العجوز الحلقة الخامسة والعِشرون


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4622 - 2014 / 11 / 2 - 14:41
المحور: الادب والفن     


- والآن، قال غواص الشيخ، مصائرٌ ثلاثة تصير، مصائرٌ هي في حقيقتها واحدُ المصير. مصير زينب ومصيرا ابنتيها. ستذهب ثلاثتهن سعيًا وراء السعادة لأجل بعثها على هذه الأرض، إلا أن دروبهن ستتغاير، وأبدًا لن تتقاطع. وكذلك ستتغاير وسائلهن، أمانيهن. ستستعد ثلاثتهن للتضحية بأنفسهن أيًا كان الثمن، فإلهة الخصب أمرت، وهن ما عليهن سوى السمع والطاعة! ساذجة، الأكثر شبابًا، الأكثر جمالاً، عليها الإنجاب مني. بفضل سني وحكمتي، سأفضي بها إلى الإنسان فيها، إلى خلود صنعها ومن صنعها إلى صنع الأرض الذي فقدته بعد النار الكبيرة. صهباء، الأكثر دمامة، ستواصل الإنجاب مع الجندي الوديع لِغَلِّ الشر بالشر في صالح الخير، ومن يقول الخير يقول الأرض الخضراء وازدهار الحياة. ستتحقق نبوءة عقلاء شيوخ الجبل في نصفها، وفي نصفها الثاني عندما تأخذ أمهما الطريق إلى البحر الكبير لتلد من جديد. ستجهل كل ما ينتظرها، نعم، النبوءة! نعم، الطفل الخائن! نعم، الحلم الجديد، المختنق، ككل حلم جديد! سيكون في حريتها ما وراء السور ضياعها، وستسقط، واحسرتاه، ضحية مصيرها، دون أن تعلم، ودون أن تستطيع فعل شيء.

قالت زينب لأمها:
- سأذهب هناك حيث تنمو الشجرة التي تشبه التنين ذا الرؤوس السبعة، وببلسم أوراقها سأطلي جراحي، فتبرأ.
رأتها العجوز عاقدة العزم على الذهاب، فابنتها تكابد الأوجاع. ستتركها تذهب، قالت العجوز لنفسها، لتتنفس بعض الشيء، لتتحرر من هذا المعتقل الكبير الذي هو الحياة وراء السور. ستشعر زينب بالحرية، وستبرأ في روحها وجسدها، وربما أعادت الذراع المنقذة معها. وبينا هي تفكر في نبوءة عقلاء شيوخ الجبل، فكت أمها سن الذئب من عنقها، وأعطتها إياها:
- ستسمح لك هذه بِعَضّ الفواكه الفِجَّة وقضم القشور، وإذا ما ضعت في عالم لا يعرفك ولا تعرفينه، ستدلك على الطريق كحيوان وفيّ، هذا على الأقل ما قالته لي ساحرة في سالف الزمان. وعلى أي حال، خذي حذرك من الذئاب، يا ابنتي، لا تقتربي منها، لا تتكلمي معها، لا تثقي أبدًا بها.
ربطت زينب السن حول عنقها، فازداد الضباب كثافة. ليس كل شيء على ما يرام! لكنها قررت الرحيل، الركض من وراء فكرة كاذبة، القيام بآخر محاولة. لم يكن المنفذ الذي تركه غواص الشيخ في السور غيرَ بابٍ إلى الما-وراء، هناك حيث الحرية حرة والحماية حامية.

