الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 49


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5109 - 2016 / 3 / 20 - 11:57
المحور: الادب والفن     

4 – بِنية الإخفاق وبِنية النجاح

أ – بِنية الإخفاق:

تفترض كل بِنية علاقة بين عاملين: التطور التاريخي والعناصر المشخصة المحللة (40)، وإذا كان في العالم الأول تطور زمني، ففي العالم الثاني تطور لغوي، وهو "مجمد" في وضعه بالنسبة للأول، لانتمائه إلى تاريخ فترة محددة. بالمقابل، يمكن هذا العالم أن يتطور داخل أعمال الكاتب، ويصاحب تطوره تطور المضمون الذي يعبر عنه. ينطبق هذا التحديد على بِنية الإخفاق التي يمكننا أن ندرسها تاريخيًا ولغويًا، وبكلام آخر، يمكننا أن ندرس تكونها.

كيف تظهر بِنية الإخفاق عند غسان كنفاني؟

بسبب مولدها مباشرة بعد نكبة 48، فهي في شكلها ومضمونها قديمة منهكة وقاتمة، تقوم وظيفتها على تجسيد وضع تاريخي جديد، ألا وهو المنفى. وهي تتحدد على مستويين، مستوى الإخفاق خارج فلسطين خلال حاضر البطل، ومستوى الإخفاق داخل فلسطين خلال ذكريات البطل، فانقسمت بِنية الإخفاق إلى بِنيتين متداخلتين في زمنين متداخلين تم التعبير عنهما بواسطة أحاسيس وصور.
تتشخص صور البِنية العميقة للإخفاق، على المستوى الأول، في (41) "غرفة بجدران عالية" (ص 43)، "منعزلة... بعيدة عن قريتي" (ص 53)، "أرضها متسخة" (ص43)، فيها "غطاء موسخ" (ص 44)، وصورة بومة لها "ريش رمادي... قذر..." (ص 45)
القذارة إذن والعراء هما اللذان يعكسان حالة الإخفاق بعيدًا عن القرية، ويأتي الجو المفجع الذي هو عنصر هام من عناصر هذه البِنية ليزيد من حدة الصورة: "منتصف الليل" (ص 44)، "الضوء الشاحب" (ص 44)، "العينان الغاضبتان الخائفتان تخترقان الظلمة وتحدقان فيّ" (ص 44)، "وتمزق الصمت الميت تحت الصرير الحاد الذي كان ما يزال ينحدر من المنقار الأسود المعقوف" (ص 45)، "المنقار المعقوف كنصل عريض لمنجل أسود" (ص 45)، "الضباب المتكاثف" (ص 45).
يجرى التعبير عن العقم الذي صار إليه البطل بصور "في غاية البشاعة" (ص 44)، تعطي بِنية "مصورة" تقوم بين عناصرها علاقات متبادلة، فمثلاً: الغرفة البعيدة توحي بالفراغ، والفراغ يوحي بالخوف. والعكس بالعكس، يعيدنا الخوف إلى الفراغ والعزلة.

الآن ما هي الأحاسيس التي تثيرها بِنية الإخفاق على المستوى الأول؟

"الإحساس بالوَحدة والعزلة" (ص 43)، "الخوف البائس" (ص 44)، "استحالة النوم" (ص 45)، "دُوار مفاجئ" (ص 45). تمامًا مثل الصور، توجد الأحاسيس في عَلاقات متبادلة تتجه في كليتها نحو لحظة ماضية "ليس فيها سوى الاختيار بين الموت والفرار" (ص 44)، لتنشلّ فيها –إذ تم الاختيار اختيار الفرار سواء أكان قسريًا أم غيره- مما يفسر أن الإخفاق بعيدًا عن أن يحرض البطل، يبحث بالأحرى عن وصمه بالعار.
نجد أن لهذه البِنية عَلاقات سياقية بين شكلها (الصور) ومضمونها (الأحاسيس): فالغرفة ذات الجدران العالية توحي بالإحساس بالوَحدة، والعَتَمة تثير الخوف البائس.

