بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الخامس عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5254 - 2016 / 8 / 14 - 18:02
المحور: الادب والفن     

أتينا عبد السلام بحَساء من عظم الكلب الذي كنا قد قتلناه عشية أمس، فرفض شربه. فتح قنينة ويسكي، وشرب كأسًا جرعة واحدة. جاء ضوء الليل مُعْلِمًا أن القصف قد بلغ أوجه، وأن عليه أن يذهب إلى مراكز القتال حالاً. شرب كأس ويسكي أخرى جرعة واحدة، وقال إنه مريض. سمع نباحًا، فأوضح ضوء أن "المدمنين" قد أخذوا ينبحون كالكلاب.
- مَنْ هذا؟ سأل دون أن يفهم.
- أصدقاء الأبيض، أجاب القيادي اليساروي. لم تعد المخدرات تؤثر فيهم أقل تأثير.
- اقتلهم! استشاط.
لم يكن هناك شيء يَسُرُّ ضوء أكثر.
- تحت أمرك، يا كولونيلي! صاح بحمية.
- كولونيلك؟
- كولونيلي!
- كولونيلك منذ متى؟
- منذ الآن، يا كولونيلي!
- ليست الدولة على جدول الأعمال وتسميني كولونيل؟
- هؤلاء الكلاب لم يعودوا ينفعون لشيء، يستحقون قتلهم بالرصاص، ووحده كولونيل من معدنك، يا كولونيلي، يمكنه أن يتخذ مثل هذا القرار، علق قبل أن يتوارى.
قليلاً فيما بعد، غدا النباح أكثر فأكثر. وصلت قائدنا صيحات حربية، ثم عدة صَليات نارية.
جاءت العمة مريم لتزوره، وثلاثة من رجالنا ماتوا بسببها، بينما هم يحاولون حمايتها. أطلق الكتائب عليهم، فأثار موتهم غضب المخيم على عبد السلام.
- هذا أمر مجحف ومحزن جدًا، قالت العمة مريم. أربعة! أربعة! واهًا!
- ثلاثة فقط، قال عبد السلام.
- أربعة، واحسرتاه!
رأته العمة مريم يشرب جرعات كبيرة، ولاحظت الحمى التي تلتهمه.
- أتكلم عن الكلاب، قالت ناقمة. قتل جَوْعاكم أربعة من أجمل الأعراق، أربعة من كلاب الصيد. لهذا السبب فتح رجالنا النار، وقتلوا ثلاثة من رجالك.
كان عبد السلام يواصل الشرب بِسُعْر، فاقترحت العمة مريم أن يذهب للعلاج في مستشفى من مستشفيات تل أبيب، في إسرائيل.
- في إسرائيل، زعق متظاهرًا بالحنق. في إسرائيل! في إسرائيل!
- في إسرائيل، أعادت العمة مريم بتمهل. ما الضرر في هذا؟ في إسرائيل.
- تجرؤين على قول في إسرائيل!
- هذا فقط لمعالجتك، يا حبيبي.
- في إسرائيل!
- نعم، في إسرائيل. وماذا غيرها؟
- والوطنية؟ والعروبة؟ وشرف الفدائيين؟ والقضية المقدسة؟ والقضية المقدسة؟ ألقى بصوت يبالغ في الخطورة.
أرسل عبد السلام في طلبنا، وأَمَرَنا بتوقيف العمة مريم، ليكسب رضى المخيم طبعًا، وليس "للقضية المقدسة" إطلاقًا.
- أتيت هنا لأعرف أي قرار اتخذت بخصوص إعادة بناء غزة، يا كولونيلي، ألقت.
- أنتِ كذلك!
- أنا كذلك ماذا، يا كولونيلي يا حبيبي؟
- إنه قبر جدك الذي سأعيد بناءه، يا جاسوسة قفاي!
تعثر القائد الفلسطيني للحمى التي كان فريستها، ووقع بطوله. حاول القيام عبثًا، فأشار إلى أحد حراسه أن يحمله حتى سريره. طالب بقنينته، ثم بإحضار نادين، والقصف لا يتوقف لحظة واحدة. تخيل القذائف تصل إلى مخيم عين بيت الماء. سيرفعه على أعمدة من ذهب، وسيعمل من كل مأوى تنكي قصرًا، قصرًا ولا كل القصور، بنوافذ كثيرة.