- ومن الناحية الأخرى للجبال، تابع غواص الشيخ، ستكون الشمس الدافئة، أشجار البرتقال، الطيور الخضراء، وأشجار الإجّاص! سيكون الهواء النقي! ستسير مع الوديان التي ستسير معها، أو التي ستطير معها كما لو كانت لها أجنحة، وستشير إليها الأشجار بأصابعها، أو تخفق كالأشرعة، ومن جذوعها، سيصنع النمل الأسرّة أو السفن. ستدور الشمس دورتين، ولن يكون الليل سوى إشارة سريعة. ثم، ستصل قرب الماء، وتظن، في البداية، أنه ماء البحر الكبير، إلا أنه ماء حلو. عند ذلك، ستعرف أنها ضلت، وستطلب إلى سن الذئب دون جدوى أن تدلها على الطريق، ولكن هذه المرة، سيحل ليل دامس محل النهار، ويواصل دورته ببطء. سيخيفها الليل، ستخيفها الأمواج، وستعتبر النجوم السوداء المتراقصة على الهضبة أطفالاً، وعندما تصل فوق، ستكتشف أنها حيوانات متوحشة ذات شعر أصهب. ستصيح، فيهرع إليها أمير أجمل من بدر، أقوى من ظبي، أسرع من سهم. ولولا النجوم السوداء، لقتل الحيوانات المتوحشة ذات الشعر الأصهب والأطفال!
سيكون الليل دامسًا، فيقودهما ضوء عينيهما ليجلسا تحت شجرة نخيل سامقة. سيأخذها بين ذراعيه، وستأخذه بين ذراعيها. سيعانقها، وستعانقه. سيطلب إليها أن تعطيه شيئًا يكون عهدًا، ويحفظه منها عُرْبون الوفاء، وستعطيه التميمة التي أعطتها أمها إياها. سيشكان في حقيقة لا يرقى إليها الشك، وسينام كل منهما بين ذراعي الآخر، عاريًا، إلى جانب بندقية.
في الصباح، ستبدو لها حقيقة ما كانت عليه الليلة التي عاشتها، أجمل ليلة عاشتها، أقصر الليالي، أترعها حدبًا وتحنانًا، عندما ستكتشف أن الرجل الذي نامت بين ذراعيه، عارية، كحية في جوف تفاحة، لم يكن آخر غير ولدها، باسل! ستتركه لحلمه الملعون، وستذهب راكضة دون أن تدري إلى أين. سيتبعها ذئب، سيكلمها، سيأخذها بالقوة بين ذراعيه، وسيقوم بفعل العشق معها. لن تستحم في النهر المقدس، وبصحبة الذئاب ستتيه تسعة شهور.

قالت ساذجة لغواص الشيخ:
- ذهبت أمي ولم تعد، ذهب حبيبي ولم يعد! أنا لا أخ لي ولا أب! أنت، الحكيم، كن عائلتي! أنت، الشيخ، كن حياتي! كي أعيد لهذه الأرض الحياة أطول ما تكون عليه!
حاول الشيخ أن يثنيها عما تريد:
- اذهبي، أنت كذلك، ولا تعودي!
- لقد اتخذت قراري.
- ستكونين عبئًا.
- عليّ أن أفعل فعلتي معك.
- لن تفلتي من مطاردةِ ولدٍ غيرِ مخلص، ولن أكون لك مخلصًا.
سحب من غليونه نفسًا مديدًا، ثم نهض، وهو يفكر أن ما تطلبه منه ساذجة مستحيل، ومن العبث أكثر عبثًا، وراح بقربته يضرب حجرًا. يضرب، يضرب، يضرب...
- أين الماء؟ استشاط. أين المعجزة التي طال انتظارها؟
تمددت أمامه، ورفعت ثوبها حتى وَرِكيها. من الضروري، لأجل الأرض، من اللازم. من اللازم تجربة كل شيء، مع احتمال أن تكون هالكًا من الهالكين. فتحت ساقيها، وأمرته بنبرة لا نقاش فيها:
- اضرب بعصاك، وفجر مني اثني عشر نبعًا!

