الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 42


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5102 - 2016 / 3 / 13 - 12:21
المحور: الادب والفن     

السيدة وأم السيدة:

نعرض الآن لشخصية السيدة وأمها: "السيدة شابة جميلة وأنيقة، ووالدتها مبهرجة قليلاً ومتصابية وذات مظهر عدواني إلى حد ما..." (ص 45) يقيم المتهم عَلاقات غير شرعية بالسيدة الحامل منه، فتتهمه بالتخاذل مطالبة بتسوية المسألة بهدوء:
"المتهم: أية مسألة؟ مسألة الدين؟ مسألة المال؟ مسألة أمك؟
السيدة: كل هذه المسائل.
المتهم: لنبدأ بمسألة الجنين. يجب أن يموت بالطبع.
السيدة: نقتله بالمناصفة، مئة ليرة منك ومئة مني.
المتهم: ليس لدي مئة قرش أشتري بها رغيفًا." (ص 49)
ثم يقترح عليها أن يتزوجها لأن:
"المتهم: ...العالم واسع ومليء بالفرص.
السيدة: مليء بالفرص! هل تستطيع أن تقول لي ما الذي قضى عليك إلا هذا الهراء؟... إن العالم صغير. إنه أمي وغرفتك ومئتا ليرة، هذا هو العالم." (ص 49)
نستنتج من باقي الحِوار أن العلاقات المادية وحدها ما تربط السيدة بالمتهم، والنقود هي محور وجودها (مئتا ليرة هذا هو العالم)، وهي العنصر الذي يقطع نسق حياتهما كزوجين. هذه العَلاقات القائمة على تصورات خاطئة: النقود، الدين، الوسط الاجتماعي الزائف، كل هذا عبارة عن نتاج عالم يقوم على اللاعدل والاضطهاد. (بِنية إلغاء التماثل)
وتبدو السيدة عفنة بالقواعد والأصول التي تحكم وسطها: مستعدة لإنقاذ المظاهر (الإجهاض) وفوق ذلك، ليس لأنها تدرك إمكانيات عشيقها المحدودة، ولكن لأنها ترمي إلى انتزاع مئة ليرة من حصته. إنها ترفض حتى الزواج منه، مما يفاقم من حدة لا تأنيس عالمها الضيق واصطناعيته. (بِنية إلغاء الاستدلال)
أما عندما تقترح الشركات الكبرى على المتهم المبالغ الطائلة من أجل شراء الشيء، فالسيدة تأتي عنده لتصحيح سلوكها:
"السيدة: دع والدتي خارج الموضوع الآن. ألستَ ترى الأمر بالوضوح الجدير برجل عاقل مثلك؟ ما الذي ستفعله بهذا الشيء؟ إنه عديم النفع بالنسبة لك، ولو بعته لأتحت الفرصة لكسب علمي هائل للعالم كله، ولأنقذت نفسك في الوقت ذاته، وعدت على سجادة حمراء إلى العالم، إلى الناس، إلى الحب، إلى كل شيء." (ص 58)
يصبح المتهم الآن "رجلاً عاقلاً"، يمكنه أن يقدم خيرًا للإنسانية، بينما لم يمض وقت طويل على طعن السيدة فيه واتهامه بالتخاذل واللامسئولية. أضف إلى ذلك أن عالمها الذي كان يتشكل من "الأم وغرفة المتهم ومئتي الليرة" لا يحوي في الوقت الحاضر إلا "المتهم والحب"، هذا الحب الذي غدا قادرًا على إعطائه فجأة!
لقد جرى انسلاخ السيدة بأفكار مسبقة، فبالنسبة لها يمكن شراء السعادة بالنقود، كذلك فإن النقود خالقة للحب، وهي التي تجعل العالم أكثر جمالاً! (بِنية إلغاء الإيجابي)
أما أُم السيدة، فهي تبدو معادية للمتهم منذ البداية، لا تسعى إلى تليين سلوكها معه، بل على العكس، تترقب الفرص لمهاجمته. سبب عدائها الوسط الاجتماعي للمتهم.
"الأم: (تخاطب السيدة) قلت لكِ منذ البدء إنه رجل دون مستواك. انظري كيف يستقبل سيدتين وهو بملابسه الداخلية. إنه عديم الذوق، وفي الحقيقة إنه داعر." (ص 61)
نلاحظ هنا أن المظاهر هي أيضًا عامل هام للأم: أن تكون غنيًا، أن تستقبل الناس برداء حسن، أن تمتهن شتى أنواع التدليس لتصبح ذا ذوق، كل هذه هي معايير إثبات الشخصية، لأن الغني هو الذي يفرض احترامه في عالم يقوم على الجشع والسباق من أجل الربح، وهذا بالذات ما يصارع المتهم ضده. (بِنية صون الاختلاف)
فوق ذلك، تستعمل الأم لغة رقم1 ورقم2 نفسها لتلصق بالمتهم سيء الصفات وسيء النوايا:
"الأم: أقول لكِ دائمًا إنه مجنون، وأنت تضعينني مرة بعد مرة في هذا الموقف المهين، انظري إليه كيف يسخر مني! يا إلهي! كيف يمكن التحدث إلى هذا الرجل الأفاق؟..." (ص 63)
لأن المتهم يقول أشياء معقولة أعمل فيها الفكر اعتبرته مجنونًا، لكن عندما تعلم أن الشركات تتنافس فيما بينها على شراء الشيء منه تمارس لعبة الحماة المتفهمة، وتقول مخاطبة ابنتها:
"الأم: في سبيلك فقط يا ابنتي المسكينة سأتحمل كل حظي التعس." (ص 63)
فتتحول عن رأيها، ليس التحول في الكيف الذي يقتضي التغير. (بِنية صون الاستبدال)
ولا يبدو السبب الحقيقي لكل اللعبة إلا عندما تكشف:
"الأم: ...إن عالِمًا كبيرًا يعرض عشرة آلاف ليرة ليلقي نظرة على ذلك الشيء الغامض مدة نصف ساعة، وأنا متأكدة، بل إنه هو نفسه قال لي، إنه سيدفع عشرة أضعاف هذا المبلغ إذا رَغِبْتَ في بيع ذلك الشيء." (ص 63)
هنا يتضح كل شيء، ونفهم بالطبع أن الكوميديا التي تلعبها الأم ليست إلا من أجل إقناع المتهم ببيع الشيء. (بِنية صون السَّلبي)
لنذكِّر بأن هاتين الشخصيتين ثانويتان، يتوقف دورهما على دور رقم1 ورقم2، ودورهما تابع، يأتي ليدعم أفكار عالم الأوساط المسيطرة.

