تركناها غصبًا عنا لا تكفيكم؟ رَوّحوا على بيوتكم! قال لي إسماعيل، هذا القذر، أن أذهب للعب لعبة الحرب في مكان آخر، بعيدًا عن حُماته. التاني، إسحق، خراء الخراء، قال لي أن أفكر ألف مرة قبل القيام بشيء، لا أحد يقدر على مسهم. لا أحد يقدر على مسهم؟ هذا ما سنرى؟ فليضعوا جنديًا وراء كل مدني، هذا لن يمنعنا من الوصول إليهم. لن تكون حياة لأحد، لا لهم، ولا لنا. نحن على استعداد لاحتمال كل شيء لأجل الخلاص من الاحتلال. العار للغربيين! هؤلاء المستعمرون القدامى الذين كانوا قد أنهوا استعمارهم منذ عشرات السنين، واليوم يبقون، دون أن يفعلوا شيئًا أو يقولوا، وهم يرون كيف لم نزل مستعمرين، مذبوحين، منهوبين. نحن المتخلى عنهم من كل العالم، من الأمريكان، من الأوروبيين، من الأفريقيين، من السوفييتيين، من الصينيين. حتى عرب الخراء هؤلاء تركونا. كلهم أسقطونا. الأمريكان، نعرف لماذا. لأن عندهم لوبي اسمه اللوبي اليهودي، ولأن...
- آه من هذه القوة المبهمة القادرة على كل شيء التي هي اللوبي اليهودي! بينما بالأحرى لأن مصالح الطرفين، الأمريكي والإسرائيلي، تتقارب، أو، إذا أردت، لأن تصرفات الإسرائيليين توجد في قلب المصالح الأمريكية.
لكنها لم تشأ فهم شيء.
- ...ولأن بترول الخراء بترولنا أغلى من دمنا. لأن الحكام العرب على جزمتهم. لأن حكام الخراء هؤلاء لصوص كلهم. ملياراتهم في البنوك السويسرية عبوديتهم. أمام الدم الفلسطيني، على شعوبهم أن تكون بوداعة الحملان. حتى أمام دمهم، عليهم أن يكونوا بوداعة الخراء، فتُقمع أقل حركة شعبية، أقل احتجاج، هذا هو دورك. تفضل أن تكون كلب حراسة. الأوروبيون، هؤلاء القذرون، يطيعون كذلك. يغمضون أعينهم أمام المجازر التي تُرتكب ضدنا، خوفًا من اتهامهم باللاسامية. هل ترى، كولونيل تساهل، لماذا أجد نفسي وحيدة أمام جيش بين أقوى الجيوش في العالم؟ نعم، وحيدة، مجردة من السلاح، بيضاتي في الهواء، مناكة من طرف الكل. في رأسي، الكل عدوي، سواء كان عسكريًا أم مدنيًا، الكل جلادي. كيف يمكنهم أن يمنعوا واحدًا جائعًا، محاصرًا، مضطهَدًا، رأى أخته تُقتل، بيته يُدَمَّر، مدينته تُحرق، من المجيء للانتحار عندهم؟ عندما لن يبقى لي إلا الموت لأكون حرة، سأعمل ما بوسعي لِأَجُرَّ معي بعض الخراءات من عندهم. لا يريدون؟ بُمْ، بُمْ، أُجبرهم. أضحي بحياتي وبحياتهم. لا تنظر إليّ هكذا، خراء! أَنْسِفُنِي وأَنْسِفُهُم معي لتحريرنا. إنها الطريقة الوحيدة لقتال جلادنا المشترك: ا-ل-ج-ي-ش. بالنسبة لي، في وضع الخراء الحالي، إنها الطريقة الوحيدة للحصول على حريتي. أنا وكل الذين يتعذبون تحت الاحتلال، نحن مستعدون لكل شيء كي يذهب الإسرائيليون إلى الشيطان. نحن لا نريدهم. لم يشأ إسحق أن يفهم شيئًا، وهدد بتسليمي إليهم، هل تتصور؟ هذان القذران إسماعيل وإسحق، فقدا الذاكرة، نسيا كل شيء من مأساتنا، صارا أسوأ من اليهود.
