العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل العاشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4945 - 2015 / 10 / 4 - 20:19
المحور: الادب والفن     

رشفت قهوتي على المشرب، ومن حولي الهدوء المطلق. كان شخصان أو ثلاثة يشربون الخمر أو البيرة، والمعلمة تجلس خلف الصندوق، وترشف قهوتها المزدوجة. كان شاب جزائري أو مغربي يلعب الفليبر، والمعلم يقطب حاجبيه، ويلمع الكؤوس، بينما ينظف النادل المشرب، فنضطر إلى رفع كؤوسنا أو فناجيننا، كلما اقترب منا. دخل عربي آخر، وحيا المعلم بمرح. ناداه باسمه، بول. حيا المعلمة كذلك، وسألها إن نامت جيدًا، فأطلقت آهة. أحضر المعلم، وهو مقطب الحاجبين دومًا، كأس ريكار للزبون، دونما حاجة له إلى طلبه. كان العربي، الحليق والنظيف، يتجاوز الأربعين بقليل. قال لامرأة المعلم:
- كان بإمكاني أن أربح الرهان المثلوث لو سمعت كلامه!
أراد الحديث عن المعلم الذي وافق على ما يقول، رابط الجأش، ووعد العربي باتباع نصيحته، المرة القادمة. سأله المعلم أين كان أمس، فهو لم يره طوال النهار. أجاب الآخر أنه لا يمكنه المجيء كل يوم، بسبب عمله، فسأل المعلم ثانية إن كان سيذهب إلى العمل اليوم.
- لا، إنه يوم راحتي، قال.
علق المعلم:
- من الشاق العمل وهذا الجليد.
لكن الآخر حكى مزهوًا أنه لا يرفع يديه أبدًا من جيبيه، عندما يراقب فريقًا من العمال الذين يحفرون المترو. إضافة إلى ذلك، البرد أقل تحت الأرض من فوق الأرض! وأعلن أنه سيجيء للعمل في ورشة بيلفيل عما قريب، فهم المهندسون أنفسهم الذين يعمل معهم منذ أعوام.
- هكذا سنراك كل يوم، هتفت المعلمة.
- كل يوم، قال العربي بابتسامة واسعة.
- كل يوم، قال المعلم بالابتسامة نفسها قبل أن يسأل: ومتى، "عما قريب"؟
- عما قريب. وكل يوم.
- كل يوم، عاد المعلم إلى القول.
- شارع بيلفيل ليس قناة سان-مارتن، قال العربي المُدَلل، هنا، لهدم عمارة قديمة، يكفي أن يشتروها. يشترونها غاليًا، لكنهم يقدرون على شرائها. هنا ليست أملاك الدولة، وليست هناك لجان تنسيق، وكل الغائط الذي يتبع!
- كل يوم، همهم المعلم كمن يهمهم لنفسه.
لفتت المعلمة النظر إلى كونه أنيقًا اليوم، ولم أقف جيدًا على ما أبداه المعلم من إطراء، لأن شلة من الرجال، بين سن اليأس وسن النضوج، وصلت كالإعصار، في نفس الوقت الذي هتف فيه العربي:
- ها هم مهندسونا الأكثر كفاءة في العالم!
كان أحدهم يجر كلبة تزحف كالفقمة خلفه.
- اسرعي أكثر، يا مومسي الصغيرة الكلبة! اسرعي أكثر، يا مومسي الصغيرة الكلبة! ردد دون توقف.
حيوا المعلم بصخب، ومزحوا مع العربي، بينما صب المعلم لهم كؤوس الريكار. لاعَبَ العربي الكلبة، قرص أثداءها، وأهاجها لتصرخ، فعوت بقوة.
- لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! ردد الرجل بلهجة هَزِلَة، وانتزع منه الحيوان.
قهقه الآخرون، والتعليقات تنفجر كالصواريخ. ثم عادوا يتكلمون عن الرهان المثلوث، والعربي يحكي لهم، أنه لو أصغى لنصائح المعلم، لحقق ربحًا كبيرًا. سأل أحدهم إذا ما شاهدوا برنامج لست أدري ماذا على التلفزيون أمس مساء، وأجاب آخر أن لا تلفزيون لديه، وهو يعزم على شراء جهاز بالألوان. مع ذلك، ابنه يملك واحدًا أسود وأبيض، لكن، كلما ذهب لزيارته، وجد الجهاز معطلاً. ضحك جاره، وهو يعتمد على عكاز.
