الطابع القانونى للثورات


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4672 - 2014 / 12 / 25 - 00:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


فى الثورة الشعبية تصل الفوضى المجتمعية إلى حدودها القصوى لأنها لحظة مواجهة حاسمة بين نظام قائم يريد الاستمرار والاستقرار ونظام من المفترض أن يحل محلّ النظام القائم. ويناضل ويقاتل ويحارب كل طرف بكل الأسلحة المتاحة، حيث تدخل فى الصراع قوى لا يمكن تلخيصها فى عبارة الدولة والشعب. وتنشأ تحالفات سياسية جديدة وتنهار تحالفات قائمة. ويبرز زعماء ويسقطون فى زوايا النسيان بعد حين. ويسقط القانون ولو مؤقتا وتعمّ الفوضى. وبعد المواجهة تنقشع الأوهام عند كل الأطراف، عند الدولة وعند الشعب، وعند كل طرف آخر.
وتكون الثورة الشعبية فرصة كبرى قد لا تتكرر، أمام قوة سياسية أو أخرى، للانقضاض على سلطة الدولة أو المشاركة فيها تحقيقا لميول سابقة لديها "هَرِمَتْ" عقودا طويلة فى ظل عهود عديدة فى انتظار فرصتها المواتية، بعد فشل محاولات سابقة فى فرص لم تصل إلى حد الثورة الشعبية. ولهذا تكون المواجهات الكبرى اللاحقة بالغة العنف بصورة لا يصدقها عقل.
وسبب الثورة واضح وبسيط. إنه وصول الأوضاع المعيشية للشعب إلى حالة من التردى قد يواصل تحمُّلها وقد تؤدى به إلى الثورة، خاصة إذا شجعت عليها من الداخل شرارات ثورية أو من الخارج شرارات تأثير الدومينو، أو تطورات من الداخل والخارج.
وبالطبع فإن أهداف مختلف القوى المتصارعة تكون واضحة جلية. فهدف النظام هو الحفاظ على استمرار واستقرار الدولة والاقتصاد القائمين، وهدف الإسلام السياسى هو إقامة دولة دينية وتنظيم اقتصاد جديد، إسلامى، أو المشاركة بهدف الانفراد بالسلطة من موقع أفضل عندما تسنح فرص لاحقة فى المستقبل.
أما قوى الثورة فإن هدفها الواقعى المجهول يتمثل فى تحسين حياة الشعب، بينما يتمثل هدفها الوهمى فى استيلاء الشعب على سلطة الدولة، ولا يتحقق هدفها الوهمى لأنه وهمى بحكم عفوية قوى الثورة وعدم قدرتها على إجراء حسابات ضرورية معقدة، ولكنْ فى المحل الأول لأن ما يطمحون إليه لا يكون أصلا مهمة الثورات الشعبية. غير أن الهدف الواقعى، وهو الموقف الثورى الوحيد فى هذه الحالة، لا يتحقق بحكم التركيز على الأوهام والتهويمات واحتقار التحسين الإصلاحى للأحوال المعيشية للشعب. ويهبط النضال الثورى ضد النظام والثورة المضادة إلى ارتفاع صوت الصراخ السطحى العبثى ضد نظام الثورة المضادة، ويهبط النضال الثورى إلى تأبين متواصل للاحتفاء بذكرى شهداء الثورة وبذكرى أحداثها وتواريخها ونضالاتها، كما يعلو صوت الاتهامات والشتائم المتبادلة فيما بين قوى الثورة.
وهنا قوتان قويتان ومنظمتان وهما الدولة ومشروع دولة الإسلام السياسى، وهما تعيشان فى الواقع وليس فى الأوهام مثل قوى الثورة. وتضع هاتان القوتان معا مشاريع وبرامج لهزيمة الثورة، وخططا ومخططات تفصيلية لتصفية كل قوة منهما للأخرى بعد هزيمة الثورة. ولا عجب فى أن تطمح هاتان القوتان وحدهما، بفضل قوة وتنظيم كلٍّ منهما، إلى استبقاء السلطة القائمة؛ فى أيدى القوة الحاكمة بالنسبة لإحدى القوتين، أو انتزاع سلطة الدولة، بالنسبة للقوة الأخرى.