أما بِنية الإخفاق على المستوى الثاني، أي القائمة في فلسطين، فقد امتصتها بِنية المنفى، يعني ذلك أنها منظورة عَبر مرارة المنفي، والمنفي لا يرى فلسطين إلا من زاوية الإخفاق عندما نقرأ:
"قرية صغيرة... حاراتها موحلة" (ص 46)، "ساحة الموت" (ص 45)، " البنادق العتيقة" (ص 46)، "أشباح نسوة منحنيات يسحبن جثثًا" (ص 47)، "درج عتيق" (ص 48)، "باب عتيق" (ص 48)، "صوت العجوز" (ص 48)، "التينة العجوز" (ص 51).
أي مشهد محزن ومكدر لهذه الفلسطين العجوزة العتيقة المدمَّرة! إن اختيار كلمات مثل موت، جثة، عتيق، ترتبط بعهد اكتمل، وفي الوقت نفسه، تجد معناها من المنفى. من هنا كان التقارب بين وضع المنفى هذا والوضع الذي كان موجودًا قبل عام 1948.
نفس الشيء، تشكل صور فلسطين الضائعة فيما بينها عَلاقات سياقية متبادلة: ساحة الموت تذكِّر بالجثث، وهذه الجثث بالقرية البائسة الموحلة... إلى آخره، فليس من الممكن للأحاسيس غير مكابدة الألم أمام هذه الفلسطين التي لا تُعرف بسهولة:
"لا أعرف في أي يوم وقع الحدث" (ص 46)، "وحين نظرنا من خصاص النافذة الواطئة شاهدنا كمن يحلم" (ص 47)، "وكان يستطيع المستمع بإمعان أن يلتقط صوت نشيج مخنوق" (ص 47)، "فراودني شعور بالخوف" (ص 51)، "خوف أسقط ركبي" (ص 52)، "خوف غريب" (ص 52).
يفسر الخوف العام جو الهزيمة، والواقع أن الهزيمة لم تكن من صنع المنفي: "وكنا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت فلسطين تتساقط شبرًا شبرًا وكيف كنا نتراجع شبرًا شبرًا" (ص 46)، الإخفاق من صنعه، لأنه ترك "التحدي الباسل" للبومة الصامدة، وانساق مع الفِرار: "وعلى إيماضة قنبلة بعيدة، شاهدت في عينيها ذلك التحدي الباسل، الخائف بعض الشيء، ولكن الصامد لضغط لحظة اختيار واحدة بين الفِرار والموت." (ص 52)
وعندما يتأمل المنفي من بعيد أوضاع بلده، يعاني من الشعور بالذنب: هل عرف كيف يدافع عن وطنه؟ أو أنه سلم السلاح مبكرًا؟ لماذا لم يستمر في المقاومة؟ أم أنه فضل الهرب؟ هنا أيضًا للأحاسيس علاقات متبادلة: القلق يبعث على الخوف، الخوف يشلّ الإنسان، ويقوده إلى الضياع، والعكس بالعكس. هكذا توجد الأحاسيس المتولدة عن الصورة الملطخة لفلسطين في علاقة سياقية معها: القرية التي تموت تقود إلى الشعور بالخوف المشلّ.
يقود هذان المستويان لبِنية الإخفاق، في فلسطين وفي المنفى، واللذان هما في الحقيقة متطابقان، إلى الاستنتاجات التالية: عندما كان لا بد من الاختيار في فلسطين (الفِرار أو الموت) اختار البطل الفِرار، علمًا بأن الفِرار أعطى المنفى، الموت في المنفى، أعطى الموت، الموت المجاني الذي يخسر الوطن، وليس الموت المعطائي الذي يحفظ الوطن. إن الفِرار أو الموت هنا (أي في المنفى) متماثلان لمن ضاع، فكيف يمكن أن تكون هذه البِنية بصفتها عملية متطورة؟
تمامًا مثلما هو عليه في مرحلتي الإخفاق، يعيش البطل المنفي في جو معتم: ظلام غرفته الباردة، القرية الموحلة في الظلام. كذلك فإن المشاعر التي يبثها الوسط هي أيضًا متشابهة، نختصرها في مصطلحين: الخوف اليائس/الخوف المشلّ. هذه هي السمات الأساسية لبِنية الإخفاق عشية وغداة اغتصاب فلسطين.

