اليوم الثالث مِنْ «يوميَّات سجين سياسيّ اسمه زعل»


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4591 - 2014 / 10 / 2 - 08:15
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن     

صحونا في الثامنة صباحاً، والتفتُّ إلى يميني بصورةٍ تلقائيَّة.. فيا لعِظَمِ دهشتي! كان الرفيق «نهار» (قائد «فريق الأسد المرعب») لا يزال يغطُّ في نوم عميق.. فرحت أسخر منه وأضحك. ولقد وفَّر هذا الحدث «الاستثنائيّ» فرصةً ثمينة لسكّان الغرفة (14، 15) كي يسخروا من الفريق وقائده، الَّذين أهلكونا ليلة أمس بمناقشاتهم المستفيضة لخطط العمل الرياضيّ الكبير الَّذي كان من المفروض أنْ يشرعوا بإنجازه ابتداءً من الساعة السادسة مِنْ صباح هذا اليوم.
على أيَّة حال، تسلّينا. وبعد استيقاظي، قمتُ إلى حمَّام الغرفة، وتناولتُ إبريقاً مِنْ بين مجموعة أباريق بلاستيكيَّة معلَّقة على جداره بخيوط رفيعة من القنَّب، ومضيت إلى الفورة* وهي تبعد عن غرفتنا حوالي مائة وخمسين متراً؛ حيث نخرج إليها من بوَّابة شبك (1) ونمرّ مِنْ أمام بوَّابة شبك (2) ثمَّ نميل إلى اليمين وندخلها.
المهم، بعدما عدتُ من الفورة غسلتُ يديَّ بالماء والصابون وحلقتُ ذقني، ثمَّ جلستُ لتناول فطوري مع الرفاق. وفي هذه الأثناء، بدأتْ سمَّاعة السجن تعلن أسماء المطلوبين لشبك الزيارة.. ونودينا (أنا ونهار وحسن ونايل ).. فنهضنا عن الفطور، وغسلنا أيدينا وأفواهنا ولبسنا أفضل ما لدينا، ثمَّ خرجنا إلى شبك الزيارة، فوجدنا الرفيق حسَّان** ينتظرنا هناك.
سلَّمنا عليه، ووقفنا معه قليلاً، ثمَّ نادينا الآخرين لمقابلته. ولم أتمكَّن مِنْ محادثته رغم أنَّني كنتُ راغباً في ذلك. فقد كان الرفاق جميعاً يريدون محادثته والاستفسار منه عَنْ أخبار الحزب ورأيه في الكثير من الأحداث السياسيَّة. وقال حسَّان، وأنا أصافحه مودِّعاً، إنَّه سيعود لزيارتنا قريباً.
عدتُ إلى الغرفة وجلستُ على برشي، وكان صوت أم كلثوم يأتيني مِنْ مذياع «مقهى أبو رومل» المجاور للمشنقة، مردِّداً: يطوِّلوك يا ليل..
كنّا لا نزال في بداية النهار، وفكَّرتُ بأنَّها في كلّ الأحوال لا يمكن أنْ تكون الأغنية المناسبة في السجن، واحترتُ في مزاج صاحب المقهى، وبالأحرى بالإذاعة الَّتي تبث هذه الأغنية في مثل هذا الوقت من النهار. وحاولتْ أن أصرف سمعي عنها، غير أنِّي، برغم كلِّ ما بذلته مِنْ جهد، لم أنجح.
وأراد عمران السبع أنْ يبدي بعضاً مِنْ مظاهر سخائه، فاقترح أنْ نشرب على حسابه – أنا ورفاق آخرون في الغرفة – أيَّ شيءٍ نريده، من القهوة المجاورة، التي كان مذياعها لا يزال يردِّد «يطوِّلوك يا ليل..».. فطلبتُ ميرميَّة، بينما طلب الآخرون قهوةً وشاياً ويانسوناً..

عند الظهر؛ بالتحديد، عند إغلاق الأبواب لإجراء العدّ اليوميّ الأوَّل*** المعتاد للمساجين في مثل هذه الوقت، زرتُ حمد في الغرفة رقم (11)، وبعد الغداء تحادثنا معاً ومع سكّان غرفته إلى أنْ فُتحتْ الأبواب مِنْ جديد في الثانية ظهراً، حيث بدأتْ فترة الزيارة الثانية، وعندئذٍ جاء أخي خالد لزيارتي؛ فتحدثنا طويلاً عن القرية والأسرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*«الفورة» هي المراحيض العامَّة للسجن.. وربَّما كانت الكلمة موروثة من العهد العثمانيّ.. والمكان عبارة عن صـفَّين طويلين متقابلين من المراحيض، ارتفاع الواحد منها يصل إلى ما دون نصف قامة الإنسان، ولا أبواب لها، ويجلس مَنْ يقضون حاجاتهم فيها في مرمى أنظار الجالسين في الجهة المقابلة. وذات مرَّة رأيت أحد السجناء وقد وقف في المرحاض المقابل، مديراً ظهره لي وللجميع، وراح يمارس العادة السريَّة علناً مِنْ دون أنْ يعبأ بأنظار السجناء الموجودين في الفورة.
وأعود إلى كلمة الفورة فأذكر طرفةً لسجينٍ عاد إلى البلاد بعد سنواتٍ قضاها مع الثورة الفلسطينيَّة، فاعتقلته السلطات فور عودته ووضعته في سجن المحطَّة.. فكان يقول ساخراً: لقد جئنا من الثورة إلى الفورة.
**حسَّان عضو نشيط في قيادة الحزب، وكان بمثابة أب روحي لجيل الشباب فيه. كما كان مِنْ بين مَنْ سُجنوا لسنواتٍ طويلة في الجفر.
***العدّ الثاني يتمّ بعد إغلاق الأبواب مرَّةً أخرى في المساء.