الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي بن يقظان القسم الرابع والأخير


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4758 - 2015 / 3 / 25 - 11:44
المحور: الادب والفن     

18

رَقَّ ظمأي للدم وشغفي بفن الحروب، حاولت إقناع نفسي بعدم الخوض في حروب كانت تكشف عن ساقها هنا وهناك في أرجاء العالم. كلما عاد الهدوء إلى الأركان الأربعة للكون، كان أبسال يؤجج لهيب الشقاق بين الأمم، ليدفعني إلى القتال، لأعمل الشر هناك حيث أؤم، كي أفقد روحي إلى الأبد، بعيدًا عن الصفاء والنقاء والهناء، على طريق جهنم.
في أحد الأيام، عدت مثخنًا بالجراح. كان إله الحرب الذي أحمله في أناي على وشك الموت، وأنا معه. أخللت بالنواهي، وذهبت إلى جزيرتي في هاواي لأتعالج. لم تُرِدْ زوجتي أن أموت، لتسمح للوهم الذي كانته بالخلود في حياتي. برئ جسدي، لا إله الحرب. مات. دون آلهة ولا ملائكة، لم يكن باستطاعتي القتال وحدي ضد الطبيعة. كنت بالفعل وحيدًا. لم يبق لي سوى عيون المها، المجردة، اللاحسية، الخادعة، التي لا أستطيع نزعها من دماغي، والتي ما أكثر ما أحتاج إليها في جزيرة عادت حيواناتها إلى حالتها الوحشية. كان السلام ما بينها قصة قديمة، وما بينها وبين الإنسان. كان كل نوع يريد أن يقيم قانونه، وداخل كل نوع، كان كل حيوان يريد أن يسيطر على نظيره. كان باستطاعة التحضر فقط أن يجمعها على الرغم من تعددها، والتحضر كان أنا. تحضر استنفدت قواه، وتحطم، وتعب، أعطى كل شيء، وها هو يلهث تعبًا.
لم تعد الأسود تخضع لي كما كان عهدها في الماضي، ولا الفهود، ولا أحمرة الوحش، ولا الفيلة. تحدتني قوارض الجزيرة، ونعبت الغربان في وجهي. كانت قروش البحر مهدِّدة، دومًا مهدِّدة، ولكن الآن، حتى الدلافين تبدو مهدِّدة. عضت المحارات قدميّ، وتحالفت ضدي فراشات الزهر وحشرات الليل والحُباحِبات المجنحة اللماعة والنحل والنمل وكل أشباهها التي كانت تعيش بسلام وطمأنينة.
تضاعفت المركّبات السياحية على الساحل أثناء غيابي، ولم يقلع البشر عن الفتك بالحيوانات. لم أستطع فعل شيء، واستسلمت استسلامًا كاملاً. في الجزيرة أو في غيرها، لن أكون كما كنت في الماضي. مع ذلك، رفضت امرأتي أن أترك هذه الجزيرة نهائيًا، تحت ذريعة أنني سأبعث روح الحياة في صدر إله حربي، وأحوّل العالم إلى جزيرة يغمرها الدم. كانت أوطد مني حكمًا، الآن وقد جعلتُ منها وهمًا قويًا. تمنيت لو أبعث بها إلى الباكستان أو الهند لتغدو امرأتي الأولى، فردًا إلى الأبد هشًا. كانت أمنية لن تتحقق أبدًا. وعلى العكس، كانت هشاشتي وضعفي وعجزي لا تتوقف عن التضخم.
في إحدى الليالي، وزوجتي نائمة قربي، هاجمتني جيوش النمل، وانقضت عليّ أسراب النحل. حيدتني منذ اللحظة الأولى، وأنا أصرخ بعيون المها مستنجدًا، وعيون المها تنام نومًا عميقًا.
رمتني كتائب النمل أرضًا، وأخذت بالتهامي. بح صوتي، ولم أعد أقوى على الصراخ. رأيت نهايتي تقترب. عندئذ، وروحي المعنوية في الحضيض، رفعت رأسي إلى السماء، وأخذت بالدعاء والابتهال. كانت نجوم الجزيرة قد تركتني أواجه مصيري الحزين، وبالدنس أحرقني لُجَيْنُها. نست كل كائنات الجزيرة الصراع ما بينها، وجاءت لتشاهد بسعادة عملية الإنهاء عليّ. لم تكن ترى مع الأسف امرأتي التي لا يراها أحد سواي، وامرأتي لا تراني. كان باستطاعتها أن تخيفها، كان باستطاعتها أن تحميني، كان باستطاعتها أن تدافع عني. كنت تلك الفلسفة الهجينة التي على وشك أن تكتمل. حاولت الخلاص بأزرق عينيها الأخضر الحزين، كل محاولاتي ذهبت هباء، وبقيت عيناها مغمضتين.
كانت جحافل النمل تنجز مهمتها بدقة وإتقان، وكانت أسراب الكلوريون، التي من طبيعتها تحب العزلة، قد خرجت عن عهدها في الحب والحرب. ضعفت أنفاسي، والجيوش من الحشرات تجتاحني، تتوافد من كل الجهات، تنتشر في كل الاتجاهات. ارتدت جسدي أجنحة سوداء وحمراء وخضراء، وأحسست بالارتفاع فجأة عن الأرض. كنت على وشك الموت، ولكني أهتز للقفزات، وكأني أنهض من العدم، وأحلق. استقبلتني راقصات هاواي، وعانقنني. رحت مع أجسادهن ذهابًا وإيابًا، وقمت بفعل التوله والافتتان مع الموت.
كانت امرأتي تنام ملء جفنيها، عالم النوم مملكتها، وسلطة النوم تاجها، كانت الغائب الحاضر اللذين لن أكونهما، الميت الحي، النائم اليقظان، وكانت آخر صورة لها انطبعت في دماغي. تمتمت "وداعًا" و، في تلك اللحظة، قطعت سماء الجزيرة طائرة مروحية. كالعُقاب الحديديّ. كالملاك الجهنميّ. كالبعيد المنال. كان أبسال، وكان حالي يغني عن السؤال.
ونحن نقلع في خط عمودي، أشرت إلى امرأتي. كانت تنام هناك. نظر أبسال إلى المكان الذي أشير إليه، ولم ير شيئًا. لا شيء. لا أحد. المكان الممتلئ بالمكان. قال لي: "أبوك لم يمت، وجدناه في مستشفى للمجانين، وهو حي يرزق." كنت على وشك أن أفارق الحياة، وها أنا حي ابن حي.


عمان السبت الموافق 1 نيسان 1995