مدام ميرابيل القسم الثالث1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4808 - 2015 / 5 / 16 - 15:44
المحور: الادب والفن     

ما أن رأت مارغريت جول حتى وقعت في غرامه، بوله لم تعهده من قبل، وكأنها صُعِقت حبًا، البرق انتشر في رأسها، وتغلغل في كل جسدها، ولشد ما كان عنفه هائلاً، أصابها الذعر، وأبصرت في كتائب المغول ملجأ وملاذًا، لتجد الطمأنينة. كان ذلك أقوى من كل شيء، كان ذلك أن تجدَ ما تبحثُ عنهُ دونَ تحديدٍ لأوصافه، فتقعَ عليه في اللحظة التي تكتملُ فيها هذه الأوصاف، وتتجسدُ في الوهم، يتجسدُ الوهم، وتحسُّ بالأشياء. لم تكن الصدفة، ولا اختيارها، كان الاختيار، صدفته. اشتاقت إليه لما أتته، واستسلمت إليه لما سمعته:
- طبعًا، صحيح، قال، الإسبِرانتو لغة الحب والتفاهم والوئام في العالم. استعملها ماو تسي-تونغ ليتفاوض بشكل أفضل مع اليابان، وحاضر أُمبرتو إيكو بنفسه عنها في السوربون عدة مرات. إنها لغة سهلة جدًا، بإمكانك أن تتعلميها في عدة أيام أو يكاد. تعلمها تولستوي في سبعة أيام، فقط.
أنزلت مارغريت عينيها بعفة، وابتسمت له كما لو كان الأمل أخاها:
- شرط أن تعلمني إياها أنت بنفسك...
ابتسم جول لابتسامتها:
- بكل سرور! وإلا لماذا أنا هنا؟ دعوني لأعلمها للمضربين لأنها لغة التفاهم والأمل، لكني هنا كذلك لكل من يريد أن يثري نفسه بها.
رفعت مارغريت عينيها بخفة، وقالت له كما لو كان اليأس أخاها:
- لا أريد أن أتعلمها إلا لكونها لغة الحب.
أزاح جول عينيه محرجًا:
- في أحد المؤتمرات المتعلقة بالإسبِرانتو في يوغوسلافيا، قبل أن تنقسم إلى دويلات متناحرة، تعرفت بالصدفة على فتاة صربية... بينما كان المؤتمرون يتناولون طعام الغداء، سقطت شوكتي على الأرض، انحنيت لأتناولها، وحين اعتدالي، وجدت نفسي أمامها. لم تكن تعرف من الفرنسية كلمة واحدة، وأنا من الصربية كلمة واحدة. بفضل الإسبِرانتو استطعنا أن نتفاهم، وما لبث أن وقع أحدنا في غرام الآخر. إنها صعقة الحب! تلك الفتاة هي زوجتي، في الوقت الحالي.
- هل رأيت، قالت مارغريت، من هذه الناحية أريد أن أتعلم الإسبِرانتو، لأني أشك في قدرتها في الظروف الأخرى، كوقف الإضراب أو الحرب في البوسنة. يحاولون هناك التفاهم ما بينهم بالإنجليزية، فالإنجليزية اللغة الكونية الوحيدة، على الأقل سياسيًا.
ابتسم جول، ومارغريت مغبوطة بكل المعاني التي تحبل بها عِظات الحَبَل.
- الإنجليزية لغة صعبة، قال جول، وهي ليست في متناول الجميع. وعلى العكس، الإسبِرانتو سهلة جدًا، يتعلمها أي واحد في لا شيء من الوقت.
اقتربت مارغريت بيدها من يد جول:
- كل اللغات في متناول كل واحد حافزه اللغات، قالت. في الماضي، تعلمت اللاتينية، أمي التي علمتني إياها. ثم نسيتها، لأني لم أمارسها، لكني كنت أعرفها جيدًا!
- الإسبِرانتو لا تُنسى، مدام، مارسناها أم لم نمارس. هناك ما هو أفضل: مع الإسبِرانتو لدينا شعور بأن كل العالم بلدنا.
ضحكت مارغريت:
- آه، يا لهؤلاء العمال المساكين! كيف يمكن أن يكون لهم هذا الشعور إذا ما استغلهم أبوك كما لم يستغلهم أحد في العالم؟ أما أن يصبحوا كونيين في تعاستهم، كتعاسة الحب، مثلاً، فلربما كان ذلك شيئًا آخر.
مرر جول يده في شعره، فنظرت مارغريت إلى خصلاته باشتهاء يدها إلى يده.
- هذا بالضبط، بسبب تعاسات العالم، قال جول، أراد زامنهوف، مخترع الإسبِرانتو، لغة تتجاوز الخلافات والعذابات والأوجاع الصغيرة.
- لوضع حد لهذه العذابات أم للقفز عنها؟ سألت مارغريت. لا توجد لغة في العالم تستطيع إلغاء العذابات والخلافات.
- أنت متشائمة جدًا، مدام! قال جول ضاحكًا.
انحنت مارغريت، مالت.
- ادعني مارغريت، قالت.
- أنت متشائمة جدًا، مدام مارغريت!
- فقط مارغريت...
- مارغريت.
