الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 22


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5082 - 2016 / 2 / 22 - 09:44
المحور: الادب والفن     

5 – البنية السردية

أ – بنية الحوار

أبرزنا في الفصول السابقة الخصائص الأساسية لقصص غسان كنفاني التي تُركز حَبكتُها على بطلين، والتي يجري التعبير فيها عن حالة "الوجه للوجه" هذه، على مستوى البِنية، بسيطرة الحوار، حيث نجد النوع الأدبي دراميًا بشكل أساسي، وليس نثريًا.
لا يمنع الشكل المختصر من التعبير عن كل شيء عَبر الحوار المباشر، ويساعد الوصف السردي بِنية الحوار، في حين يشكل في الرواية التقليدية ركيزة الشكل الروائي. ليس هذا الوصف ثانويًا من وجهة النظر التقنية الأدبية فحسب، بل وبالنسبة للدلالة. وهكذا فإن وصف دار البطل، أو تصوير أسواق المدينة، أو الحديث عن تنوعات إحدى الرحلات، لا يمثل كل هذا سوى أهمية قليلة جدًا.
ما يهم كنفاني المواجهة بين موقفين متناقضين، أو بالأحرى "نمطية" هذين الموقفين، لتأخذ بِنية الحوار أشكالاً متنوعة، يمكنها أن تبدو أولاً "حوارًا داخليًا" على شكل رسالة، كما في قصة "ورقة من غزة"، وفي الواقع ليس هذا الحوار سوى قطعة من حوار بين صديقين حول موقفين مختلفين. ويمكنها أن تبدو ثانيًا "سردًا داخل سرد"، كما في قصة "ورقة من الطيرة"، حيث يتحدث الراوي مع بائع الكعك الذي يقص عليه قصة حياته إلى درجة ينسى فيها القارئ أن بائع الكعك يتوجه إلى الراوي بل إليه. هنا، البِنية الأساسية حوار كذلك.
تشير قصة "أبعد من الحدود" إلى الخاصية ذاتها: في القسم الأول يتحدث "الرجل الهام" مع امرأته، ويحكي لها قصة الشاب الذي أوقفوه بعد الظهر، فنحن لا نعرف شيئًا من الراوي بل من الرجل الهام. وفي القسم الثاني، يروي الشاب باقي الأحداث من خلال مواجهة الرجل الهام. علاقة التناقض بين عنصرين مختلفين (الرجل الهام والشاب) هي في الوقت نفسه علاقة تبادل ستؤدي إلى فصل الأسباب عن بعضها، كما يرى جريماس، من داخل نوع دلالي معين، يجعلنا نعتبر العنصر الثاني (الشاب) كتحول للعنصر الأول (الرجل الهام).
غير أن ما نلاحظه من نتيجة لتحول أحد العنصرين هو إحداث تحولات متوالدة على طول القصة، بهذه الطريقة توضح لنا بِنية الحوار الدلالة الحقيقية للتمرد دون أن يتدخل الراوي، كما أنها تعطينا التفسير بأكمله: إن الشاب لا يريد أن يقول لنا كم هو يعاني من بؤس المخيم، وإنما يتكلم عنه ليتحدى الرجل الهام، فتضفي بِنية الحوار على تمرد الشاب دلالته العميقة كلها بصفته مواجهة بين موقفين متناقضين.
كي نحدد إلى أية نقطة يمكن أن تكون للحوار الأولوية على السرد، نأخذ قصة "الأفق وراء البوابة" بفصليها، حيث يسود في الفصل الأول السرد، عندما يقص الراوي حكاية الشاب الذي فقد أخته خلال أحداث 48، مخفيًا ذلك عن أمه، إلى أن يصمم على الاعتراف لها بالحقيقة، ونرى أن المنظور حتى الآن أحادي الجانب، فليس هناك أي حوار، وبالتالي ليس هناك أي تحول ملازم.
أما في الفصل الثاني، فينقلب الوضع رأسًا على عقب، إذ يلتقي الشاب بخالته بعد أن يجتاز بوابة مندلبوم، وتنكشف كذبة مزدوجة عَبر حوار يدور بين الشخصيتين، يظل السرد بأكمله في خدمتهما ليعبر عن مشاعر اللحظة بعد كل جملة، ويتطابق السرد مع منظور كل فاعل، كل بطل، ليكتشف الحقيقة.
يتم اللقاء بين علي وخالته كالتالي:
يريد علي أن يعرف أين أمه بينما تفتش الخالة عن أخته، فالسؤال الذي يولد على المستوى النحوي يصبح علامة استفهام على المستوى الوجودي. تسأل الخالة: "أين دلال؟" (ص 296) يتبع سؤالها وصف سردي ليوضح أهمية السؤال الذي يبدو سهلاً للغاية: "وفي العينين الصغيرتين المترقبتين ذاب كل الإصرار الذي حمله معه، كأن قوة خفية أمسكت بحلقه، وأخذت تهزه بلا هوادة." (ص 296)
