العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السابع والأخير


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4969 - 2015 / 10 / 28 - 10:58
المحور: الادب والفن     

ومن جديد، ارتدت باريس غلالة الشتاء الضبابية، أنشب الجليد مخالبه في الأرصفة، سميكًا، لكنه أقل سطوة من السنة الماضية، فالنساء لم يلبسن ما يغطي سيقانهن، والرجال لم يرتدوا معاطفهم. كانت باريس على صواب، لتضيعنا الصواب، كما كان وضعنا في كل الفصول، فلم يستطع العابر لشارع بيلفيل حتى الساعة التقدم إلا ببطء وحذر، وإلا تعرض للسقوط والانكسار. كنا طاقتها الإنتاجية، وطاقتها الحركية، وطاقتها الكامنة، ونحن لهذا، كتماثيلها، طوقناها بذراعينا، وانطوينا على أحاسيس سرية ليست مفبركة في مصنع الأحاسيس. ومع ذلك، كنا لباريس الذي هي أعرف به، كشعر الغادة الذي تمشطه، كأظافر العاشقة التي تلونها، كفستان عارضة الأزياء الذي تشلحه. وكانت باريس لنا الذي نحن أعرف به، كصندوق البنك الذي نملأه، كشركات التأمين التي ننشرها، كبردعة الذهب التي نرفعها. كانت باريس نقطة انصهار الجليد في بوتقة فرنسا، كما كانت نيويورك نقطة انصهار الجليد في بوتقة العالم، وكان التنافس بينهما، وبينهما وبين غيرهما من أسياد زمن النعيم في مناطق الجحيم الأزرق والأخرق والأحمق، مناطق يحط عليها ليل رأس المال بقمره الفضيّ. لهذا نظرنا إلى باريس كالمختل العقل، نرى الدنيا نهارًا، والدنيا ليل، ويبدو حي بيلفيل خاليًا، فلا لاعبو قمار، ولا مهربون من كل صنف، ولا عصافير تصيح تعجبًا.
كالمختل العقل، رأينا الحي بحضوره الخاوي مفعمًا.
وبينما أنا أصعد الشارع ببطء وحذر، وأحاول بإصرار ألا أزلق، انفتح باب مقهى مطلع الفجر، ليقذفوا أحد السكارى، فعرفت حسين، الذي يضرب بيديه وقدميه صفحة الجليد بلا جدوى، لينهض.
رأيت وجهه الناقم، وسمعت كلامه المتنافر. ثم مع محاولة قصوى للنهوض، رأيته يخر تحت وطأة وجوده. رفع قبضته في الفضاء، وصاح:
- كلاب الغائط!
ثم هز قبضته مهددًا:
- سأقتلكم جميعًا!
تذمر:
- يا مومس الغائط!
ثم صاح:
- بلد بلا رجال، بلا رجاااااااااال! بلد بلا ثوريين! بلد رجعيين، رجعييييييييييييين!
صفعه البرد، وها هو يهبط الشارع مترنحًا، ويسقط في القمامة. وهو على الأرض، غرق حسين في الأقذار. فتح عينيه، وهمهم: كانت هناك حديقة اسمها الأرض... أغمض عينيه، وهذى:
- لا حل إلا بالحرب! لا كلام إلا بالرصاص... بالرصااااااااااص، يا مومس! لا كلام إلا بالرصاص، يا مومس الغااااااااااااائط! لا كلام إلا بالرصاص، يا مومس العييييييييييييش!
امحت معالمه، وضاع بين الجرذان.
من وراء النافذة، كانت مارتين تراقب قدومي. في اللحظة التي اخترقت فيها الرَّدْب، نَزَلَت للقائي. كانت تحمل فأسًا نحاسية، قروسطوية، جميلة، بديعة، لامعة، بارعة، جامحة، صالحة، تقية، سرية، خيالية، خيلية، جهنمية.