- من الأفضل أن يكون معطلاً، قال، أنا لدي واحد، من النادر أن أفتحه، للأفلام، التي لا أنظر إليها أبدًا حتى آخرها، لأنها مملة مَلل المومس، لا يمكنكم تصور كم. أما البرامج، فهي سَلَطة بالفعل، تنتن غائطًا! صاح بعصبية. تنتن سياسة!
فقال أصغرهم سنًا:
- ماذا تريد، يا بابا، كل شيء مسيس الآن.
والرجل يصيح بعصبية دومًا:
- تنتن غائطًا!
- كل شيء ينتن غائطًا، يا بابا، كل شيء مسيس، قلت لك.
- تنتن غائطًا!
- نعم، فهمنا، برامج التلفزيون تنتن غائطًا، وماذا بعد.
- تنتن غائطًا!
- نعم، فهمنا، فهمنا، السياسة غائط!
- أنا، المهندس القديم، اشتغلت سياسة، في الماضي، لكن سياسة اليوم تختلف. في ما مضى، كان لسياستنا المشتركة هدف مشترك: النازية. اليوم، نحن أعداء ما بيننا: مستأجر ضد مالك ضد متعهد! وخلف كل هذا تختبئ الأحزاب: دوجولي ضد شيوعي ضد اشتراكي. نحن نكره بعضنا كره المومس، لا يمكنكم تصور كم.
همهم البعض مؤيدًا، العربي منهم، وللتشجيع، صاح الشيخ بأعلى صوته، وهو يرتعش هذه المرة، ويهدد بعكازه:
- وها أنا الآن أحذركم، نقبل بكل شيء ما عدا أن تصبح فرنسا حمراء. هل تعرفون ماذا، أن تصبح فرنسا حمراء؟ إنه غروب مومس لا نهاية له، سيجتاح حياتنا، لا يمكنكم تصور كم. إنها لجان التنسيق في كل مكان، وليس فقط لجنة قناة سان-مارتن! سينسفون مشروع الهدم الذي أنا واحد من المساهمييييين فيه! كفى ثم كفى! فلننعم بالفوائد الحالية، بدلاً من أن نقضي الوقت في التظاهر، في الإضراب، والمس بالمصلحة الوطنية.
وهذه الأصداء: المصلحة الشخصية... المصلحة الشخصية... المصلحة الشخصية...
وهذه اللهثات: لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة!
وأيضًا هذه اللهثات: لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة!...
خرجتُ عندما رأيتُ أنطونيو قادمًا. سنصل إلى موعدنا باكرًا، لكننا سننتظر أمام المصنع، قرب ساحة "فوج". كان أنطونيو يضع خوذة على رأسه، ليحتمي خاصة من البرد، أعطاني خوذة أخرى، وانطلق تحت سماء صافية كالبلور. كان البرد قارصًا، الدراجة النارية تخترق الريح، والريح تخترق جسدينا، وجسدانا كالجرح. عند الضوء الأحمر، رأيت جرافات تقتلع الجليد عن الأرصفة، وهي تعمل ضجيجًا مصمًا، واقترح إعلان دعائي ضخم: اسكنوا في الهدوء والهواء الطلق! تأملت من جديد جبال الجليد التي يقتلعونها من جذورها، ويلقونها في الشاحنات الضخمة. بدا الجليد أقوى من الجرافات، فتذكرت ما قاله الراديو: الجليد قدري، وكل شيء يتوقف على إرادة السماء! حتى أن بعض الكرادلة أقاموا القُدَّاسات بهذه المناسبة، لطلب الرحمة.
جاءت إيزابيل، وقدمت لنا ألواح شوكولاطة. أكلناها، ونحن نحكي لها حكاية ماري، فأدهشها سماع هذا في موضوع صديقتها. بدا أنها تجهل كل الأمر، وشعرت بالتعاسة على فكرة أن صديقتها المفضلة قد خبأت عنها كل شيء. بما أنها لا تعمل بعد الظهر، اقترحت عليها المجيء لرؤية الأم، فذهبت مع أنطونيو على الدراجة النارية، وأخذت المترو، وكم كان أنطونيو سعيدًا أن ترافقه.
في الدار، طلبت إيزابيل من الأم الذهاب إلى مركز الشرطة، وتحرير محضر رسمي، لأن من اللازم العثور على ماري. كانت الأم في حالة يرثى لها، وابنها يرتمي دومًا في الفراش، إلا أن لا حمى لديه.