أما الآن فما هي حال هذه البِنية بعد عشرين سنة؟

طبعًا تطورت هذه البِنية بتحديديها التاريخي واللغوي: أعطت معاناة الشعب الفلسطيني في المنفى وانطلاقة المقاومة عام 1965 ميلادًا لشكل جديد من الوعي، تم التعبير عنه جماليًا بلوحات أكثر تلوينًا، وبجو أكثر تحررًا، بواسطة بِنية نطلق عليها بِنية الانتقال نحو النجاح.
لندرس هذه البِنية من زاوية "ما تبقى لكم" (42)، حيث تدخل العناصر البِنيوية الجديدة في صراع مع القديمة لتقترب من الأزمة الأخيرة. بكلام آخر، من انفجار بِنية الإخفاق.
يوجد البطل المنفي في حالة معاكسة لسابقتها، فهو يقرر قطع الصحراء، في طلب أمه، وعليه أن يمضي من مرحلة المسيطَر عليه إلى مرحلة المسيطِر على ذاته. تفسر تردداته الأولى جيدًا أنه رجل ضعيف على الرغم من كل شيء: "وفجأة انتابه الدُّوار" (ص 161)، ولا يتلاشى خوفه إلا تدريجيًا بعد أن يألف الصحراء والظلام: "وفجأة ذاب الخوف وسقط." (ص 168)

أية لوحة لدينا أمام أعيننا؟

الصحراء تحترق بشمس تحتضر، والمنفي يتقدم وحيدًا لمواجهة تحدي الطبيعة، وهكذا لم تغرق البِنية المصورة مباشرة في العَتَمة: "قرص الشمس معلق على سطح الأفق... يذوب كشعلة أرجوانية... غاصت الشمس كلها... "بدأت الخطوط المتوهجة تتراجع أمام نزول السماء السوداء..." (ص 161)
يقابل تداعي الألوان هذا تداعي الخوف الذي يعاني منه البطل، فالطبيعة (الصحراء هنا) بعيدًا عن أن تعرقل خطوات الفاعل تفتح له الطريق تدريجيًا إلى عالم مفتوح وواضح في النص التالي: "ومن بعيد ترامى إليه الهدير، فبدا له شيئًا متوقعًا تمامًا، ليس بمقدور أي شيء في هذا المدى المبسوط أن يكون مفاجئًا، ليس بوسع أي شيء إلا أن يكون صغيرًا وواضحًا وأليفًا في هذا العالم الواسع المفتوح على وسعه أمام كل شيء..." (ص 169)
التوقع، الوضوح، الألفة، في عالم مفتوح على وسعه، كل هذا، يزيل كل خوف. أضف إلى ذلك أن الطبيعة ليست مهربًا أو وهمًا بل ملاذًا وبطلاً مشاركًا في الكفاح الصعب، لهذا تماثل الصحراء مخلوقًا حيًا عندما يقدمها الراوي بالوصف التالي: "وفجأة جاءت الصحراء... مخلوقًا يتنفس على امتداد البصر..." (ص 161)