يُبرز السرد القلق الذي يحبس الكلمات: يجب على البطل أن يعترف بالحقيقة المُرَّة، وفي الوقت نفسه يخشى أن يقف بدوره على نبأ فاجع. إنه لا يجيب بل يسأل كذلك: "ولكنك لم تقولي لي أين أمي؟" (ص 296)
يشكل هذا السؤال ردًا على سؤال، وكلاهما يعلم أنه يجهل الحقيقة، فالحوار الذي يتم بواسطة تساؤلات متبادلة ينقلب إلى طرح الأكاذيب على بساط البحث عن حقيقتها، هذه الأكاذيب التي كانت سببًا للقاء القاسي.
يتطور التركيب الدرامي تدريجيًا، فنرى كيف يقطع الراوي التساؤل من جديد دون أن يعطي جوابًا، إذ يجب على كل واحد أن يبحث عن جواب لدى الآخر، وهذا ما يفهمه كلٌّ من الفاعليْن أثناء التقائهما: "وتلاقت العيون مرة أخرى، نقل علي السلة من يد إلى أخرى، وحاول أن يقول شيئًا، ولكن حلقه كان مسدودًا بغصة عريضة كأنها نصل معقوف، مدت خالته يدها، فوضعتها فوق ذراعه، وأتاه صوتها مشحونًا بأسى لا يصدق:
- أين دلال؟" (ص 296)
يزيد تكرار السؤال من حدة التوتر: لم يعد هناك جواب بل سؤال موجه ليس إلى الآخر بل إلى الذات. يجيب علي دومًا على السؤال بسؤال:
- "دلال؟" (ص 296)
إن ما كان سؤالاً بسيطًا يصبح لحظة حقيقة عميقة وتساؤلاً ذاتيًا:
"مرة أخرى أحس بالضعف يأكل ركبتيه، وبدا كأنه يدفع عن نفسه إحساسًا بالإغماء، رفع يده ومد السلة باتجاه خالته:
- خذي، هذه السلة لأمي، فيها بعض اللوز الأخضر، الذي..." (ص 296)
تشير النقاط الثلاث إلى عدم استطاعته إتمام جملته، فهو يعلم الآن أنه حان وقت الاعتراف بالحقيقة. حتى الآن، يتَّبع هذا الحوار البسيط "نوعًا مسرحيًا" يعبر بواسطة البِنية عما لا تعبر عنه الكلمات، ويرفع كل سطر من حدة التوتر حتى يصل قمته، فتنحل العقدة، وتنطلق الحقيقة دون أن تُنطق الكلمات. هكذا يأخذ لقاء "الوجه للوجه" الحواري قيمة المعاناة الإنسانية ليجعلنا نكتشف الجوهر وراء المظهر (45):
"ولم يستطع أن يكمل، كانت نظرة فاجعة قد انسكبت من عيني المرأة العجوز، وبدأت شفتها ترتجف، نظر وراء كتفها، وأكمل بوهن:
- ...كانت تحبه." (ص 297)
وهكذا يعترف علي لنفسه بموت أمه، ويفسر اعترافه على المستوى النحوي باستعمال الفعل الماضي: كانت تحبه.
أما الفقرتان الأخيرتان، فتصفان أثر اكتشاف الحقيقة على الفاعليْن دون أن يستطيع كل منهما الكلام: تخفف الخالة من عبئها بالدموع، بينما يسألها علي "كيف تركْتِ يافا؟" (ص 297) وتنتهي القصة بلفتة رقيقة: تضع الخالة ذراعها على كتف علي، في حين يلقي علي نظرة على الأفق الممتد وراء بوابة مندلبوم، رمز الفِراق والحقيقة في وقت واحد.
نعيد هنا ما ذكرناه فوق: إن نتيجة تحول العنصرين، علي وخالته، لهي إحداث تحولات متوالدة على طول القصة، مما يسمح –حسب جريماس- بتأكيد وجود علاقات ضرورية بين العناصر التي تتلازم تحولاتها، كما تم ذلك مع علي وخالته، وعرضناه بالتفصيل، وكذلك مما يسمح بتحديد التراكيب التعبيرية، وبتحديد العناصر السردية، ليس بعلاقات تبادلية نموذجية فحسب، بل وبموضعها ووظيفتها داخل الوَحدة الدلالية للتركيب التعبيري، داخل القصة بكل بساطة، التي هذه العناصر جزء منها.


المراجع
(45) علق سقراط أهمية كبرى على "الحوار" بصفته طريقة فلسفية تساعد على اكتشاف الحقيقة عَبر أسئلة تكون أجوبتها متوارية في صدر كل كائن إنساني: "هذه هي السخرية السقراطية التي لا تعني هزءًا على الإطلاق بل تساؤلاً، وأصلها يوناني (Eironeia) هدفها إيقاظ أو بالأحرى "توليد" المعرفة الموجودة في الذات." (ص 286) قاموس الفلسفة، ديديه جوليا، دار لاروس، باريس 1964.


يتبع ب – المنطق السردي