بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5246 - 2016 / 8 / 6 - 15:40
المحور: الادب والفن     

لم ينقشع ضباب هذا المشهد المذهل إلا بوصول كمال الدرزي مهتاجًا. كانت فاطمة قد جاءت لرؤيته، واعترفت له بحبها! كانت الشيطان بعينه!
- لا تصدقها، قال له عبد السلام، فهي لا تحب أحدًا آخر غير أمريكي، أشقر فضلاً عن ذلك.
كان يرمي إلى إثارة غضب كمال الدرزي ضدها، وهو يتذكر تأوهاتها وقبلاتها، ملامساتها ومداعباتها.
- إنها مشعلة الفتن، تابع. خذ حذرك منها.
لم يكن كلام عبد السلام من ذوق القيادي الدرزي الذي بدا كمن اصطيد بالخُطاف.
- سأقتل أشقرها، وأتزوج بها، ألقى عازمًا.
- ستتزوج بها وأنت متزوج!؟
- يحق لي الزواج بأكثر من امرأة. فوق ذلك، لدي قصور، قصور كثيرة، يمكنها أن تسع ألف امرأة وامرأة، لو أردت أن تعلم.
- هل تكون ملكًا للحريم دون أن نعلم؟
- "حريم" كلمة رجعية. أنا ملك، وفقط. ملك دون أن أكون ملكًا من وجهة نظر اشتراكية.
- عن أية اشتراكية تتكلم؟
- اشتراكيتي.
- الاشتراكية على الطريقة اللبنانية؟
- على الطريقة الدرزية، أيها الأبله! أجاب بنبرته الدرزية متأثرًا حتى أعمق نقطة في كيانه.
كلف عبد السلام بطلب يدها، بما أن أباها واحدٌ من رجاله، فوعده القائد الفلسطيني بذلك ما أن تلقي الحرب أوزارها. أصر كمال الدرزي على أن يطلب يدها اليوم قبل الغد.
- لا شأن لذلك في الحرب! عمل الزعيم الدرزي. المسألة مسألة شخصية.
- من العيب الزواج في حرب تقتل الناس.
- فلتقتل، هذه الحرب القذرة! ليس هذا من شأني.
- هذه الحرب حربك، كمال الدرزي!
- حربي وليس زواجي!
- انتظر إذن توقف القتال.
- إذا كان الأمر كذلك، فأنا موافق على أن يكون توقف القتال سريعًا ونهائيًا، وأنا مستعد لمقابلة أبي أرز حالاً ودونكم.
لم تكن تنقصه الوقاحة هذا المنيك!
- هل تجرؤ على القيام بعمل أناني كهذا!؟
- نعم، أجرؤ! وكس أمكم كلكم! ألم تتعبوا؟
- ما كادت الحرب تبدأ.
- أريد الزواج من فاتنة...
- من؟
- فاتنة، فاتنة! أريد الزواج من فاتنة بأي ثمن، ولن يمنعني أحد. لأجلها أبيع أمي، أبيع أبي، أبيع لبنان، وأقنع بكانتونة أكون فيها سعيدًا معها.
ذهب حانقًا. كان أبو المشارق هناك. كان قد سمع كل شيء، لكنه لم يعلق أي تعليق. اختفى عدة أيام. كنا نعلم ما يفكر بطرس الأحمر فيه بخصوص الدرزي، وسيكون ضد كل إجراء معرِّض للشبهة. لغياب تقي الدين، كان يلزمنا رأي أبي المشارق. أرسل عبد السلام في طلبه، فقيل له إن أبا المشارق لم يكن يمكن العثور عليه، فلم يبق لعبد السلام سوى الالتقاء بأبي الدميم. خاطر بحياته في الذهاب عنده، فأكد قائد القادة لعبد السلام تحويل نصف المليون دولار، وهو يريه التيلكس. قال له عبد السلام كل ما كان يعلم بخصوص الزعيم الدرزي.