الشرطي:

لا يتكلم أبدًا، وهو "مكلف بتحريك الحاجز بين الفينة والأخرى. لا ملابس رسمية، ولكن صرامة الرجل الرسمي المكلف. ولا تعاطف، وغالبًا لا يلفت نظرَ أيٍّ من أشخاص المسرحية، ولا يقاطع أحدها وحوار أبطالها." (ص 46)
حضوره إذن لا يؤثر في مجرى الأحداث، لأنه ذائب في ظل رقم1 ورقم2، بُرغي تافه في ماكينة الأوامر. (بِنية الحضور والغياب)
نحس عَبر المسرحية بأنه يقوم بحركات ميكانيكية:
"يتقدم الشرطي بهدوء، ويحرك ضلع الحاجز المواجه للجمهور، وينقله على محوره إلى الجهة المقابلة، فيبدو القاضيان الآن في القفص والمتهم دونه." (ص 46)
الواقع أن هذا الشرطي يشبه الشيء، فهو مجرد من الشخصية، مجرد من الإرادة، يتبنى أفكار الوسط الرسمي دون أن يحاول بعض التفكير. وكذلك بصفته أداة منفذة، يصبح أداة دعاية، سيفًا قاطعًا وفي الوقت نفسه دعائيًا يمكن إشهاره من حين إلى آخر، حَسَْب الحاجة. (بِنية الغاية والوسيلة)