- لم يصيرا أسوأ من أيٍ كان، هذا ما يمكنني أن أضمنه لك، لكن لديهما حُلم حتمًا يريدان تحقيقه.
- بلا مزاح!
- حُلم جميل.
- لا، لكن بلا مزاح!
- إنها هذه اللحظة التي كلمتك عنها، هذه اللحظة القادمة التي لم تزل بعيدة. حُلم جميل جدًا.
- تجرؤ على قول حُلم جميل جدًا!
- حُلم جميل جدًا، حُلم كما لم يسبق لأحد أن يحلم أبدًا. سراب لم تلمحه النفوس البشرية أبدًا، فهو سراب حقيقي. حُلم جميل جدًا جدًا.
- حُلم جميل جدًا جدًا، هنا؟ بين هؤلاء الأوغاد؟ نائكي القحبات؟ مهابيل الألواح السماوية؟ بيضاتي! أنت تهذي وأنت تفتح عينيك! اصح، عبد السلام، ابن عين بيت الماء، نبع المخرأة!
- أنا صاحٍ. أحب ساندرا والأطفال الذين سيكونون لي منها. سأبقى فاقدًا للذاكرة. سأفعل كما فعل البعض، همهم مفكرًا في أبي الدميم. سأزرع نسلاً بينهم، مع اختلاف كبير: سيعمل نسلي لخير الكل كل شيء. إنها الآلام التي أريد إزالتها.
- برافو! صفقت. كان درسًا جميلاً جدًا في الأخلاق، يا الطوباوي!
- طوباوي؟ ربما. عليّ أن أغتنم الفرصة التي تتاح لي.
- بالزواج من يهودية؟
- نعم، بالزواج من يهودية كانت أمي قد باركتها قبل موتها، بالزواج من ساندرا، أو ليا لو لم تكن هناك ساندرا.
تمالكت ليا نفسها عن البكاء، فليس الوقت لإفساد كل شيء، قالت لنفسها.
- تزوج منهما كلتيهما، ألقت شادية ضاحكة ضحكة شيطانية. أقدمهما هدية لك كلتيهما، أضافت مطلقة طلقتين من مسدس خيالي.
- إذا لمست إحداهما، قطعتك إربًا، هدد جاذبًا إياها بعنف من ذراعها. ها أنا أنذرك.
- اتركني، يا بربري! أنت تثبت أنك صرت مثلهم، قاسيًا وبلا قلب.
تركها، وسأل بسطوة:
- من هو وراء كل هذا؟ من يأمرك؟
- لا أحد يأمرني! ويا لحظك، حتى الساعة.
أخذ نفسًا عميقًا، واتجه نحو الباب في الوقت الذي تهرب فيه ليا خارج المنزل.
- دم شذى لن يضيع سدى، صاحت من ورائه.
تردد عبد السلام، وهو في الصالون. واحدة مثل شادية، مُرَوَّضَة ضد كل العالم، بمثل هذا الحقد، وهذا العمى، تُمثل خطرًا "لأسرته". يجب ألا تبقى تحت هذا السقف. قرر طردها، ولتفكر ساندرا ما أرادت في هذه اللفتة اللاصداقية نحو "مَحْمِيَّتِهَا"! دفعت ليا الباب الرئيسي، وهي تتظاهر بالوصول لتوها. خرجت شادية من غرفة عبد السلام، واعتمدت بظهرها على الباب، وهي ترى ليا بعين مُغْتَمَّة، دون أن تتحرك.
- أنت، شادية، قالت ليا بنبرة منفعلة تريدها أن تكون مرحة. كلمتني ساندرا عنك. قالت لي إنك ستقضين الليلة عندنا. أهلاً وسهلاً بك.
- من الأفضل أن أذهب، همهمت شادية وهي تنظر إلى عبد السلام، وتسحب بيروكتها بيد ثقيلة.
- لا، لن تذهبي، ردت ليا. ستبقين. ستبقى، أليس كذلك، ميمو؟
- كما تشاء، أجاب عبد السلام بنبرة جسيمة أرادها معتدلة.
- كما تشاء ساندرا. سأعد العشاء، قالت ليا وهي تتجه إلى المطبخ.
- لا أريد الأكل، ردت شادية. لست جائعة. وبما أنه كما تشاء ساندرا، سأذهب للنوم.