- إذن، تابع غواص الشيخ، ستسمرانني هاتان الفخذان المصبوبتان، المبدَعتان، في مكاني عقربًا عض نفسه دون أن يشاء، ولن أقول شيئًا، لن أتحرك قيد أُنملة. وفي اللحظة التي ستجذبني إليها، ستسقط دمعة من عيني على وجنتها: سأكون عاجزًا عن إنجاز فعل إخصاب الحياة! لكني لن أختار الموت، مع أنني لم أقدر على جلب الماء، أنا، ابن الماء، فأنا ملتزم بإحضار الخصوبة للأجساد، وستكون هناك أضحية، سيكون الثور أضحية.
ستصل العجائز إلى مكان يقال عنه مملكة الثور، يعيش الثور فيها بكل حرية منذ غابر الأزمان. لم يصطده أحد لما كانت الأرض خصبة، ولم يفكر أحد في اصطياده خلال كل هذه السنين العجاف. سيسمعنه، وهو يزلزل الأرض تحت حوافره، فتهرب بعضهن، وتبقى بعضهن بسكين في اليد أو حجر، وسينتظرن اللحظة الحاسمة، الحاملة لإشارة. سيأخذ الثور بالحراك، فيهتز الليل على قرنيه، ويتلألأ السكين، ويدور الحجر. وكجبل ينهار، سيسقط الثورُ القربانُ، بدون حياة. سَتَنْضَحُنِي العجائز بدمه لتعيد إليّ رجولتي، وسأجامع ساذجة. سيتفجر بركان من الجمر، وستصرخ من اللذة والألم. وبعد جماع ثان، ستسقط حبلى. سَأُوَرِّثُهَا الحكمة والمعرفة وكل ما هو إنساني فيّ، وسأموت. سيدفنونني هناك حيث وُلدت، في نهر الشهوة. من الماء جئت، وإلى الماء سأعود.
أما صهباء، فستذهب إلى لقاء جنديها السلميّ، والشمس لن تختفي بعد على جناحي صقرها. ستطغى رائحة المشمش المحاصر، وستبدو السماء زاخرة بالبنفسج. سيقومون بفعل العشق للمرة الثانية، والعجائز يراقبنهما حتى النهاية. بعد ذلك، سيقيدن الدميمة بالسلاسل، وهي عارية كلها، ويلبسن الجندي لباس النساء، بثديين، وجديلتين، وفستان أبيض يجر على الأرض. سيأمرنه بحمل صهباء حتى معبد مهجور، على مقربة من جدتها، وستقترب جدتها منها بشفرة، وتختنها. والحال هذه، حتى التأكد من وقوعها حبلى كأختها الصغرى، أرملةُ القَدَرِ هذه لن تتوق إلى ذكر ولن تضاجع الشيطان في شارع الأقحوان.

بصحبة عدد آخر من النساء، ذهبت العجوز لاستقبال زينب. كان الضباب كثيفًا كما كان عليه يوم رحيلها، منذ شهور تسعة. أول ما عبرت السور، رأين بطنها الضخم. إذن فهي حبلى من ذئب، مسكينتي زينب، كما تنبأ شيوخ الجبل العقلاء، قالت العجوز لنفسها، وهي ترزح تحت ثقل كل ألم الإنسانية. يا لتعاستنا! رمت زينب العجائز واحدةً بعدَ واحدةٍ بنظرة مليئة بالحقد، دون أن تحيي أيةَ واحدةٍ منهن، ومضت، خاضعة، خانعة، كمن يرزح تحت عبء الإثبات. بقيت العجائز هناك، وهن ينظرن إليها، دون أن يبذلن أقل حركة. لم تول المعنى المجازي اهتمامًا كبيرًا، وتركتهن بعيدًا من ورائها.

- سَيَؤُونُ بعد ذلك يوم الولادة، تابع غواص الشيخ، ستطلق زينب صرخة مروعة، ولن يكون هناك قمر في هذه الليلة، والضباب سيكون سميكًا. ستُحضر العجوز الرمل بدل الماء، وفجأة، ستكتشف ابنتها مشنوقة على غصن ملعون، وساذجة الحبلى واقفة أمامها، بينا قدما أمها تتأرجحان على ارتفاع عينيها. ستجري الولادة وسط دموع العاشقة الصغيرة، من صُلْبِ اللاشيئية: ستدخل العجوز يدها بين ساقي المشنوقة وتسحب الصبي الأول، ثم الصبي الثاني، وكلاهما سيكون على صورة صهباء، الدميمة، وعلى رؤيتهما، لن يكون للعجائز سوى سكب دموعهن، لأنهما، عندما سيصبحان في سن الرجال، أحدهما سيحب الأعداء والآخر سيبغضهم. ولكن كيف سيعرفانهما لفرط ما يشبه المحب للأعداء الكاره لهما شبه التمساح للعَظاية؟ لم يقل عقلاء شيوخ الجبل كل شيء، وستزرع النبوءة الشك في الصدور.