وفى مقابل القوتين القادرتين إحداهما على استبقاء السلطة، والأخرى على انتزاعها، تقف قوى الثورة الشعبية عاجزة عن الفعل الثورى، بعد تلك الافتتاحية الأسطورية للثورة، ليس فقط لتشرذمها، وليس فقط لعدم فهمها لطبيعة وحدود الثورة الناشبة، فمهما تكن أحوال قوى الثورة الشعبية، أىْ حتى عندما تكون مؤهلة للطموح إلى الوصول إلى السلطة وقادرة على خوض الصراع، فإن الفوز بالسلطة لا يكون من نصيبها، وهذا هو ما يقتضيه "قانون" الثورة الشعبية التى لا تدور معاركها بحكم طبيعتها حول تقرير سلطة الدولة، بل حول الديمقراطية أىْ حول تحسين الأحوال المعيشية للشعب.
وفيما يتعلق بخطأ النظر إلى الثورات الشعبية على أنها ثورات سياسية، هناك أمثلة لا تُحْصَى ولا تُعَدَ عن انقلابات عسكرية أو ثورات شعبية انتقلت إليها سلطة الدولة، غير أن "الاستيلاء" على السلطة يختلف عن التكوين أو الخلْق التاريخى لسلطة الدولة. ومهما تتعدد الانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية فإن سلطة الدولة تبقى فى أيدى نفس الطبقة، مهما تعاقبت قطاعاتها، رغم مظاهر مضللة. ذلك أن الاستيلاء على السلطة القائمة أصلا، والتى تطورت مع تطور الرأسمالية، لا يعدو أن يكون إجراءً يتعلق بانتقال السلطة القائمة من قَبْل. وهذا أمرٌ يحتِّمه قانون الانتقال التدريجى لسلطة الرأسمالية مع تطورها التدريجى. وهو أيضا قانون عدم حاجة سلطة دولة جديدة إلى ثورة سياسية مستقلة لأنها تكون قد تحققت مع تطور التحول الاجتماعى-السياسى التراكمى. وهو أيضا قانون عدم الانفصال بين جانبىْ التحول الاجتماعى-السياسى، بين ما يسمى بالثورة الاجتماعية وما يسمى بالثورة السياسية. وفى الثورة الصينية التى كانت ثورة شعبية مسلَّحة أسطورية لم يكن استيلاء قوى الثورة الشعبية على سلطة الدولة لحساب كيان اسمه "الشعب"، بل فى سياق قيادة صارت نواة لرأسمالية دولة ناشئة، أىْ فى إطار الوضع التاريخى العام لسلطة الرأسمالية التابعة لشبه المستعمرة.
وعلينا، فى سبيل تطبيق قانون الثورة الشعبية على حالة مصر، أن نفهم، عن طريق استقراء الثورات طوال التاريخ وفى التاريخ الحديث، قانون الثورات الشعبية بصورة عامة، باعتبار "الثورات" كلها ثورات شعبية، فليست هناك ثورات غير الثورات الشعبية، وهى فى كل العصور ثورات "احتجاجية" ضد ظلم نظام اجتماعى-سياسى قائم جاء به قانون التحول الاجتماعى-السياسى للمجتمعات البشرية، ولها طبيعتها المختلفة عن طبيعة التحول الاجتماعى-السياسى، كما أشرنا فى مقالات سابقة.
ويهدف المقال الحالى إلى تطبيق هذا القانون على ثورتنا، لنخرج من حالتنا العقلية الحالية، ولنتطلع إلى الأمام بتصورات مبنية على فهم "قانونية" التحولات الاجتماعية والثورات الشعبية، وليس على أوهام رومانسية لجيل من الشباب مهما تميز بالاندفاع الثورى الحماسى. ولا مناص من التشبُّث بالفهم العلمى للثورة بعيدا عن سمات العقلية البدائية.