قامت بخطوتين باتجاه عبد السلام وهي تثبت عينيها في عينيه، وكأنها تريد أن تقول له "تمنيت ألا أعرضك للمتاعب، لكن الأمر أقوى مني!"، ثم عادت إلى الغرفة، وأغلقت الباب بهدوء من ورائها.
عند منتصف الليل، وعبد السلام ينام أمام التلفزيون، فتح عينيه فجأة. تذكر كلمات شادية بخصوص موت أختها شذى، موت يجهله أهلها. وتذكر أمه، وهي تصف معاناتهم لموت ابنتهم. هذا يعني أن شادية كانت تكذب. على عكس ما قالت، كان أهلها يعلمون، فهم الذين دفنوا ابنتهم. برقت السماء، وأرعدت، في الوقت الذي ترك فيه عبد السلام مكانه بسرعة إلى غرفته. سقط مطر غزير. لم تكن شادية هناك، وساعة قنبلة موقوتة تعمل تِكْتاك مصمًا أكثر فأكثر. فتح عبد السلام الحقيبة، والتِّكْتاك يغدو مهددًا أكثر. أفرغ الحقيبة من محتوياتها بحثًا عن الجهاز المرعب بينما ترسل السماء من جديد برقها ورعدها. وهذه التِّكْتاكات التي لا تنتهي، وهذه البروق، وهذه الرعود، وهذه الأمطار، طوفان حقيقي. ها هو أخيرًا أمام قدره الرهيب. أوقف الساعة بضع ثوان قبل الانفجار، ولم تعد ساندرا بعد إلى البيت.
- ليا، أنت تنامين؟ صاح وهو يدخل غرفتها.
كانت ليا تقرأ في سريرها.
- ماذا هناك؟ سألت مذعورة.
- كانت شادية تريد أن تنسف الدار، أوضح بِنَفَس قصير.
- ماذا!! اندهشت ليا مصعوقة. كانت شادية تريد...
- أعرف أن جوردان في مقر القيادة العامة، لكن ساندرا ليست في غرفتها.
- كانت شادية تريد... أعادت ليا وهي لم تزل تحت الصدمة.
- أين ساندرا؟ صرخ.
- تلفنت بينما كنتَ تغفو أمام التلفزيون لتقول إنهم لم يزل لديهم كثير من الشغل في "السلام الآن"، أجابت ليا التي تبدو كمن استيقظت من كابوس. فهم يعدون لمظاهرة ثانية في الغد، ويمكن أن تتأخر أو تنام هناك. حتى أنها تكلمت مع شادية التي لم يكن يأتيها النوم، واقترحت هذه الذهاب لعونها، منذ أكثر من ساعة.
- آه! يا إلهي، ألقى عبد السلام وهو يترك غرفة ليا بأسرع ما يمكن.
- انتظرني! صاحت الأخت الكبرى، وهي تلبس بنطلونها. سآتي معك.
ساق عبد السلام تحت المطر مخاطرًا بحياته، مرددًا بلا توقف "آه! يا إلهي! آه! يا إلهي! آه! يا إلهي!" وانفجرت ليا منتحبة.
- إنها غلطتي، ميمو، قالت وهي تشهق. لم يكن من اللازم عليّ أن ألح لتبقى. ماذا سيجري، ميمو؟ أوه! ساندرا، حبيبتي.
- آه! يا إلهي! آه! يا إلهي! آه! يا إلهي! وجد فقط ما يقول.
وصلتهما صفارة رجال المطافئ من بعيد.
- ساندرا، لا! أخذت ليا تصرخ.
تسمرا أمام اللهب الملتهم للبناية حيث تقيم الحركة السلمية، لهب كثير لم تستطع كل أمطار نهاية العالم هذه أن تطفئه.
- ساندرا، ولولت ليا من أعماق كيانها وهي تقفز من السيارة.