- طز فيه! استشاط أبو الدميم. نحن لسنا في حاجة إليه.
استغرب عبد السلام:
- كمال مكلف بتغطية "مؤخرتنا"، إذا أسقَطَنَا صار سهلاً على أبي أرز القضاء علينا.
أشار زعيم الزعماء بإصبعه إلى عاهراته في ألبستهن العسكرية:
- اختر له واحدة منهن، سلام سَلِّم، واقفل الموضوع بالتي هي أوسخ!
في تلك اللحظة، تدخل الصحفي ماجد. أعلن أنه سيكتب مقالة عن الموضوع لتنبيه الرأي العام، فقبله أبو الدميم من ذقنه، ورجاه أن يبقى هذا الموضوع ما بيننا، فالرأي العام رأي البلهاء الذين لن يفهموا شيئًا. "ستزيد حياتنا تعقيدًا لأجل لا شيء"، ختم بصوته الأبح. عينه مسئولاُ عن "الثقافة الفلسطينية في المنفى"، وكلفه بمهمة في القاهرة.
اختار عبد السلام عاهرة كانت تشبه فاطمة إلى حد ما، وذهب بها عند كمال. عندما وصل إلى الطرف الآخر للشارع، رأى أبا مزة، وهو يحاصر شقة أبي الدميم، ولم يتأخر أبو الدميم عن الخروج مع الكتائبي حافيًا مطأطئ الرأس من الخزي. كنا نريد التدخل لصالحه، لكن عدد أعدائنا كان كبيرًا، ففضل رئيسنا ألا نفعل شيئًا. أخرج من جيبه التيلكس الخاص "بكنزه"، وضغطه بأصابع متلهفة للثروة والهوس. أعطى أبو الدميم لأبي مزة مفاتيح سيارته المرسيدس المصفحة، فأخرجها من الكراج، وبإشارة من رأسه، جرَّد رجاله رئيس رئيسنا من ملابسه، وغادروا المكان، وهم يطلقون صيحات الحرب كالهنود الحمر. أفرغوا أمشاطهم في الهواء، وأبو الدميم باقٍ هناك، في وسط الشارع، كالدودة عاريًا. حاول تغطية عريه بيديه، بقدميه، دون أن ينجح. راحت مجنداته يسخرن منه، فسبهن، وأمرهن بستر عرضه. حملنه، وهن يقهقهن، كالنُّصب التَّذكاري، وصعدن به الدرج.
كان هذا إذن الهجوم المفاجئ على مسكن أبي الدميم. لم يكن لقتله أو لأسره، لكن للاستيلاء على سيارته المصفحة. لم يكن أبو أرز يفعل سوى إشباع نهمه في جمع سيارات اللوكس، أو ربما إرضاء جيبه في بيعها لما تقل الدولارات لشراء أسلحة جديدة.
قدم عبد السلام العاهرة لكمال الدرزي.
- اعتبرها هدية صغيرة، قال له، بانتظار أن أطلب يد فاتنة لك.
فحص المومس، وهو عابس. فجأة، انشطر وجهه عن ضحكة تشنجية.
- النبي قبل الهدية! النبي قبل الهدية! عمل.
غير أنه أوجب أن يخطب فاتنة إليه عما قريب. أمر رجاله بتشديد القتال، وشد أزرنا من ظهرنا.
عند عودة عبد السلام إلى تل الزعتر، لاحظ أن معنويات المخيم كانت في الحضيض. كانت الأمهات التعسات يردن ذبح أطفال أبي أرز أنفسهم، وبطرس الأحمر يلعن بصوت واطئ. أرسل القائد الفلسطيني من وراء أبي المشارق، فقيل له إن من المتعذر دومًا العثور عليه. عندئذ، باح لصديقه الشيوعي:
- لن يلتئم جرح المخيم إلا إذا فتحنا جرحًا مماثلاً في بيت أبي أرز.
كرر بطرس رفضه، وذهب غاضبًا.

يتبع الفصل التاسع...