مدام ميرابيل القسم الأول15


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4794 - 2015 / 5 / 2 - 18:41
المحور: الادب والفن     

كان أولاد جوزيان الصغيرة يتابعون باهتمام تطورات مطاردة الخنازير البرية وليس اصطياد الحيتان، فقد تسببت هذه الحيوانات الوحشية بعدة حوادث على الطرق التي تشق غابة رامبوييه.
- يجب القضاء عليها كلها عن بكرة أبيها! كانوا يقولون بحمية أقرب إلى الحمية القومية.
وحده يهوذا، كبير الأولاد، لم يكن من نفس الرأي: كان يحب لو يكون قويًا كخنزير بري. ومارغريت تسمعه، امتلأت بالحزن. تذكرتني، تذكرت كلامي عن هذا الحيوان، حبي له، حبها لي. لماذا لم تولد من بطن هذا الحيوان، كي أحبها طوال حياتي؟ لذلك طلبت أم يهوذا منه التركيز على واجباته بدلاً من التفكير في حماقات كهذه، خاصة أمام مارغريت التي لها من التعاسة ما فيه الكفاية لتنشغل بتعاسات الآخرين. لم تكن جوزيان الصغيرة تعرف جيدًا لماذا هذه الأشياء تحزن مارغريت، وكانت تبذل كل ما في وسعها لتهدئتها، وللحيلولة دون كل ما يمكنه أن يكئبها. لكن مارغريت كانت في الحزن مليكة للحزن كما كانت في الفرح ملكية للفرح، حتى حزنها كان شيئًا آخر. كان حزنها يسعد الحزانى، فترق حالهم، ويحتملون الحياة.
لم أعد حزنها، كانت الحزن.
كمان الحزن.
الراقي.
الرقيّ الحزين.
لأنه حزنها وليس حزن الرعاع.
الحزن كأداة إنتاج.
كحق من حقوق الإنسان.
انتهت إجازة جوزيان الصغيرة، فنادت ابنتها البكر، جوزيت، أمام مارغريت، وقالت لها:
- ابتداء من الغد، أنت من عليك الاهتمام بمارغريت، سأعود إلى العمل غدًا، ومن الآن فصاعدًا، ستكون مارغريت شغلك الوحيد من خارج دروسك.
- أحس بتحسن كبير، تدخلت مارغريت، وابتداء من الغد، يمكنني العودة إلى بيتي.
رفضت جوزيان الصغيرة، وأبدت جوزيت رغبتها في خدمة صاحبة الصحة الضعيفة. ضمتها مارغريت، وقالت لها كما لو كان ذلك نوعًا من الأبابة:
- لو كانت ابنتي آنييس هنا لساعدتني. لها من العمر ما لك، يا جوزيت، خمسة عشر عامًا على التمام.
- عمري ليس خمسة عشر عامًا، قالت جوزيت، لكني أستطيع القيام بخدمتك.
جاء الصغير جوفريه، وَقَبَّلَ مارغريت:
- أنا أيضًا، أستطيع القيام بخدمتك.
لم تبتسم مارغريت منذ زمن طويل، فجذبته إلى صدرها، وقبلته برقة.
- وأنتَ، قالت جوزيان الصغيرة لآخر العنقود، ابتداء من الغد، ستعود إلى الحضانة عند مدام دولاكروا.
- الحياة لا تنتظر كثيرًا، يا جوفريه، همهمت مارغريت.
- ما هو قصدك؟ سألت الأم.
- سيكبر جوفريه، وسيعرف.
- سيعرف ماذا؟
- كل ما عرفناه وما لم نعرفه.
- مممم...
- سيحب وسيتزوج وسيأتي بالأولاد وربما سيتزوج دون حب مثلي.
- بحب أم بدون حب سنجد أنفسنا نحن غير المحظوظات وحيدات دون أحد.
- كما تقولين، نحن غير المحظوظات.
أحضر يهوذا كأسًا من عصير البرتقال لمارغريت، وانسحب القهقرى، وهو يشخص ببصره إليها بغرابة.
- كم له من العمر، يهوذا؟
- إنه الثاني بعد جوزيت، ألا تعرفين؟ حوالي الرابعة عشرة.
- له شكل الرجال، يهوذا.
تضرج وجه يهوذا، وعاد إلى حجرته القهقرى، وهو ينظر بعين الهوى إلى مارغريت، نظرة خنزير بري يعشق خنزيرة برية تغوويه براوئحها. كان لروائحها عليه أثر كبير: عطرها، أنفاسها، بخار حمامها، أريج غائطها، وأكثر ما كان يثيره هذا الأريج، فيقفل على نفسه الباب بعدها، ويشمه شم المهتاج، يراها عارية بين ذراعيه، حقيقية، خيالية، وبأصابعه الخائنة يعيد اكتشاف جسده اكتشاف المعابد المنهارة والمدن المندثرة منذ ولادة الإنسانية.
- آه! لو كانت آنييس معي في موفتار لما أزعجتُكِ، يا جوزيان الصغيرة.
حركت جوزيان الصغيرة جناحي البطة اللذين لها:
- لا تفكري في هذا! فكري في صحتك! عندما تبرئين، أخرجي آنييس من الدير، وخذيها معك، فالعزلة ليست شيئًا جيدًا.
لم تبق مارغريت، فضلت قضاء باقي نقاهتها في بيتها، هكذا تحرر الصغار منها. أحست بالمتعة على فكرة إعتاق الآخرين من عبودية علاقتها بهم. كان لم يزل فيها شيء من عواطفها القديمة، الغريبة، قبل أن يغتصبها الرجل الغريب. عزمت على عدم النبش في مقبرة الماضي، ومع ذلك، لم تتوقف عن التفكير فيّ. أنا كذلك، لم أتوقف عن التفكير فيها. لم أستطع نسيانها. عادت إلى كل الأماكن التي كنا نرتادها. اشترت نفس الزهور. قضمت نفس التفاح. شربت نفس الجعة. أكلت بشكل منتظم في المطعم اليوناني تحت عمارتها حتى سئمت من أثينا... على ساحة المنحدر، عاد عازف القيثار الملتحي، وعاد يعزف، وهو يغمض عينيه. حياها الشحاذون باحترام كبير. أَجَلّوها إجلالهم لأم الرب. ودون أن يعلموا، عجلوا في إنضاج فواكه النسيان. في أحد الأيام، قادتها خطواتها إلى حديقة اللكسمبورغ. كان ذلك بعد الظهر، وكانت تلك المرة الأولى التي تذهب إليها في وضح النهار. رأت فيها عصفورًا يتحاور مع أفعى، وفي الظل، كان صيني عجوز يملأ الفضاء بحركات رقصة الموت والعدم، وكان تمثال هيبوليت جامدًا، أسود دائمًا، وحجره باردًا. انتهى الأمر بالأشجار إلى العراء، كان الشتاء... أين فيدرا؟ أين مضت نار الحب التي كانت تلهبها؟
غادرت الحديقة، وترددت قليلاً في شارع سان-ميشيل. ذهبت إلى ساحة السوربون، التي وجدتها خالية. ومن جديد، أحست بالكآبة، وعجلت عودتها إلى البيت.


يتبع القسم الثاني1