خافت فجأة من أن تخيب أمله، وهي تعتبر إلى أية درجة صارت تحبه، حب العذراء لله، فلا أحد يعرف هذا الحب غيرها:
- ربما لست متفائلة لكني لست متشائمة...
- في أحد الأيام، رأى مخترع الإسبِرانتو أربعة أشخاص يتشاجرون، في حي قديم من أحياء وارسو، كل واحد بلغته. كان الأول يهودي الرأس يتكلم اليديشية، والثاني ليتواني الصدر يتكلم الليتوانية، والثالث بولوني البطن يتكلم البولونية، والرابع صربي الحوض يتكلم الصربية، فأخذ من كل واحد المشترك في لغته، وصنع لغة تكون بمثابة الجسد للجميع: الإسبِرانتو.
أمسكت مارغريت يد جول، يد الموت، الحياة، الخلود، وهمست دونما اقتناع:
- لقد اقنعتني، يا جول، فمتى نبدأ؟
سحب جول يده بهدوء من بين يدي مارغريت، وبلع ريقه:
- هذا المساء، إذا أردتِ.
- لِمَ لا في الحال؟
- الآن، عليّ الذهاب لرؤية العمال.
عندما كان جول قرب الباب، نادته مارغريت، وكأنه يسلبها الوجود بذهابه:
- خذ حذرك من الضباب، هناك ضباب كثير... وهو لا يعرف الإسبِرانتو!
في المساء، انتظرته مارغريت على طاولة العشاء بلا صبر، والخدم يقفون بانتظار أوامرها، فلم تتعش. كما هي عادتها، كانت علاقتها قد ولدت بالغة، لكن من غير عادتها أن يصعق البرق فكرها، فلا ترى في الظلام أشياء أخرى غير أقواس قزح، ولا تقدر على التحكم بشيء، كالكوكب الدائر في مداره إلى الأبد، وحدها في الكون، وكل الكون معها. أترحها وأسعدها أن تكون وحدها، كان ذلك سحرها، الحزن والفرح في كأس الوجود. رفعت الستار، ونظرت بعيدًا حتى مدخل الفندق الخاص. كانت البوابة مغلقة، والأضواء تخوض معركة حامية الوطيس مع الضباب. رفعت السماعة، وطلبت المركّب الصناعي، فقالوا لها إن جول قد غادر لتوه. ذرعت الصالون طولاً وعرضًا، وما لبثت أن سمعت منبه سيارته، لتسارع إلى النافذة. فتح الحارس البوابة، فتنفست، وابتسمت. وفي الحال، ركضت لتستقبله على درج المدخل.
تعلقت بذراعه ما أن تقدم منها و، بنبرة عتاب ظريفة، قالت له:
- لقد فاتك العشاء.
- لم أقل إنني سأعود لأتعشى.
- انتظرتك مع ذلك لنتعشى ولم تأت.
اخترقا الصالون.
- كان عليك ألا تنتظريني. لا تقولي لي، مدام، إنك لم تتناولي طعام العشاء إلى حد الآن. أما أنا، فقد أكلت مع العمال.
- مش مشكل.
- أنا آسف!
- إذن، كل شيء على ما يرام مع الشغيلة بفضل الإسبِرانتو؟
- ليس الأمر سهلاً كما تظنين.
- وأنا، متى سأتعلمها؟ وأين؟ هنا أم...
- أينما تريدين، مدام، الأمر سواء...
- مارغريت!
- نعم... هل تعرفين أن مارغريت الزهرة كذلك اللؤلؤة باللاتينية؟
أخذته بين ذراعيها بتواطؤ وشبق وطبيعية، فكانت حركة، وكان تردد، وكان رضاء.
- إنها صعقة الحب... همستْ.
قطف قبلاتها برقة:
- هوسٌ مِرْآوٍ... همس.
ثم توسل:
- لا تفعلي هذا، يا مدام مارغريت، من فضلك.
سحبته إلى غرفتها، وخلعت ثيابه، دون أن تتوقف عن تقبيله.
- هذه هي لغة الإسبِرانتو التي أعرف، لغة جميلة، أليس كذلك؟
تعرت، فقطف قبلاتها ومفاتنها، وقليلاً قليلاً أحس بالسحر يجرفه جرف الموج للرمل، وكأنه معها هو ذاته، يقطف مفاتنه وقبلاته.
- أجمل لغة بين كل اللغات، لكننا لم نتفق على هذا.
لهثت من وراء رغبتها، ولم تشأ إنفاقها دفعة واحدة، أرادت أن تبقيها أطول مدة ممكنة، فهي ما تنقصها، وبفضل جول تمتلئ بها.
- بل اتفقنا، وها نحن عبيد رغبتنا.
- عبيد رغبتنا وأسيادها.
- صناع رغبتنا ومادتها.
- مادتها المحرقة دون لهب.
- لهبها المهلك دون رماد.
- رمادها الذي هو مهدنا.
- هناك حيث يكون بعثنا.
- بعثنا الذي لا يدوم سوى لحظات رغم أنه أبدي.
- آه، يا حبيبي!
- آه، يا حبيبتي!
دخلت آنييس عليهما الغرفة، وفتحت النافذة، فتسلل الضباب إلى جسديهما، وغطاهما، بعد أن طار خفاش الشهوة.


يتبع القسم الثالث2