لنعد الآن إلى ملاحقة تداعي الصورة وتداعي الشعور داخل الوَحدة التي تجمعهما:
كلما تقدم البطل/الفاعل في الصحراء تَسْوَد السماء إلى أن يسقط الظلام تمامًا: "سقط الظلام تمامًا الآن وسقطت معه ريح باردة صفرت فوق صدر الصحراء" (ص 168)، ذلك لا يعني ليلاً مقلقًا مغمًا ولكن مساء يوم جديد: "إن عليه قطع أطول مسافة تستطيعها ساقاه الفتيتان قبل أن يبزغ الضوء المبكر" (ص 173)، أن يقطع أطول مسافة: هذا يؤكد التطور الحاصل في بِنية الإخفاق، فالمنفي الذي اختار الفِرار –أو كان مدفوعًا إلى اختياره- وعرف الركود، يعيد الثقة إلى نفسه: "عرف أنه لن يعدو" (ص 162) "مستشعرًا ذلك الإحساس الذي كان يملؤه دائمًا حين كان يلقي بنفسه في أحضان الموج: قويًا وضخمًا ويتدفق صلابة..." (ص 162) إنه إحساس الواثق العازم.
كذلك، يتم التعبير عن الحدة السيكولوجية التي تظهر في بداية الرحلة بحدة لغوية: اختيار الكلمات، تنوع الألوان، وهي إيحائية في هذا الصدد، تحوي أيضًا صفة زمنية مثل: الغروب، الليل، الفجر، بشكل مواز للحالة السيكولوجية للمنفي مثل: دُوار، هدوء، أمان. يمكن كلمة "السقوط" أن تكون تعبيرًا عن سقوط الظلام مثل سقوط ماضٍ مظلم، وانبساط الصحراء مثل انبساط العالم الذي ينفتح أمامنا، هذا وللألوان المتداعية صِلات وثيقة بنقصان الحدة.
تلتقي كل هذه العناصر الفنية المشخصة في اللحظة التي يتحقق فيها الذوبان بين المنفي والطبيعة حسب هذه الاستعارة: "أحسَّ بها تحته ترتعش كعذراء" (ص 169)، "فغرس أصابعه في لحم الأرض وذاق حرارته تسيل إلى جسده" (ص 169) شيء مهول كل هذا (الذوبان)، فالعَلاقة عَلاقة كل العقد الرجولية (الإحساس) التي يفكها كنفاني فوق فرج خجول (الصورة)، لكنه في الوقت ذاته ماخوري (الصورة) كمرادف لعذري (الصورة).
هنا تلتقي عناصر الزمان الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، لتشكل وَحدة واحدة. ففي اللحظة التي قرر فيها المنفي مواصلة طريقه أصبح الفعل الماضي دافعًا لفعله الحاضر، وَذَلَّلَ الفعل الحاضر بدوره عقبات المستقبل. بكلام آخر، مَوْخَرَةُ العذرية في علم المعنى لا بد أن تمضي بالزمن السائل كماء العذراء قبل أن تتحول إلى مَوْخَرَةِ الوطنية، فلا يظهر الزمن التاريخي إلا عندما يلتقي الفاعل بالجندي الإسرائيلي، والواقع أن العدو، وفي عرضنا الدلالي، العذري المموخر، هو الذي يضعنا في السياق الحقيقي للمنفى، وبالتالي للإخفاق، ولكن لسبب جوهري، ألا وهو تطور المنفي الذي تحرر من عقده الرجولية، هذا التطور الذي يرتد إلى الجندي الإسرائيلي، فيتحرر بدوره من كل عقده الرجولية: لا يعود الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر، بل على العكس: "خيالاً... فيه روح شبحية" (ص 205)، وبكلام آخر، شخصًا يمكن قهره: "وفي اللحظة التي أمسكتُ فيها عضديه بكفيّ، وأنا أضغط جسدي فوقه، تيقنت أنني أقوى منه" (ص 205)، ويأتي من هنا انقلاب الأدوار: "أخذ (الجندي الإسرائيلي) يحدق حواليه مذهولاً" (ص 206)، "فرفع رأسه وحاول أن يستشف الظلمة..." (ص 207)، و "ظل وجهه متجهًا إليّ غامضًا ومترددًا وشاكًا بعض الشيء، ولكنه كان خائفًا بلا شك" (ص 208)، بينما المنفي الفلسطيني يقول: " أما أنا، فكنت قد تجاوزت الخوف إلى شعور غريب لا يفسر." (ص 208)
هنا نصل إلى ذروة الأحداث، هذه الذروة المتمثلة بالمَوْخَرَة كبِنية إنسانية، كبِنية طبيعية: في الوقت الذي يتأكد فيه وعي الفلسطيني وعيًا حرًا متحررًا من عقده الرجولية والتي عقدة المنفى إحداها وليست كلها، يبدأ الصبح بالانبلاج: "وانبثق الضوء فجأة... ومن جديد، عاد الدم ينساب في عروقي مرة أخرى" (ص 225) كناية عن دم العذراء أو العاهرة.
هذه تؤدي إلى خلق تلك كاتجاه جديد والعكس بالعكس، لهذا نحن نرى رؤية الفيلسوف البولوني ستيفان مورافسكي، أن "الاتجاهات القديمة... التي أصبح لها وجود في أبعاد الزمان طويلة كانت أم قصيرة (قد أدت إلى خلق) اتجاهات جديدة تؤدي هي أيضًا إلى ظواهر فنية جديدة" (43). بناء على ذلك، تتفتت بِنية الإخفاق فاتحة الطريق أمام بِنية أخرى جديدة، بِنية النجاح، عندما يتأكد للمنفي ما لا يريده ككود للعذرية، نقول ما لا يريده: "أن المعجزة التي ينتظرها (الجندي الإسرائيلي) ستعني، في اللحظة التي ستأتي فيها، حتفه." (ص 212)