اقتربت نادين منه، وعانقته. أخذت منه قنينة الويسكي، وقالت إن حرارته ترتفع. عدة ثوان فيما بعد، راح يقشعر من البرد. تعرت بسرعة، ثم عرته، ولفته بذراعيها.
- يجب أن تنام الآن، همست في أذنه بينما كان القصف على أشده.
إذن ما قالته عن طريقتها في العلاج كان صحيحًا، إذن ما فعله من حب معها كان غير صحيح. أراد أن يتكلم، فمنعته. "نم"، همست، وهي تضغط وجهه على ثديها.
نهض عبد السلام خلال الليل، لم تكن نادين هناك، كانت هناك فريدة، وكان القصف يتواصل. سألته فريدة إن كان يشعر بتحسن، فلم يجب. تناول قنينته، وشرب جرعة كبيرة. أخبرته أن الزعيم الدرزي الجديد أراد أن يقوم ببادرة حسنة تجاه المخيم، فأوصل صناديق الأسلحة والذخائر الألمانية، والمقاتلون يقاومون جيدًا. لم يسأل نادين أينها، كان يريد فقط ضمها. مد يده إليها، فرمت بنفسها عليه، وقبلته. لكن، أيها الشيطان، لماذا تقبله بكل هذه الرقة؟ ما أن أحس بشفتيها على شفتيه حتى اجتاحه الشعور بالذنب. آه، لو يمكنها أن تكرهه!
أسقته حَساء عظم الكلب، بعد أن خلطته بالويسكي، ثم، رجته أن يتابع حكايته.
- أية حكاية؟ سألها.
- حكايتك أمس، أجابت.
كان ذلك كما لو أن ألف عام قد مضت! جرع كأس ويسكي دفعة واحدة قبل أن يجزم:
- حكايتي أمس، إنها الماضي.
طلب من فريدة أن تحضر سلاحه.
- لا تستطيع القتال وأنت على مثل هذه الحال، احتجت.
- أحضريه لي، من فضلك.
نفَّذت.
أفرغه عبد السلام من الرصاص تحت نظرات الدهشة والاستغراب لحسناء الجنوب، وعاد إلى الارتعاش.
- عادت النوبة، تلعثمت.
ليخفف من نوبة الحمى، راح يفرك جسده بالرصاص. فهمت فريدة هذا الإجراء، وابتسمت. بعد ذلك، أخذ عبد السلام يسكر. ودون إرادته، عاد يروي:
- قليلاً بعد عام 67، رجعت خالتي بدرية إلى السكن عندنا في المخيم مع طفليها. كان زوجها قد ترك المحراث، وكان يريد الانخراط في صفوف المقاومة. كان من بين الأوائل الذين حملوا السلاح. كان ابناه صغيرين: إسماعيل ست سنوات، وإسحق أربع. لم تجد بدرية عملاً، فأوكلت إليها أمي بشئون البيت. كان أخي سالم في باريس، وكأنه كان يتوقع نشوب الحرب، الهزيمة، الفوضى. لكن خاصة كانت باريس له حُلمًا، وكان يريد أن تغدو حقيقة تعين أهله لا تذلهم.
"بعد النكسة، توقفت أمي عن العمل في الثكنات، وأخذت تعمل في أحد معامل الصابون، تنقل الوقود من المستودع إلى الفرن. كان عملاً متقطعًا، يتوقف على طبخة المصبنة الشهرية، وكان عليها الذهاب إلى البلدية كل يوم لتعرف إذا ما كان لها عمل. في أحد الأيام، دمجوها مع مجموعة من العمال الذين يشقون طريقًا جديدة في جبل عيبال. يربض جبلنا دومًا من وراء المخيم عظيمًا، ينهض شامخًا مخترقًا السحاب. كانت أمي تتسلقه عند الفجر، والندى يتلألأ على وجنتيها، بينما تجر ثوبها المطرز بألف لون، وشال رقيق أبيض يغطي رأسها وكتفيها. كانت تصعد، والشمس في أعالي السماء، تصعد معها. كانت تقول لي: يَمَّا، لما تصعد الشمس فوق الجبل، وتصير برتقالة، يهتز قلبي فرحًا، ويقوى العظم في ساقيّ!"