رافقتُ الأم إلى مركز الشرطة، وأوضحنا القضية للضابط الذي عاد يسألنا إن كانت ماري قاصرًا. أجبنا أنها بالغ منذ شهر واحد فقط، فعبَّرَ محياه المغلق عما سيقول:
- لا نستطيع القيام بمحاولة أي شيء قبل اثنتين وسبعين ساعة.
- قبل اثنتين وسبعين ساعة؟!
- قبل ثلاثة أيام ابتداء من اختفاء ابنتك، مدام.
- قبل ثلاثة أيام من اخ...
- من الممكن أن ترجع إلى البيت خلال ذلك.
- ...تفاء ماري؟!
- وإلا فلا تترددي عن العودة غدًا.
على الباب، طلب الضابط من الأم:
- هل تعرف شابًا من الممكن أن تكون قد ذهبت معه؟
- شاب؟!
- من الممكن أن تكون قد ذهبت معه.
نفت الأم، وأضافت:
- لنفترض أنها على علاقة بواحد، هل على هذا أن يبرر هربها؟
على طريق العودة، سألتُها لماذا لم تبلغ المفتش بتهديدات أندريه. أجابت أنها لم ترغب في تعقيد الأشياء، لأنها مقتنعة الآن أن لا يد لأندريه في الأمر.
- حقيقة أن تكون ماري قد استطاعت الهرب مع ولد، أيقظت في نفسي الشكوك، ختمت قائلة.

* * *

بدافعِ شعورٍ مُضْنٍ بسوء التصرف، بدت إيزابيل الأكثر عزمًا على العثور على ماري، كما لو كانت هي من وراء اختفائها. اجتاح الوجوم وجهها والشحوب، ولم يعد أنطونيو يفارقها، حتى أننا كنا نفاجئهما، وهما يتهامسان كما لو كانا صديقين منذ زمن طويل.
قالت مارتا بعد الضباب، ستصفو السماء، وعما قريب ستصفو القلوب كذلك. بكت الأم طويلاً، وابتهلت إلى السماء، بكت، وابتهلت إلى السماء. سأل الصغير أنطوان إن كانت ماري سترجع إلى البيت قريبًا، فأجبنا بالإيجاب، لكن لم يكن يبدو عليه أنه يصدقنا. أخذ بالبكاء هو أيضًا، رغم تهدئة مارتا التي، على العكس، وبخت الأم. غَصَّت الأم، نشقت، وأطبقت فمها، إلا أن الطفل داوم على البكاء. فجأة، انفجرت إيزابيل بدورها، وخرجت، يتبعها أنطونيو، خفيفًا كبطة، وهو يطبطب على كتفها. لَحِقْتُهما، ورجوتُ إيزابيل أن تمسح دموعها. سألتها إن كانت تعرف أحدًا يمكن لماري أن تختبئ عنده، أو أن تهرب معه. ترددتْ بعض الشيء، ثم، مرتبكة تحت نظرتي الفاحصة، اعترفتْ أن ماري تعرف منذ بعض الوقت ابن صاحب المصنع، وأنها خرجت معه عدة مرات، لكنها لم تعد تراه منذ ذهابه إلى لندن للدراسة. وفي الحال، تذكرتُ جواز السفر الذي أخذته ماري. هل كان ذلك لتلتحق بصديقها في لندن؟ حدثتُ إيزابيل في الأمر، لكنها أبعدت الفكرة إطلاقًا. على أي حال، ليست في حاجة إلى جواز سفر للسفر إلى لندن. إضافة إلى ذلك، لقد قطعت علاقاتها بابن المعلم منذ مغادرته. لا، هي حتمًا في باريس أو في مكان ما في فرنسا. في رأيها، لم تترك البلد على التأكيد. كانت إيزابيل منزعجة لأسئلتي، ومرتبكة، فلاحظ أنطونيو ذلك:
- أنت تُحْنِقَها بأسئلتك! لماذا لا تعمل كمحقق؟
- كمحقق؟
- نعم، كمحقق.
- أنا آسف! لم أكن أريد التصرف كَمُ...
- اتركها وشأنها!
- ...حَقِّق.
أَخَذَتْ نفسًا عميقًا، وأنطونيو يهمس، فمه قرب فمها، ويده على يدها، كعشيقين في الوقت الحاضر.
كَفَّ الصغير أنطوان عن البكاء، ونظرت الأم إلى المسيح، في الفراغ، وبدت مارتا في صمتها قلقة. لأخفف من مصابهم، قلت بهيئة مشجعة، وبابتسامة:
- لا تخشوا شيئًا، سنجد ماري.
غير أني كنت أشك في إيزابيل.


يتبع القسم الأول الفصل الحادي عشر