ب – بِنية النجاح

بِنية النجاح مبدئيًا هي نفي بِنية الإخفاق، وهي الظاهرة الفنية المتولدة عن أزمة نظام الإخفاق كما رأينا، لها شكل ومضمون زمانيان ومكانيان، لكنها تتراوح بين انفصال واتصال، فلنحللها في الفصل التاسع والأخير "البنادق في المخيم" من رواية "أم سعد" (44).
العُنوان نفسه إيحائي، نحن في مخيم منتصر، حيث سيقوم الفدائيون بعرض مع بنادقهم. لم تتغير "الأكواخ الواطئة" (ص 331)، "الممرات الموحلة الضيقة" (ص 332)، إلا أنها لا تؤسِّن بالبؤس سكان المخيم، بل على العكس نجدهم يعيشون حياة أخرى في حركة، تعبر عن ذلك أم سعد بقولها: "أما الآن فقد تغير كل شيء..." (ص 331)، "صار للعيشة طعم الآن، الآن فقط." (ص 334)
الانفصال والاتصال لبِنية النجاح واضحان، انفصال بين مضمونين وشكلين زمانيين ومكانيين يمثلان البؤس والازدهار، فتتجاوز التعبيرات الخاصة بالازدهار الأخرى الخاصة بالبؤس، لننتقل من مستوى واطئ إلى مستوى عال يتركز في فعل طبقة من الشخصيات: "أطفال المخيم وبناته ورجاله يقفزون عَبر النار ويزحفون تحت الأسلاك ويلوحون بأسلحتهم." (ص 332) ليس هناك ما يمكن أن ندعوه "تعقيدات" في السرد، بل بساطة، وعلى عكس ما يظن البعد، بساطة سارت بالنص على غير هدى، فكانت بِنية الحَيَدان، ونقصد بالحَيَدان القفز بالنص بعيدًا عن مساره كأفعال لطبقة من الشخصيات والذهاب به إلى فعل شخصية واحدة، أم سعد: "وتدفقت الدموع من عيني أم سعد وهي منصرفة كليًا إلى (ابنها الثاني) سعيد... يهز البندقية في وجه الرجال المحتشدين هناك، وتلتمع جبهته مع ضوء الشمس." (ص 333)
إنه الانفصال في الاتصال، فليست هناك دموع أخرى غير دموع أم سعد التي تتدفق على مثل هذه الطريقة، وليست هناك جباه أخرى غير جبهة ولدها التي تلتمع بضوء الشمس على مثل هذه الحدة. طبعًا يحاول الراوي أن يعوض نفسه عن التعقيد السردي بالتبسيط السردي لكنه لا ينجح في السيطرة على ذلك، وتفلت منه العناصر السردية العناصر الجمالية بعد أن يَنْصَبَّ كلُّ هَمِّهِ على إبراز أن سكان المخيم يعون التحول القائم، فَهَمُّهُ الشعور بالوعي لا وعي الشعور، عندما يعرض لأسباب التحول ومن كان من ورائه: "إنه سعد مع الفدائيين في الأغوار" (ص 334) و "هذه المرأة تلد الأولاد فيصيرون فدائيين" (334) "كل واحد