ساعي البريد:

"يلبس ملابس عادية ويتميز بقبعة رسمية فقط، ولا يحمل حقيبة، وشديد الفُضول." (ص 45)
تدفعه حياته الرتيبة إلى التصرف الميكانيكي، تمامًا كالشرطي، فنجد في هيكليته ما لم نجده عند الشرطي من تفاهة، ونسمعه يُعَبِّر بمصطلحات خاصة بمهنته. (بِنية الاستثناء والقاعدة)
وهو بالتالي بارع في التحريك الآلي:
"الساعي: برقية لك (يتناولها) وقِّع هنا (يوقع) اكتب اسم والدتك هنا (يكتب) أعطني سيجارة (يعطيه) أشعلها لي أرجوك (يشعلها) أوف!" (ص 70)
ولأنه بطبيعته فُضولي، فهو يعرف كل أخبار الناس الذين لا علاقة له بهم، وكأن ذلك من أجل أن يملأ وَحدته القاسية. (بِنية إلغاء الحضور)
لننظر كيف هو حضوره في العالم وعمله فيه:
"الساعي: ...إنني أشكو من مرض خطير يتعلق بعملي، مرض لا شفاء منه. في حين أن مهنتي تقتضي مني أن أكون أقل الناس فضولاً فإنني على العكس أكثر فضولاً (يشير إلى البرقية في يد المتهم) إنني محكوم بالعذاب (المتهم ينظر إليه بفُضول) إنني سريع التأثر ولكنني أمين أيضًا. وبعد أن أنتهي من عملي أذهب إلى البيت (يقترب منه) إنني أعيش وحيدًا كما تعلم. وأتذكر وأجلس وأبكي وأضحك ويستثيرني الفُضول وأحيانًا أفكر." (ص 70)
يثير ساعي البريد بسلوكه الشفقة لدى من يستحق الشفقة وبفُضوله الفُضول لدى من يستحق الفُضول (ما ندعوه "عدوى الشخصية" أو بِنية إلغاء الغاية)، إنه أيضًا نتاج هذا النظام الذي يقسم العالم إلى طبقات ثابتة تقريبًا (بِنية إلغاء الاستثناء). لقد أتلف الروتين اليومي كل روح المبادرة عند ساعي البريد، وجعل منه إنسانًا مقولبًا (وقِّع اكتب أعطني... ولا يكف عن ترداد "إنني")، مع أن ذلك يتناقض مع مظهره البسيط.

حتى هنا، استطعنا ملاحظة أن شخصيات المسرحية التي لا تحمل اسمًا وغير المحددة تصل إلى درجة عليا من فقدان الشخصية (بِنية صون الغياب). لقد كان دورها نقل حالية الواقع، فالمتهم والشيء والسيدة ووالدة السيدة والشرطي وساعي البريد هم "ضحايا" بعيدًا عن المعنى الأخلاقي للكلمة (بِنية صون الوسيلة)، وفي الوقت نفسه نتاج النظام القمعي القائم (بِنية صون القاعدة)، بينما رقم1 ورقم2 هما دِعامة هذا النظام. مما يقودنا إلى القول بأن الشخصيات "قد تم بناؤها تبعًا للأفكار" (59) بصفتها أرقامًا للحَبكة. إنها رهينة هذه الأفكار، تتحرك ضمن دائرتها، إلى أن تنجز جدليًا –تنجز الشخصيات المقموعة فيها- عملية انطلاقها نحو التحرر.



المراجع
(59) برتولت بريشت: جهاز صغير للمسرح، منشورات لارش، باريس 1970، ص 109.


يتبع 3 – التوازي القائم بين البِنيتين: بِنية المحاكمة وبِنية القتل