العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4938 - 2015 / 9 / 27 - 16:14
المحور: الادب والفن     

وجدتُ رسالة من أخي عبد السلام، فمزقتُ الغلاف بسرعة، بينما مارتا تدندن لحنًا إفريقيًا، وهي تعد العشاء. قال لي عبد السلام إنه ذهب ليرى العائلة في مخيم عين بيت الماء بالأرض المحتلة: أمي تدفع دومًا عربة خبزها في الوحل، أختي الصغيرة في المستشفى، أخي الصغير في السجن. عند عودته إلى بيروت، صديقته المسيحية برناديت راحت مع مجهولين، رجال ضد الثورة التي يضحي بنفسه من أجلها، ولم تعد، منذ ذلك الحين.
وأنا أتعشى مع مارتا، حكيت لها أخبار عائلتي، وهي تصغي بانتباه، فأُقْلِعُ عن غروري، وأجدني غيرَ قادرٍ على ترجمة موج الانفعالات على وجهها. قالت لتطمئنني: "ستعود برناديت، ستبرأ أختك..." ثم أضافت بعد لحظة من الصمت: "وسيخرج أخوك من السجن." كانت واثقة ثقتها بلون جلدها. ضَحِكَتْ حسب عادتها لتخفف من جسامة الأمر: "سيغدو رجلاً، قويًا، أخوك الصغير، تمامًا كالمهر الذي عليه العدو ليغدو حصانًا، وعليه العذاب ليكبر. كلما تعذب، كلما غدا قويًا، وكلما نما سريعًا."
عند ذاك، حدثتني عن ابنها، وكيف تَرَكَتْه حرًا منذ نعومة أظفاره، لتسمح له بالتكون، بالكبر، بالغُدُوِّ قويًا. هو الآن يعرف طريقه، وبدت أكثر ما تكون عليه اطمئنانًا. ثم قامت مارتا لتغسل الأواني، وكعادتي، ذهبت إلى غرفتي. ما أن مضت بضع لحظات حتى سمعنا خطى حذرة تقترب، ودقات خفيفة على الباب. وهذا النداء المشوب بالخوف لماري:
- مارتا، افتحي لي!
خَفَّت مارتا إلى فتح الباب، فدخلت ماري بِحُمَيَّا، ووجهها يهتاج من الخوف.
- ماذا هناك، يا حبيبتي؟
- أخي يريد قتلي.
حكت لنا أن أخاها أندريه قد حضر فجأة لينتزع نقودها، وأنها هربت من النافذة لتجدنا. كانت تتوجه بالحديث إليّ، وكنت حانقًا من عجزي عن مواجهة هذا الطاغية. قالت إذا اكتشف هربها، جاء للبحث عنها، وليقتلها. لكني طمأنتها، وطلبت منها ألا تخشى شيئًا:
- سنحميك، قلت لها.
ابتسمت لي، ففتنتني ابتسامتها. خفّفنا الأضواء، وأسدلت مارتا الستائر.
- ستنامين هنا هذا المساء، قالت لماري.
- لن ينتظر، سيأتي في أعقابي.
- إذا أتى طردناه، أكدت بلهجة جازمة.
وأنا أقف أمامها، كنت أرنو إليها، وهي تستند بيدها على الكرسي. فجأة، وصلتنا خطى ثقيلة، فاستقامت ماري فزعة، وشدت نفسها إلى صدري. سمعنا الأم تصرخ:
- سأبلغ الشرطة، أيها الدعيّ!
اقتربت الخطى، وتوقفت. لم يجرؤ أندريه على الطَّرق، وكانت الأم قد خرجت:
- اذهب من هنا، أيها المجرم!
انفتحت بعض النوافذ والأبواب، وخرج بعض السكان. نزل الابن اللعين الدرج على عجل، واختفى بين حيرة الجميع وارتباكهم، والبرتغالي يراقب إلى ما لا نهاية من وراء نافذته. سحبتُ ماري إلى غرفتي، وجعلتها تجلس على طرف سريري، وأنا أمسك يديها، ورغبتي أن أمسك يديها حتى الموت، تلك المخلوقة الواهية التي تونع مع الخوف، والتي يهدد الإخاء أيامها. كانوا يغتصبون منها أحلى أيامها، وكم كنت أحبها في تلك اللحظة!
تبادل الجيران بعض الكلمات، سبوا أندريه، وقالوا إنهم سيمسكونه في المرة القادمة، ويأخذونه إلى الشرطة، فهو ينغص ليس فقط عيشة أمه وأخته وأخيه، بل وكل سكان الرَّدْب. عندما عاد الكل إلى مأواه، سمعنا الطرقات الحذرة لأم ماري على الباب:
- مارتا!