تصادى الرَّدْب مع إيقاع خطوات مارتين، وقبل أن تصلني، قالت لي:
- أرجو أن يكون هذا ما تريد.
رفعتِ الفأسَ عاليًا، وأعطتني إياها. أخذتُها، وداعبتها.
- هذا ما أريد، قلتُ.
- حسنًا.
- أنتِ جاهزة؟
- أنا جاهزة.
- سَنُسَوِّي المشكلة.
- تسوية ودية.
- ليست ودية إلى هذا الحد.
- ليست مؤقتة.
- كل شيء سوى أن تكون مؤقتة.
- كسيولة الهواء.
- كسيولة رؤوس الأموال.
- هل تعرف من هي المرأة التي تُشتهى؟
- جدارٌ كهذا.
- تفاحة.
- سوق.
- فرجٌ حليق.
- منطقة نفوذ.
- مائعٌ أصفر.
- مادة أولية.
- شعبٌ أنثوي.
- الشعوب خراءات أنثوية أم ذكورية على الرائحة العطنة للواحد والآخر أن تبقى أزكى ما يكون، وكجائزة كل العذابات الموجودة على وجه الأرض.
- تصرف إذن على هواك.
- بكل حرية.
- بتبصر ورَوية.
- كسيد.
- كرجل شريف.
- أو لا شريف... أحيانًا.
- كفأس نحاسية.
- معجبة بنفسها.
- تأتي بالعجب.
- في العصر الجليدي.
- في عصرنا هذا.
- العصر الحجري الحديث.
- العصر الذهبي.
- تَعِلَّة...
- تعليل...
- ...تتعللين بها عن خيبتك.
- ...بالأباطيل.
- ما الذي تعنينه بقولِكِ هذا؟
- لا شيء سوى إغرائكَ بالقتال.
- بالهرب.
- بالقتال...
- كما يغري الطبيب البيطري الكلاب على المارة.
- ...بالإقدام.
- إغراء المتعة.
- إغراء الشهوة.
- الخسارة.
- الربح.
- الخسارة، الخسارة.
- الربح، الربح.
- الخسارة، يلعن دين، الخسارة، الخسارة.
- الربح، الربح، الربح.
- أي ربح؟ ربح السفلة الذين يحكمون العالم؟
- ربح الوجود.
اتجهنا نحو الجدار الذي يسد الرَّدْب من خاصرته، بينما تتعلق مارتين بذراعي، وتبتسم بكرم، كما كانت تبتسم يوم زفافنا.
رأينا الجليد يتشبث بالجدار من كل النواحي، أشبه بقرش أبيض آكل للبشر ضخم يفغر فمه على سعته كاشفًا عن أسنانه المشحوذة، قصد التهامنا.
- ضربة واحدة، قلت لها، وتحققين أمنيتك.
لم تتردد:
- فلتفعل.
رفعتُ الفأس عاليًا، أعلى ما أقدر عليه، وتركتُها تهوي على الجدار بقوة، أقوى ما أقدر عليه. في نفس اللحظة، طارت العصافير، وحلقت بعيدًا، عاليًا، اختفت، ثم كالشمس من أعماق الليل بزغت، راجعة، وعلى أجنحتها النقع والنوء، وبمخالبها العاصفة.




خاتمة

أخيرًا، رضخت مدام ريمون لابتزاز متعهدي البناء، الذين أشعلوا النار في مساكننا للمرة الثانية. باعت الرَّدْب، كمعظم مالكي شارع بيلفيل. اقتلعته الجرافات كالشجرة من جذورها، وفي مكانه رفعوا برجًا، واحدًا من تلك الأبراج الجحيمية التي قاطعها الباريسيون، ولم يزالوا، والتي امتلكها "البوت-بيبُل" مقابل قدر كبير من الآلام، ومعهم، كل "العِرق الأصفر" المهاجر، لئلا يختلطوا بالعِرق الآخر، المسمى أبيض.
هكذا بدأ عصر تشاينا تاون مع ميلاد العنصرية.



الكتابة الأولى
باريس 1978

الكتابة الثانية
باريس الأحد 2015.10.25



* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".