مهم يحمل مرتينة أو رشاشًا" (ص 335). الحَيَدان هنا في التراكيب التعبيرية ليس في تلاحقها وإنما في وَحَداتها الدلالية التي تركز على ما معناه أن الفدائي الذي طُرد من أرضه عام 1948 وذاق مرارة المنفى ها هو يعود وفي قبضته بندقية ليحرر وطنه وشعبه، وبالتالي ها هو يصبح المِحور الأساسي لبِنية النجاح، بينما وَحدة الدلالة تمنع هذا المعنى لترقى به إلى التعقيد الذي ليس هو الغموض وإنما وظيفة لفعل وإشارة لفاعل.
الفعل هو اختيار الكفاح المسلح، والفاعل هو المخيم بمن فيه، لكن النص يبقى على مستوى أفقي غايته إظهار الشعور بالكبرياء: "وقف ملء قامته وأخذ ينظر حوله بكبرياء." (ص 333) "الآن يمشي مثل الديك." (ص 336) فيضيع المستوى العمودي: الكبرياء كفعل لا كشعور، كمضمون لا كشكل، الكبرياء كطاقة محركة لا كمستوى لغوي يعبر عن ليونة في التعابير، فالبساطة ليست بالضرورة الانعكاس المباشر لتأثير المقاومة في أوساط المعدمين والمسحوقين، وليست بالضرورة التحول التاريخي المرافق للتحول اللغوي. حقًا هناك عَلاقات متبادلة بين اللغة والأحاسيس، بين الصور والأحاسيس، لكنها لا تؤكد بالضرورة التحول الطارئ على الشروط الاجتماعية القائمة، فالاتجاهات الجديدة تصطدم دومًا بالاتجاهات القديمة، وبفضل ذلك يُثَبِّتُ الجديد قدميه على الأرض، ويكون الإبداع وليد اللغة والقلم.


المراجع
(40) ستيفان مورافسكي: المطلق والشكل، منشورات كلينكسييك، باريس 1972، ص 183. يعتبر مورافسكي أن التحليل الإرثي مفصول عن التحليل البِنيوي رغم وجود عَلاقات بينهما، بينما وجود هذه العَلاقات قادنا إلى الجمع بين التطور التاريخي (التحليل الإرثي) والعناصر المشخصة المحللة (التحليل البِنيوي).
(41) غسان كنفاني: مجموعة موت سرير رقم 12، المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973، قصة "البومة في غرفة بعيدة" من صفحة 43 إلى صفحة 53.
(42) غسان كنفاني: ما تبقى لكم، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، من صفحة 159 إلى صفحة 233.
(43) ستيفان مورافسكي: المرجع السابق، ص 184.
(44) غسان كنفاني: أم سعد، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، فصل "البنادق في المخيم" من صفحة 331 إلى صفحة 336.


يتبع 5 – اختيار مواضيع روائية جديدة