زلقت الخطوات. خطوات سوداء. هامات سوداء. مائة امرأة وامرأة في ثياب الحداد. ثيابهن ثياب كل يوم حقًا، ولكن ليست ليوم كهذا. تقدم النعش الموكب... وهذا الغناء المأتمي:

أنتِ مُتِّ
كلنا سنموت يومًا
لا باقٍ غير الله...

نحيب مُرّ مثقل بالحزن، إلا أنه مثلج، شجيّ. نحيب ساذجة. صهباء حبلى، والعجوز كقطعة من الخشب يابسة. اتجه الموكب الأسود إلى المقبرة... فجأة، قهقهت صهباء بفم الشيطان، وكأنها ترى في الموكب موكب زفاف. أدارت العجائز بوجوهها إليها، وحططن عليها نظراتهن الفاحصة، وجباههن عابسة. رأت رؤوسهن، وهي تقفز على الأرض، وتغدو أقنعة دامية، فتتضاعف قهقهاتها، وتتكاثر مع الصدى.

- في حكاية الموت والحب، تابع غواص الشيخ، الليل والنهار، قيل إن ولادتين جديدتين ستكونان. صهباء، الابنة المشوهة، المصوغة من ضلع اللعنة، وأختها، ساذجة، المصوغة من ضلع الرحمة، ستضع كل منهما صبيًا بسماوي جمالِ عَمِّهِ باسل، من ارتكب ما لا يُرْتَكب مع أمه دون أن يعلم، ولكنه سيعلم في يوم من الأيام.
بانتظار هذا اليوم المُقَدَّر، سيكون الميلادان في اللحظة نفسها، من غير جهد الصغرى ولا ألمها، ولكن مع أوجاع قيصرية للكبرى، ستضطرها إلى اللجوء خلال سبع ليال إلى ذراعي جنديها الوديع قبل عودتها. عندما سترى أن ابنها ليس على صورتها، ستعلن أنه ليس ابنها، فتفتح العجوز فم الطفل، وتنفخ فيه، لتقول لا حليب من امرأة حليبه حتى تنبت أسنانه. بين الصبيين الدميمين والصبيين الجميلين وريثًا، هو من ستختاره. سيقر تصرفها عقلاء شيوخ الجبل، وستعكف على نفسها بانتظار عودة منقذها.

مضت السنون، وتعاقبت الأيام والليالي، وآوت ليالي من ليالٍ الموتَ والحبَّ كلَّ مساء قبل أن تَمّحي أمام مِشعل الصباح. ارتقبت العجوز، وقد أعوزها الحب، أن تستعيد، هي أيضًا، حقوق الموت. حتى الموت العادي، على عكس ما توقع غواص الشيخ. بدأ الزمن يثقل عليها، أحسته في جسدها، وهو يبني الأعشاش، طُيَيْرًا لِسَقاوةٍ، شرسًا مذ كان، يتغذى منها بتمزيق لحمها أبدًا دون أن يكبر. أحست بمنقاره ينقبها، وكان هذا منذ اليوم الذي جرهن فيه قدرهن الثلاثيّ، قدرهن الرهيب، الثمن الذي كان على زينب وساذجة وصهباء دفعه للزمن كي تعود للأرض خضرتها، كما كانت دومًا. غير أن كل شيء كان يتوقف على ماء السماء، على ما يحتوي السحاب من عطاء ادعى الحاكم ملكه. كل شيء كان يتوقف على إرادة هذا المنقذ، هذا الباسل، الذي تأخر كثيرًا، والذي عليه جلب الريح والمطر، والإجابة إلى الأماني، كل الأماني، كل هذه الأماني الغالية، حتى تشبع كل الطيور الكاسرة على سطح الأرض. إلى أن كان اليوم الذي هبت فيه...


يتبع الحلقة السادسة والعِشرون