"الصعود! كانت هناك تلتقي بأناس آخرين مثلها. كانوا يعملون طوال النهار. كانوا يضربون فؤوسهم في الصخر، وينقلون على أكتافهم أكياس الحجارة، كالشياطين الطيبين، ويقذفونها من منحدر، حتى تجف شفاههم، ويخبو النهار. حقًا كانوا يشقون طريقًا، لكنها لم تكن لهم. فؤوسهم ومجرفاتهم لم تكن ملكهم. عندما كانت أمي تعود إلى البيت في المساء، يكون لها شكل الحمامة الساخطة. كانت تنهض كالجبل، وتنفض ثوبها. وفي الحال، كانت رائحة الإسمنت تملأ رئتيّ. كان يغالبها التعب، فتضع قدميها في اللَّكَن، وتترك ياسمين تصب الماء فوقهما. كانت تفرك قدميها بأناة، وكأنها ترعى طفلاً. قدما الجميع قدماها! كنا جميعنا ندب في عروقهما، فتنقلنا إلى كل مكان تذهب إليه، وننمو فيهما بأناة ونقوى ونكبر."
"كانت أختي تلومها على كثير تعبها، فتبتسم لها بسكون، وهي ترفع نحوها جبهتها، ولا تجيبها، وكان يصبح للماء لون الوحل، ولا تريد لأختي حمل عش التماسيح، تحمله هي، فتنفر عروقها كجذور الشجر، وتُبْغَث الحياة أينما تطأ..."
في الصباح، نهض عبد السلام من نومه قافزًا على صوت انفجار هائل، ونادين تنام عارية في سريره. خففنا نطفئ حريقًا اندلع من نافذة. كانت قذيفة ألقيت عن عمد على مركز القيادة. حضر ضوء الليل بطلب من قائدنا. "هذا الاعتداء المتعمد عليّ، لأني أوقفت العمة مريم"، أوضح. اقترح أن نطلق سراحها، إلا أن الزعيم اليساروي اعترض.
- دعني أساوم على رأس هذه الخرية، قال له.
- تساوم؟
- لن نطلق سراحها إلا عندما يتوقف أَحْبات الخراء عن قَنْبَلة المخيم. مع أنني...
- مع أنك ماذا؟
- مع أنني أموت رغبة في إرسال رصاصة إلى ثقب قفاها، هذه العمة الخرية الخائنة!
تناول الطلقات التي أخرجها عبد السلام من سلاحه، وأخذ يقذفها في الهواء ويلتقطها واحدة واحدة، في نفس الوقت الذي يشرح فيه عطوبية خنادقنا. أضاف أننا في حاجة إليه. أفرغ آمرنا آخر قطرات الويسكي في القنينة، وفتح قنينة جديدة. أشار إلى نادين التي تنام ملء جفنيها، كالطفل الرضيع، رغم قوة الانفجارات.
- أنا أنتظر استيقاظها، وسألحق بك، قال عبد السلام.
احتد القصف فجأة، فأقفل ضوء الليل أذنيه، ورفع إصبعه في اتجاه نادين.
- هي أيضًا المستشفى في حاجة إليها، صاح بسبب القنابل، قبل أن يغادر المكان.
حاول رئيسنا إيقاظ نادين. كانت تواصل النوم. لم تكن تشعر بعبد السلام هازًا قارصًا. كانت في عالم آخر غير عالمه. كانت أحلامها أخرى غير أحلامه. حتى كوابيسها لم تكن نفس كوابيسه. سحب الغطاء عنها بيد الغضب، فكاد جمال جسدها يجعله مجنونًا. كان لها جمال ألف امرأة. تردد بين أن يترك نفسه لقمة سائغة تحت أسنان وحش الواجب أو وحش الشهوة. وليواجه ضَعفه، صب الويسكي في فمه حتى قضى على الوحشين، وقضى على نفسه بالثَّمَلِ حتى الموت.

يتبع الفصل السادس عشر...