العجوز الحلقة الحادية عشرة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4606 - 2014 / 10 / 17 - 13:24
المحور: الادب والفن     


........................
عرّى سيف ابنه، حان الوقتُ لِيُعِدَّهُ حصانًا ومَسْكَنًا، ليجعل منه رجلاً، منذ المهد، وارثَ حقٍ للمقاطعة، وإن تأخرَ عن موعدِهِ تألم، تألم كثيرًا. حرق الموسى بالنار، ثم أمسك الفرج الصغير بأصابعه، "الحمامة" كما كانت تقولُ جميلة، جذب الغُرْلَة، وبضربة خاطفة قطعها. عوى الرضيع، فخاف سرب من الطيور. تفجر الدم أحمرَ باحمرارِ نهر الشهوة مع النيران الأولى للفجر، ومن وراء الباب، كانت البنات الصغيرات الثلاث يبكين. كن خائفات من رؤية الحمامة، وهي تُذبح. جمع أبوهن الدم في كأسٍ مِنَ الكريستال أخذ منه جرعة، وصب الباقي على نبتة زهرها أزرق. لما اطمأن إلى نوم الطفل بين ذراعي أمه، رجع إلى الحقل ليكمل عمله.
لقد بقي له من العمل كثيرًا، فَدَرْسُ القمحِ كان عملاً للرجال. ومع كونه وحيدًا، نَشِطَ وحده فيما توجب الدَّرَّاسة عليه، من أجله، من أجل ابنه، بعون الضيف طبعًا، بانتظار أن يكبر الصبيّ، أن يساعده، ليمزج حياته بحياة الأرض ويحميها، هذه الأرض، خضراء أم أقل اخضرارًا، كما تشاء الفصول، وفقط كما تشاء، وفي ذلك الوقت كانت الفصول إلى جانيهم. لم تكن قبل الأوان، لم تكن بعد فوات الأوان، كانت مضبوطة ضبط الساعة، وكانت ميثاقهم مع الطبيعة. نعطيكِ قوتنا كلها، حبنا كله، لا نألوا جهدًا في سبيل حبك، وأنت لا تُعِدِّينَ لنا أية مفاجأة. مع هذه الفكرة كان سيف يدير الدَّرَّاسة، إلا أن عواء ولده في اللحظة التي ختنه فيها لم يتركه لحظة واحدة. سيغسله غدًا في النهر المبارك، وسيكون تطهيره كاملاً. لم يزل بعدُ صغيرًا، ولكن ابتداء من هذا العمر، سيكون جاهزًا للزواج.
في الليل، نادته جميلة:
- تعال لتنام، يا سيف! أنت تعبان، يا ابن عمي! غدًا بكرةً سيكون لديك أيضًا الكثير من العمل طوال النهار، وسيكون النهار طويلاً.
لأجل هذا، لأجل ابتعاده غدًا عن صغيره، طوال نهار بأكمله. كان ينحني برأسه على الطفل النائم تحت الناموسية، وكان يحكي معه، يبتسم له، يدعو له.
- أريد أن أرى وجهه وعيناي مفتوحتان وعيناي مغلقتان.
جاءت جميلة إلى جانب زوجها، أحاطت كتفيه بذراعها، وتأملته برقة. يحبه كل هذا الحب إذن! يعبده! ليكون له وفيًا لما يكون كبيرًا. وفاءٌ، إخلاصٌ، تفانٍ. الطفل لما يكبر يجعل من أبويه طفليه، مسئولية كبيرة لم تفكر جميلة فيها. كانت نظرة سيف من العمق بحيث ضاعت فيها، وراح قلبها يخفق بقوة قوية. رأت نفسها تقع في هاوية، نوع من اللولب الحلزوني لا نهاية له، فخافت عليهم كلهم من هذه النظرة الأبوية، العميقة جدًا، العمياء جدًا، المِلكية جدًا.
- وبناتك الثلاث؟
أشارت بإصبعٍ ترتعش إلى الصغيرات بشعرهن الطويل الأسود، وهن يستلقين على بساط، ويلفهن الغطاء نفسه.
- هل سيكن بوفاء أخيهن؟
- نعم، لكن المرأة لزوجها. قبل الزواج، بانتظار أن يكبر أخوهن، سأكلفهن بكل الواجبات، فيعطينه كل السلطات، يكون حاميًا، ويكنّ محميات. في الوقت الحاضر، لن تحميه البراءة، أنا من يحميه.
بالطبع أنت من يحمينا، هو والبنات ونحن كلنا، نحن الذين ترهقنا البراءة. تبدلت نظرته، غدت نظرة سيف التي تعرفها، النظرة العطوف للمخلص زوجها. قبلته، فشدها فجأة من ذرعها، ودفعها على صدره. أوجعها، وحيرها تبدله المفاجئ. عادت تلك النظرة الغائرة الغور الغامضة الغموض، نظرة المكان فيها تعرى من الأشجار.
