مدام ميرابيل القسم الثاني1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4795 - 2015 / 5 / 3 - 15:15
المحور: الادب والفن     

ومضت الأيام يومًا يومًا، الواحد بعد الآخر، كعربات السكة الحديدية، والمصنع وُجهة القاطرة التي يشير الزمن إليها. كانت مارغريت تنظر عبر النافذة، والقطار في أقصى سرعته، وتقول لنفسها إن الشتاء يصل في نفس الوقت من السنة الماضية. رغبت في البكاء على صدر دافئ، على كتفٍ حانٍ، وعادت إلى التفكير في ابنتها وفي زوجها. هل هو إذن قدرها أن تكون للأمل قاتلة ولليأس قتيلة؟ ولكنها كانت فيدرا، الفرنسية، نافخة الحياة في التماثيل، والحب في الليل مملكتها! لم تعد تحتمل الضوء البارد للشمس، فأغمضت عينيها، وأحست بعجلات القطار، وكأنها تدور على جسدها. قاومت الانسحاق، وقررت الذهاب لإحضار ابنتها من الدير. ذكرتها ابنتها بالشر، بالأيام الغابرة، بكل ما لا يستحق الذكر. راعت في الماضي النجوم، واليوم التقاليد، القواعد، زنابق الحقل. وكارتداد اللهب، عادت تفتح عينيها على فكرةِ أن باستطاعتها ترك ابنتها عند جوزيان الصغيرة. هكذا تنقذها من روائح الشموع ودهاليز العزلة وأظافر الحزن، وتوفر الكثير من نفقات هي في غنى عنها، بما أن زوجها لم يعد يدفع النفقة.
في نفس المساء، عند الخروج من المصنع، تكلمت مع جوزيان الصغيرة:
- ...وما رأيك لو أحضرت لك آنييس؟ تكملين تربيتها أفضل مني، وتستطيع أن تكبر مع بناتك...؟
- ولكنها كبيرة، ردت جوزيان الصغيرة، لم تعد بحاجة إلى تربية أحد.
- يكاد يكون لها من العمر خمسة عشر عامًا، وتظنين أن الأمر قد انتهى، وأنها أصبحت امرأة، هكذا، بقدرة قادر؟
- أوه لالا! لا تزعلي، كنت أمازحك، هذا كل ما كنت أفعل، كنت أمازحك.
- إذن تقبلين؟
- ولكن لماذا لا تأخذينها، أنت، أنا لا أفهم؟ هي بحاجة إليك، إلى أمها، إلى حنانك...
تنهدت مارغريت:
- ليست بحاجة إليّ بقدر ما هي بحاجة إلى نقود، وسيكون من الصعب عليّ توفيرها إذا ما لم يدفع سباستيان النفقة، فهو عاطل عن العمل دومًا. أمس كان مستعدًا لشراء طيارة والأرض برمتها، واليوم ليس لديه ما يكفي لشراء رغيف.
لهثت جوزيان الصغيرة لبدانتها، ولسرعة خطوات مارغريت، فأجابت كما أمكنها:
- إذن اتركي شارع موفتار، فهو غالٍ عليك، وتعالي، أنت أيضًا، لتعيشي معنا، أنت وابنتك.
دخلت المرأتان مجمع سكنى العمال، المحاط بسياج عال، وكأنه وجار كلب أو سجن.
- أو اطلبي سكنًا هنا، تابعت المرأة البطة، لديهم الكثير من الشقق الفارغة، هكذا تكونين معنا، ومع آنييس، وتكونين جنب المصنع... إلا أنني لن أخدعك، فهي إسطبلات بالفعل. آه، لو يمكنني الحصول على شقة صغيرة في باريس... ! لكن شارع موفتار ليس لنا، الآن يهدمون كل شيء، ويبنون ما هو حديث مكان ما يهدمون... سيأتي يوم يطردونك فيه، كوني متأكدة، لهذا ما أنصحك إياه، أن تأخذي شقة صغيرة هنا، حتى ولو كان في ذلك بعض البؤس، على الأقل نكون فقراء ما بيننا...
- سبق لنا وتحدثنا في هذا، وكما قلت لك... قالت مارغريت دون أن تولي جوزيان الصغيرة اهتمامًا.
- إنها دومًا نفس الأحلام التي تحلمين بها، وإذا ما واصلتِ مع أحلامك، انتهى بك الأمر إلى تدمير نفسك. لن يبقى شيء تستطعين النظر إليه باستقامة دون أن تخفضي عينيك!
- هذا ما تقولينه أنت.
- أنت متأكدة؟
- تمامًا كما أنا متأكدة من كونك جوزيان، الصغيرة، السمينة، صاحبة الحساسية!