فتحنا في الحال، فاحتضنت الأم ابنتها، وشكرتنا. أرادت أن تذهب بها، لكني قلت:
- بإمكان ماري أن تنام في غرفتي، سأذهب عند بعض الأصدقاء.
شكرتني الأم من جديد، ولاحظتُ ماري، وهي تلقي عليّ نظرات الامتنان.
- نحن لا ندري، ربما عاد هذه الليلة، أضفت.
- لا، لن يعود، إنه جبان جدًا ليعود.
- كما تريدين.
بعد مغادرتهما، سمعنا ابتهالات أم ماري، وزفراتها القانطة، والأصداء المختنقة تخترق حجراتنا قبل أن تصعد إلى السماء.
بقيتُ طويلاً دون أن أنام، فكرت في اليدين الخائفتين اللتين أزهرتا، لحظات، بين أصابعي، وقلت لنفسي ربما كانت ماري الزوجة التي ستربي أمي أولادها، فقررت أن أنتظرها غدًا عند عودتها من العمل، أمام فوهة المترو، لأدعوها إلى أخذ فنجان قهوة، وهي لن ترفض حتمًا. لكن هل ستقبل أمها طلب زواجي؟ كانت ماري صغيرة جدًا. سننتظر عامًا آخر، وسنفتح بيتًا متواضعًا، لن ننسى أمها، ولن ننسى أنطوان. على البنت أن تتزوج بعد كل حساب، أليس كذلك؟ وبمن تحب. تخيلتها تحبني، وعزمت على قول كل شيء لمارتا إن قبلت ماري دعوتي غدًا.
كنت على وشك النوم عندما علت صرخات في الرَّدْب، فنهضت بسرعة صوب الباب، وأنا أخشى أن يكون أندريه قد عاد. تبعتني مارتا، واستولت علينا الدهشة. رأينا لحسن، وهو يضرب زوجته بقدمه، في وسط الرَّدْب، والمرأة تدب على الأربع كالحشرة، حافية، تائهة، لا نار لها ولا قرار، ملعونة، مرجومة، لأبسط الأسباب، وأبسط الأسباب كونها امرأة. احتج والده الشيخ صائحًا بصوته الواهن، ونطنط كالضفدعة الحبلى، لِشَدَّ ما تشده السنون إلى الأرض. حاول الإمساك بولده، لكن بلا جدوى. ران على مارتا حزن جارف، فانطلقت لنجدة المرأة التعسة. نجحت في تخليصها من عذابها، وصعدت بها عندنا. خلال ذلك، خرجت مدام ريمون، وأرعدت ضد الرجل، مهددة إياه بالطرد. أصر الرجل أكثر على ما يفعل، ووجّه إلى مدام ريمون ضربة بقبضته في صدرها، مما جعلها تُوَلِّي على عَقِبَيْها، بعيدًا عن الخطر، وهي تُفلت رشقة من الشتائم، ضد هؤلاء البدو العرب، هؤلاء الوحوش، هؤلاء القتلة! يا لسخرية القدر أن يكون معظم مستأجريها عربًا! تبادلت الألفاظ البذيئة مع أقارب لحسن الشبان، الذين يتابعون المشهد، كالبرتغالي من الناحية الأخرى للرَّدْب، وهم لا يحركون ساكنًا، وأقسمت ألا تؤجر الحجرتين الفارغتين الواقعتين تحت شقتها إلا لعائلة فرنسية!
استغربتُ كيف أنني لم أقع على أنطونيو، ولا على جان، ولا على حسين، ولا على عصام، حتى أنني لم أر ظل عادل. كان الأربعة الأوائل يغرقون في البيرة، وفي لعبة الورق، وهم يخسرون دومًا لصالح عصام. عادل وحده الذي ألقى نظرة ليرى ما يجري، ثم عاد إلى مكانه ليواصل قراءته لرأس المال.
حكت امرأة لحسن لمارتا الحكاية من أولها، قالت إنها طلبت من زوجها أن يستأجر القادمون الجدد –أخ وثلاثة أبناء عم- حجرتيْ مدام ريمون الفارغتين، أو أن يذهبوا للإقامة في فندق، بما أنهم يريدون البقاء هنا، فهي لا تحب النوم مع رجال، حتى ولو كانوا أقرباء مقربين. يكفي أنها تحتمل أباه وأبناءه، يكفي أنها تحتمله هو، وحياتها الشقية معه. ثم فسدت الأمور...
نامت زوجة لحسن على سرير مارتا، وتمددت مارتا على الأرض، تاركة سخان الكهرباء مشتعلاً طوال الليل.


يتبع القسم الأول الفصل الخامس