العجوز الحلقة الخامسة عشرة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4610 - 2014 / 10 / 21 - 12:13
المحور: الادب والفن     


العجائز معًا:
- إذن، فهم أخذوكِ في أحضانهم، ولم تعودي غير جسد مباح للجميع! لماذا أنتِ؟ لماذا جسدك غدا مذنبًا؟ جسد المرأة هذا؟ لماذا أنت المرأة؟ لماذا أنت هذه المرأة لا الأخرى؟ لماذا الفريسة؟ لماذا الغنيمة؟ الغنيمة الجميلة! والقرية كانت تنام، كل ذلك الوقت، رغم العاصفة، والناس حولك كانوا طعامًا للديدان، والحاكم الجبار يشع فرحًا وسط البرق والرعد.
العجوز ذات أمارات الحجر:
- لماذا أنت؟ لماذا جسدك غدا مذنبًا؟ جسد اللهب هذا؟ لماذا أنت لهب؟ لماذا أنت هذه المرأة التي نهشوها كلهم نهش الحجر، والتي عجزت عن نسيان أسنانهم؟ ولكنها ليست سوى حكاية، سنقول حكاية بين حكايات! حكاية بين حكاياتك!
العجوز ذات مخالب الصقر:
- حكاية دون حكاية! لأن لا أحد وقتها جرؤ على رفع إصبعه الصغيرة، ما عدا غواص الجميل، لا أحد جرؤ على الانتحار لأجلك! آه! كم نحن جبناء أمام الموت، كم نحن عاجزون عن الحب! كم نحن عاجزون عن الشعورِ بحقدٍ حقيقيّ، حقدٍ شديدٍ على الغير! فهل نحقد على بعضنا إلى هذه الدرجة؟
كل العجائز:
- لنحقد على الجبن الذي فينا،
الخسة
لنحقد على القذارة،
الخرع
لنحقد على الدناءة،
الجبن.
لنحقد على كل ما يُحقد عليه فينا
لكننا غير قادرين على التشنيع،
على التحريم.
كل شيء ذنبي يجب عليّ القول
وهذا أسوأ
مائة مرة أسوأ
يا رب، اجعلني أحقد عليّ؟
العجوز ذات دموع الملح:
- لم توقظهم العاصفة الكبيرة، لم تقتلعهم من نومهم، لم تلق بهم في قلب الريح. فيما بعد، وجدوا أنفسهم محاصرين من كل جانب، ولا أحد استطاع المجيء لعونهم، لا أحد استطاع نجدتهم، مَنْعَ غضبِ السماء! البنت المغتصبة كانت عارهم! لا أحد استطاع أن يبكيها، أن يبكيكِ، فلنبك على أنفسنا! لنجعل من دموعنا نهر الاحتقار!
- لنفرغ العاصفة التي فينا
لنبك
لنبك
لنذرف دموعنا حتى نهاية الأزمان.
كانت شهقاتٌ تأتي عَبر النافذة ضاربةً أذني العجوز، بينا أخرى لم تزل تقرعُ في ذاكرتها. جمدها ذلك الحوار الرهيب المنعقد بين صرخات نساء معذبات وصرخاتها. قرعت في أذنيها الشهقات: شهقات داخل أعماقها، وهي تصعد لُجَّ ذاكرتها، وشهقات خارج أعماقها، وهي تَقْدُمُ مِنَ الهناك. تصادت التي فيها والتي ليست فيها، وامتزجت في شكوى مأتمية واحدة ترن في الأفاق.
أخذت رأسها ملء يديها، وراحت تئن بدورها، تئن كعليلة، وفي أنينها يمتزج الماضي الذارف من عينيها الدموع السيالة والحاضر المسموعة شهقاته في الحجرة وفي الخارج في آن.
دَوَمان.
إلا أنها لم تقدر على احتمال هذا النواح أكثر، نواح يكبلها بلحظة مرعبة تريد أن تنساها بأي ثمن. لليلة واحدة فقط. أن تنساها. لتغلق عينيها على صفحة بيضاء من حياتها، لو بقيت صفحة بيضاء في حياتها. نهضت دفعة واحدة، وأطلقت صرخة مزق صريرها لها الأنفاس.
حط الصمت...
الهدوء كلي.
عما قليل، عادت الشهقات تتصاعد وراء النافذة، وكأنها تسعى إلى كَسْوِ صِبْغَةِ الأسلوبِ بالعراء. كم هو ملطخ هذا الفصل المكتوب بريشة لآلئها السوداء! ذهبت إلى الباب، وفتحته، فازدادت الشكوى، شكوى مَنِ افْتُضَّتْ بكارةُ شيخوختِهَا. في أيام العَجَزَة، لا تنفك العجائز يعشن في الخيال. كان الخيال فاكهتهن، والنواح حقلهن، ومن وراء كل شجرة من الشجر الميت كانت امرأة تبكي بكاءً يقتلع الأجفان من شروشها. التقطت العجوز الحجارة، ورجمت الأشكال السوداء، التي، كالقطط نطت، وامحت. وامحت الذكريات، هي كذلك.


يتبع الحلقة السادسة عشرة