اخترق عبد السلام الزحام، وهو متحجر كتمثال حقنوه بالحياة، الوقت الذي يتحقق فيه إن كان نحاته بين الضحايا. اكتشف الوجوه التي لم يستطع المطر غسل آثار الدم عنها، الوجه الأول كان وجه شادية، "آه! يا إلهي!"، عاد إلى الهمهمة. الوجه الثاني لم يكن وجه ساندرا. الوجه الثالث لم يكن وجه ساندرا. الوجه الرابع لم يكن وجه ساندرا. كانت كلها ممزقة. هل هذا هو الجيش الذي لا يُقهر؟ هل هذا هو الشعب الذي لا يُمس؟ هل هذه هي الدولة القوية، المجهزة بقنبلة نووية؟ لم يكن أحد في مأمن، في نهاية المطاف، عندما يتعلق الأمر بعمل جنوني، من طرف أو من آخر. ترك عبد السلام وجوه الضحايا، ونظر خلال لحظة إلى وجوه المتجمهرين، وجوه مفعمة بالخوف. لم يعد النير العسكري يُثقل أفكارهم. أخيرًا الإسرائيليون هم أنفسهم، كائنات بشرية. ليسوا فوق بشريين، لكن كائنات بشرية. ارتعدوا من الخوف، ومنهم من بكى. عاد يرى دموع أمه، وكل الذين كانوا يبكون في عين بيت الماء، في دولشه فيتا، في تل الزعتر. أخذ يبكي حتى قبل أن يكتشف الوجه الخامس: وجه ساندرا، وهو يبتسم له رغم الموت.

* * *

بعد عام، انهمك عبد السلام في صفورية بين الحجارة، برفقة زوجته ليا، الحامل في شهرها السابع. أراد أن يعيد بناء القرية الشهيدة بنفسه، وأبناؤه سيواصلون من بعده. أراد أن يحقق هذا الحُلم لأمه، وَلِيا دومًا إلى جانبه. نقلت الحجارة رغم حالتها، فإعادة بناء صفورية حُلمها كذلك. "لوليدي"، قالت. باس عبد السلام بطنها الضخم بوستين، بوسة لها وبوسة للوليد. وكل يوم، كانا يعملان من الشروق إلى الغروب. كانا يتكلمان عن ساندرا من وقت إلى آخر، وهما يشعران بالحزن. لكن حب ليا حَوَّلَ الحزن إلى فرح، ومنح الرغبة في الحياة، في مواصلة الحياة. بفضل هذا الحب على كل شيء أن يتغير، كل شيء سيتغير، كل شيء، كل شيء إطلاقًا، في الرؤوس، في الحجارة، في الأحلام.
في صباح أحد الأيام، استيقظ عبد السلام على صوت ترتيل بعيد. نظر، ورأى مستوطن في ما مضي، مَنْ كان يضرب جبينه بحجر على تل قرب نابلس مرددًا دون تعب "أرض ميعادي، أرض ميعادي، أرض ميعادي". فَعَلَ الشيء ذاته. وكل يوم، اقترب قليلاً أكثر: ها هو في الوقت الحاضر على بعد خطوتين من بناء عبد السلام.
- ماذا تفعل هنا، أيها التعس؟ سأله هذا الأخير.
- أريد المشاركة في إعادة بناء صفورية، أجاب المستوطن، وجبينه في الدم. ها هما حجران أحضرتهما من هناك، من أرض ميعادي.
ركله عبد السلام ركلة قوية، لكن قوية، قوية جدًا، في مؤخرته، وطرده. هذا الأبله، هذا الجاهل، هذا المُسَيَّر بلا مخ! وَلِيا تراه يهرب كالجرذ انفجرت ضاحكة.
منذ الأزمنة السحيقة، فكر عبد السلام وهو يغيب قليلاً عن كل ما يحيط به، الإنسان فكرة نتلاعب بها كما نشاء، لتقع مآسيه، وليدفع ثمن وجوده غاليًا، بالدمع والدم! قيل من الكلام أحكمه، أملاً في إنقاذ الإنسان من نفسه: اغفر، أحبب، لا تسئ، أحبب عدوك!
أعاده صوت ليا إلى الواقع. نادته لأول مرة باسمه الحقيقي:
- عبد السلام، قالت، باسمة كزهرة عاشقة. أين ذهبت؟
حط عليها نظرة دَهِشَة وسعيدة في آن واحد، "كانت تعلم!" قال لنفسه. ثم أجاب على ابتسامتها بذات الابتسامة.


تمت كتابة القسم الثاني بالفرنسية عام 2000
صدرت الرواية بالفرنسية عند دار لارماطان عام 2003
باريس