- اسمعي، أنا قلق من أجله، قال بلا لف ولا دوران.
- احمنا، يا رب! ارحمنا!
- أنا قلق، لا أدري لماذا.
هي كذلك. نظرته ما كانت تقلقها، نظرة من فقد أعز صديق لديه، لكنها حاولت التخفيف عنه:
- أنت تَعِبٌ. لم تشأ ترك الحقل طوال النهار. سألتك مرتين التوقف قليلاً لتأكل شيئًا، لكنك رفضت. قلت لي يجب أن ينتهي الحصاد اليوم. ومرة ثالثة اقترحت عليك أن تأكل قليلاً قبل أن تُدخل الحبوب المستودع، فاكتفيت بشربِ طاسٍ من الحليب. لهذا أنت قلق. لم ترتح ولم تأكل بما فيه الكفاية. عندما نقوم بعمل شاق كهذا وخلال نهار كامل، من الطبيعي أن نكون قلقين من التعب والعياء، هذا كل ما هنالك. أنت فريسة الحمى؟ لستَ ساخنًا. هيا، تعال ننم قليلاً! عليك بالنوم، يا سيف. تعال إلى الفراش، يا حبيبي! عندما تلفني بذراعك ستنسى قلقك. قلقك قلقي. إنها نظرتك، يا حبي! أنا خائفة من نظرتك! تعال إلى جسدي، وانْجِدْهُ! تعال إلى ثديي، والْقَمْهُ! سأجعلك تغرق في بطني، بعيدًا عن نظرتك!
أخذها بين ذراعيه، وضمها بقوة جِد قوية، جميلتَهُ، ولم يشعر فيها، ككل مرة يضمها، بِبَلَدِِهِ. هجرته إلهة الجمال. حتى شفتاها لم يكن لهما طعم النار والفراولة نفسه. كل شيء تغير فيه. كان غياب الطمأنينة، لا غير. أحسته، هي أيضًا، غريبًا عن نفسه، فرجته من جديد المجيء إلى السرير، الاختباء تحت الشرشف. كانت البنات ينمن ليس بعيدًا، فتحدى سيف همومه، حالته المضنية، حالة من يتألم من غير أي سبب، هواجسه السوداوية التي لم يحس بها أبدًا سوى مرة واحدة، قبل موت أبويه، قبل ذلك المرض العضال. قاما بفعل الحب عرايا إلى جانب أطفالهما، بلا غطاء يغطيهما، بلا خجل من مفاجأتهم لهما. ربما كان الخجل من الحب ما يعذبه دون أن يعلم. والحال هذه لا. لم يكن ليخجل أبدًا من حب جميلة. كان مستعدًا لكل شيء من أجلها. حبه لها كان مجده. كان شرفه ذلك الجسد المنتفض تحت جسده. ثم، لقد توقف عن التفكير. جسد جميلة المقدم إليه كان ينسيه العالم بأكمله. ولكن، فجأة، أعادته طرقات عنيفة إلى ذلك القلقِ المُشْقِيِّ الذي أعاد إليه نظرته الداجية، وصرخات قوية:
- يا أهل الدار! النار، يا أهل الدار! نار جهنم!
فتح سيف الباب بتهور، وقفز إلى الخارج بدل أن يقفز إلى الداخل ليذهب بالطفل عن الخطر بعيدًا. لعدم الفطنة، لعدم البصيرة. هذا التهور، ارتكبه أول مرة عندما نسي أن النار باستطاعتها أن تنشب في أية لحظة. قَلَقُهُ اللامُفَسَّرُ تَفَسَّرَ. وثاني مرة عندما نسي أن نسله باستطاعته أن يحترق بالنار. واحسرتاه! تبعته جميلة على الطريق ذاتها، طريق الرعد، النار، والبرق. تبعته على الخطأ ذاته. رمت بنفسها في هوة نظرته. لقد قُضي الأمر! لعنتهم جميعًا قد بدأت! احترق المستودع، وتفجر تنين النار برؤوسه السبعة. صرخت كالهالكة في الجحيم، بينما جمد هو، كحطبٍ على وشك الاحتراق عشية عيد. ما قلَّ حَظُّهُما عن حَظِّهِم، فصاح الناس من كل جانب:
- ماء! ارشقوا النار بالماء!
تعالى اللهب، وزمجر الجمر. نعقت غربان الرماد، ودفنت جميلة رأسها في صدر سيف منتحبةً. وهو، كان هناك، مذهولاً، محملق العينين، مشتعل الوجه، جسده مرساة، وروحه، ويا للغرابة، بعيدة عن أن تكون روحًا قتالية.
- ارشقوا النار بالماء! النار بالماء، النار ب...
