مدام ميرابيل القسم الثاني13


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4807 - 2015 / 5 / 15 - 12:09
المحور: الادب والفن     

بعد عدة أيام، وجدت الشرطة جيروم مقتولاً بشكل غامض، فذرفت آنييس عليه أحر الدموع، ووبخت أمها بدعوى قتلها إياه:
- لو كنت تحبينه بالفعل لحلت دون أن يقع ذلك! لم تعودي تفكرين إلا في نفسك، ولا يهمك أن تعلمي ما أشعر به أنا!
- جيروم لم يكن لأحد، ليس لي وليس لك وليس لأية امرأة أخرى.
- بلى، سيكون لي لو لم تقتليه.
- جيروم كان من أولئك الناس الذين ولدوا ليموتوا.
- كان يمكننا أن نبقى معًا طوال العمر لو مُتِ أنتِ!
- لا تُسَوِّي ذَنَبَ الناقة بأنفها.
- أعرف أن الأمر لديك سواء!
- هذا لا شيء.
- ماذا؟؟؟ موت جيروم لا شيء!!!
- موت الأشياء.
- لأن الآن الأشياء مِلْكِية شائعة بالنسبة لك!
- أنت لا تفهمين.
- حمارة تريدين القول!
- هذا ما أدركتُهُ بعد موت جيروم.
- هذا ما يُتَصَوَّرُ لك.
- ما يطوفُ برأسي.
- توقفي، لا تجعليني أبكي عليك بدل البكاء على حبيبي!
- ستبكين عليّ ذات يوم.
- لا، هذا كثير، أنا لم أعد أطيق صبرًا.
... بحيث أن قلب آنييس امتلأ بالحقد، أكثر فأكثر، ولم يَفْرَغ. وعلى مدى عدة أسابيع، لم تتكلم إلا عن الانتقام لجيروم.
وجدت مارغريت رشيد، وهو يبكي في غرفته، فظنت أنه هو كذلك كان مغرمًا بجيروم. كان السبب إهمال السيد هنري له، مذ جاء السيد ميرابو...
بدأ الضباب يتسلل، يشق الكريستال، ويجعل من الرماد لون السماء. تداعت مارغريت للسقوط، فأمسكت بنفسها، ونظرت إلى صورتها في المرآة. أذهلتها صورتها، صورة عجوز شمطاء. تجاعيدها الحارثة لوجهها، شاربها المتهدل، فمها الكهفيّ، ذقنها الشمعية، ثآليلها، دماملها، بقعها، سنوها السِّكِّينية، نجومها الغائطية، فضاءاتها الطينيّة، تفاهتها، دناءتها، لافائدتها، لاجدواها... ندت عنها ضحكة مقيتة، وحاولت القهقهة، فاختنقت، وأخذت تسعل سعالاً حادًا، تفجر في أثره ما قذفته من أعماق أحشائها من قذارات. فجأة، تفجر السيد ميرابو في طائرته النفاثة، طائرته الجديدة، التي لم تزل تلمع بورقها، فوقع السيد هنري مريضًا، لكبير الضنى، تاركًا مارغريت تأخذ على عاتقها كل ما لديه من أشغال. نادى آنييس قربه، ووجدها أكثر حزنًا منه. وضع خده على صدرها، وذرف الدموع الحارة. لكن هي، كان قلبها في مكان آخر. لو لم يدخل هذا العجوز الذي يدعو إلى الرثاء في حياة أبويها،لما وقعت كل هذه المآسي ، لما كانت دون عشيق، لما كانت يتيمة. كادت تتفجر حقدًا، هل تصفعه؟ هل تقتله؟
ركب السيد هنري مَرْكَبَ الخَطَل:
- آنييس! متى سيعود أبوك، يا آنييس؟
- أبي مات، يا موسيو هنري!
- لن نتناول طعام الغداء قبل عودته.
- لن نتناول...
- هذا بسبب طائرته.
- هذا ماذا؟
- تأخر.
- لم يتأخر، أبي مات، يا موسيو هنري، أبي مات في الجو.
- طائرته تلمع بورقها، لم يمت، لن تقتله طائرة جديدة خرجت من المصنع منذ عدة أيام.
- ومع ذلك، هذا ما وقع.
- يفضل طائرته عليّ.
- أبي مات، مات، ألا تريد أن تفهم؟
- لا يريد تناول طعام الغداء معنا...
أحضر له رشيد، المطحون حزنًا لحال سيده، التلفون: كانت المدام، وهي تكلمه من المقر الإداري. كان الأمر على غاية الخطورة.
- ماذا هنالك، يا مارغريت؟ سباستيان لا يريد تناول طعام الغداء معنا.
- ماذا؟!
- ألم أطلب منك عدم إزعاجي؟
- هنري، العمال يشنون إضرابهم ثانية... ماذا سأفعل؟
بقي السيد هنري حائرًا للحظة:
- هذه المرة، ابعثي من وراء جول، جول سيعرف كيف يكلمهم.
- جول؟ جول من؟
- أصغر أبنائي. سيشرح لك رشيد، ها هو.
أعطاه الهاتف، وعاد إلى البكاء على صدر آنييس. اقترب به الموت المفاجئ لسباستيان دفعة واحدة من موته، ربما لم يكن يبكي بهذا القدر بسبب موت صديقه الشاب بل بسبب موت شبابه الذي طار معه. ذكرته يداه المجعدتان في الوقت الحاضر بيدي سباستيان الجميلتين الثخينتين الملونتين... كان هناك شيء يموت في داخله من لحظة إلى لحظة، ولا أحد يستطيع منعه.
- منذ عدة سنوات، قال رشيد، وهو يغادر الغرفة، شن العمال سلسلة من الإضرابات لم يستطع أحد أن يضع حدًا لها سوى جول، الابن الخامس للسيد هنري، و...
- لهنري خمسة أبناء؟
- ولا ابنة واحدة.
- هذا أعرفه. أين هم أبناؤه؟
- أعطى موسيو هنري لكل واحد قسمًا من ثروته، وأرسلهم إلى بلدان أوروبية مختلفة، أحدهم في...
- ولماذا لم يقل لي شيئًا عنهم؟
- بالنسبة له كأنهم لا يوجدون بعد أن تقاسموا الميراث.
- تقاسموا الميراث؟ ميراث من؟
- ميراث موسيو هنري.
- في حياته؟
- كانوا أشرارًا مع أبيهم، ما عدا جول.
- طيب، فلنعد إلى هذا الابن الشهير الذي لا أعرفه.
- بفضله استعاد المصنع هدوءه عدة سنوات هناك.
- وكيف فعل، جول؟
- عَلَّمَ الإسبِرانتو للعمال، مدام.
- كيف؟؟؟!!!
- الإسبِرانتو. إنها لغة الحب والتفاهم والوئام في العالم.


يتبع القسم الثالث1