- ما أقوله أنا ستدمرين نفسك، شئت أم لم تشائي، ولهذا السبب سأُعنى بآنييس، لا لسبب آخر.
أفاقت مارغريت فجأة، كوردة كانت تفتح عينيها، وهي غافية، وضمت جوزيان الصغيرة التي كانت تتابع:
- سأطلب من العجوز دولاكروا أن تأخذ آنييس بعض الساعات في الأسبوع، إنها عجوز مشحاحة، لكنها ذات قلب طيب! هكذا تتعلم آنييس قليلاً، ويكون لها قليل المال.
- نعم، أريدها أن تتعلم مهنة جيدة.
- لا يبقى إلا أن نسألها إذا ما كانت موافقة.
- ولماذا لا تكون موافقة؟
- لأنها بخيلة، قلت لك، ولأن فوق ذلك كل سنتيم ينفق له حسابه لديها، إنها حضانة أطفال صغيرة، إذا أردت أن تعرفي.
كان على المرأتين أن تتحاشيا الحفر، والأولاد، والأوساخ، في الطريق المؤدية إلى مقر العجوز دولاكروا، والذي منه يتصاعد بكاء حاد. أحست الأم أن قلبها ينقبض، وأن موتها لا يقدم ولا يؤخر. كانت الكلاب تنبح من كل مكان، وكانت شمس الشتاء الجامدة تغرق في المستنقعات الصغيرة كالجسد الممزق.
تناولت جوزيان الصغيرة ابنها، الذي يذرف دموعًا حارة، بين ذراعي العجوز دولاكروا.
- ماذا بك، يا جوفريه! ماذا جرى لك، يا صغيري؟
- كأن عقربًا لدغته! أجابت العجوز دولاكروا بجفاف. من عادته أن يكون وديعًا أكثر من غيره، لكنه اليوم لم يتوقف عن البكاء.
- ربما لديه بعض الحمى، قالت مارغريت.
لمست جوزيان الصغيرة جبينه.
- لا أظن.
فجأة، توقف الصغير عن البكاء.
- انظري بالله عليك! قالت العجوز دولاكروا، ها هو يسكت الآن! أتساءل ما الذي كان لديه ليبكي هكذا!
ابتسمت جوزيان الصغيرة، وقالت للعجوز دولاكروا، وهي تشير برأسها إلى صديقتها:
- لمارغريت ابنة في الدير، طلبت مني أن آخذها عندي، فقلت ربما كان بإمكانها أن تأتي لعونك بعض الشيء، نصف نهار، أو كما تريدين، لتكسب مصروف جيبها... جوزيت، ابنتي، لا تريد إيقاف دروسها، وإلا طلبت ما أطلب لها، كي تساعدني قليلاً، ولكن...
تأوهت العجوز دولاكروا بهدوء.
- أهالي الأولاد الذين أحرسهم لا يدفعون شيئًا كثيرًا، شَكَتْ، كلهم شغيلة، وأنا، رغم حاجتي الماسة إلى معاوِنة، تجدينني أشقى وحدي لأوفر بعض المصاريف.
غاب القمر في دياجي الليل.
- ما هو عمر ابنتك؟ سألتها العجوز دولاكروا.
- خمس عشرة سنة.
- أعطيها مصروف جيبها، شيئًا ليس كبيرًا، تدخلت جوزيان الصغيرة، المهم أن تتعلم مهنة.
صاحت العجوز دولاكروا آليًا بهذا الطفل أو ذاك، وسألت:
- والمدرسة؟ في أي صف هي؟
- قلت لك إنها في الدير، أجابت الصغيرة جوزيان، وقد عيل صبرها، ومارغريت تريد إخراجها من هناك.
- ألا تواصل دروسها في الدير؟
- بالطبع تواصل دروسها، لكن أمها تريد استعادتها، وقد حان الوقت كي تتعلم مهنة جيدة.
- ما تعلمته ابنتي من دروس يكفيها، قالت مارغريت. هي كبيرة الآن، وعليها أن تتعلم مهنة جيدة، مهنة نظيفة، ليس مثلنا نحن الأخريات في المصنع.
تأوهت العجوز دولاكروا من جديد.
- هل تعتقدين أن العناية بالأطفال مهنة سهلة؟ تساءلتْ، وانظري إلى القصر الذي أعيش فيه: هذا كل ما كسبت! خلال تسعة وعشرين عامًا مضت بلمح البصر، انظري ما كسبت!
ازداد الليل دجى، وفضلت مارغريت الذهاب، فشكرت جوزيان الصغيرة العجوز دولاكروا معجلة اللحاق بصديقتها.


يتبع القسم الثاني2