انتزع قدميه من الأرض، وقفز باتجاه البئر. كان المستودع قد احترق تمامًا، والنار قد زحفت إلى الحظيرة، وعما قريب إلى بيتهم. غواص الجميل كان هناك، كان ولدًا، وكان يبكي. كان صغيرًا وضعيفًا. كل عالم الذهب والحلم ذاك كان عاجزًا عن الدفاع عن نفسه. القيام بهجوم مضاد كلمات لم تكن جزءًا من لغتهم، المقاومة، القتال أقل. كانوا كلهم ضعفاء ومجردين من السلاح أمام النار. وتلك الصرخات، وتلك النداءات، وذلك الصهيل. كانت القرية الملونة بلون النار جميلة بشكل غريب. وهناك، غير بعيد، في قلب الظلام، كان البرابرة يستعدون للهجوم. كان دورهم ليحققوا حلمهم. أمانيهم. وخلال عدة لحظات، ستعود كهوفهم إلى الماضي. كانوا ينتظرون هذه اللحظة منذ زمن طويل. كانوا يتألمون. للألمِ مردودٌ لدى الناس الذين يفكرون. فكروا فيها مليًا تلك اللحظة، طويلاً، طويلاً جدًا، مع أصدقائهم الذئاب. هذه الحيوانات ذات القلب الرقيق على عكس ما يقال. كانت بنادقهم على أهبة الاستعداد للخروج من مخابئها وإنهاء فعل الحريق، وذلك بالقضاء على أولئك الخوافين، مع شجرهم وظلالهم. كانت ليلة الحريق الكبير، المجهول المعلوم، الأسود الأبيض، للقنابلِ قبلَ يومِ قيامةِ العدو، كانت الحيلة البريئة، الحقد العطوف، الخداع الصادق، الخيانة الوفية، و، قبل كل شيء، المشروع البنّاء للهدم الكامل الذي اكتمل شكله في قلب الحاكم، وراحَ يتضخمُ كحشدٍ فوضويٍّ مِنَ الجراثيمِ المبيدة.
فلتحي الحيلة إذن، فليحي الخداع، الخيانة، الحقد... بعد موت أبي جميلة، كل أولئك الرؤساء الطامعين في المقاطعة بذروا بذور كل هذا، بخداع، وخيانة، وحقد. كانوا أبناء الحيلة، أولئك الأوغاد. نصابو الوطن، كما كان يقول الفلاحون التعساء. مع شعارهم المعروف: "الدين لله والله للجميع"، قُطّاع الطرق، فاقطفوا ما بذرت أيديكم! ولكن كان من اللازم التفكير في هذا من قبل، في مثل تلك الشروط، كان من اللازم انتظار قدوم البرابرة، لأن "الحاكم باسم الله" هذا كان مع ذلك مقربًا منهم، حاكمًا كباقي الحكام الآخرين، رئيسًا كباقي رؤسائهم. ربما كان أكثر عُتِيًا وأكثر تجديفًا، إلا أنه يبقى حاكمًا كالآخرين! بعد السحاب، أراد الأرض، وبعد الأرض الرجال. بينما رؤساؤهم، كان الرجال من يريدون، وبعد الرجال الأرض. غالبًا ما كانوا يخطئون، أولئك القرويون المساكين. كانوا غالبًا ما يرتكبون من التبصر عدمه، ومن الخطأ قاتله. بدل أن يهاجموا البنادق فضلوا مهاجمة النار، وانتهى بهم الأمر إلى الهزيمة النهائية. غدت الجنة لهم جهنم، ولم تعد من جنة هناك في مكان آخر غير قلوبهم... فَرْقَعَ كل شيء بمتعة لونها النار الماحقة، في تلك اللحظة التي يدافع فيها مساكين الناس أولئك بأيديهم العارية. غدت النار أشرعةً، ونهر الشهوة رمادًا. جفت كل تلك الشهوات التي لم يُحْسَنْ اشتهاؤها... ومع ذلك، قرر سكان القرية الحياة بعد هلاك: قطعوا جريد النخل وضربوا ذاك العملاق الأحمر المقهقه، المتلوي بآلاف الوجوه، القاذف لآلاف الألسن. ضربوا في الوقت نفسه الفاكهة، دمروا الأراضي المزروعة، وخنقوا بنات الظل المتموجة أوراكها على واجهات البيوت. هكذا كانوا يتصورون نهاية العالم، فهدموا البيوت، و، بينا كانت تجرفهم المتعة الكَدِرَة، ضاعفوا هجماتهم اللامجدية ضد الجحافل الوحشية لزمرد النار الزاحفة وياقوتها. حتى أن بعضهم، عندما لمحوا غربانًا بمناقير صفراء ومخالب حمراء انطلقت فوق غابة اللهب، أطلقوا بعض الطلقات، لا أكثر من بعضها، بينا أبحرت أشرعة الدخان في السماء قبل أن تتمزق...
......................

يتبع الحلقة الثانية عشرة