رحلة مؤنس الرزَّاز الأخيرة بعد متاهة الأعراب في ناطحات السراب [1]..


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 6492 - 2020 / 2 / 14 - 20:42
المحور: الادب والفن     

(صادفت يوم 8 شباط/فبراير 2020 الذكرى الثامنة عشرة لرحيل صديقنا الغالي الأديب الأردنيّ الكبير مؤنس الرزَّاز)

«كنَّا خمسة نجلس في المقهى إلى طاولة واحدة ونتبادل حديثاً طويلاً وممتعاً. غير أنَّ أحدنا، وكان محور الجلسة طوال الوقت، غفا فجأة.

ظننَّا أنَّها استراحة بين شوطين من الحديث؛ فرحنا نتسلَّى بالنظر إلى بعضنا البعض، أو إلى الآخرين مِنْ حولنا، أو إلى رفيقنا النائم نفسه.

غير أنَّ نومته طالت أكثر ممَّا توقَّعنا؛ فرحنا نحاول إيقاظه، ولكن مهما فعلنا لم ننجح، فأصابنا الهلع. وعندئذٍ، رحنا نحاول متابعة حديثنا، الذي انقطع، كأنَّ شيئاً لم يحدث؛ غير أنَّنا أيضاً لم ننجح؛ فرفيقنا الذي غفا؛ رفيقنا الذي كان مؤنساً جدّاً في ما مضى ولم يعد كذلك؛ يُصرُّ على البقاء بيننا!»
(أقصوصة بعنوان «عصابة» مِنْ كتابي «الطيران على عصا مكنسة» الصادر في العام 2009)

«سعود...
تُرى مَنْ ينتظر مَنْ؟
ما الذي يأتي ولا يأتي؟
الحافلة التي تنتظر، بيأسٍ أو برجاء، الرّكّاب والمسافرين؟
المسافر الغريب الذي ينتظر حافلةً تأتي ولا تأتي؟
أم محطّة، فيها الفردوس والجحيم معاً، تنتظر مسافرين لا يأتون وحافلاتٍ لا تمرّ... بينما يتقدّم مسافرون غير منتظرين، وتُقبل حافلات لا تتوقّعها المحطّات؟!»
(مؤنس الرزَّاز – مجلّة (أفكار) العدد 150 آذار 2001)

عندما رأيتُ جثمانه يخرج من المشرحة محمولاً على الأكتاف، مشيتُ مبتعداً عن المكان، لكنّني لم أستطع منع نفسي من الالتفات إلى الوراء قليلاً ومِنْ دون تركيز. وعندئذٍ بدا لي الجسد المحمول أقلّ حجماً وطولاً مِنْ ما كان عليه في الحياة. وكان ذلك مخالفاً لفكرةٍ حملتها منذ طفولتي في القرية، حيث كنتُ أسمع أنَّ الناس يزدادون طولاً بعد موتهم. وشعرتُ بالحزن لأنّني لم أحدّثه عن هذه الفكرة ولن أتمكّن مِنْ ذلك بعد.

وضعوا الجثمان في سيّارة نقل الموتى وأغلقوا بابها عليه. أمّا هو فقد صعد إلى جانبي في سيّارتي، ورحنا نتبع السيّارة التي تقلّ جثمانه وهي تغادر مستشفى الجامعة الأردنيّة وتنحرف باتّجاه شارع الصحافة.

رنَّ هاتفي المحمول، فإذا هاشم غرايبة على الطرف الآخر يسأل: أين وصلتم؟

قلت: عند جسر الجامعة. أين أنت؟

قال: عند مسجد الجامعة؛ سأكون وراءكم مباشرة بعد قليل.

كان قادماً مِنْ إربد.

تجاوزنا جسر الجامعة ونحن، أعني مؤنس وأنا، صامتين. ومِنْ حينٍ لحين كنّا ننظر إلى الوراء فنرى موكب السيّارات الطويل يتبعنا ثمّ نعود لننظر إلى الأمام مِنْ دون تعليق. وفجأة راح مؤنس يستذكر بعض المقاطع مِنْ مخطوطه «الاعترافات» أو «السيرة الجوّانيّة». وهو كما وصفه:

«آخر العنقود.. هذا الكتاب. آخر المحطّات»[2].

وأضاف واصفاً نفسه:

«آخر مَن انتحر دون تخطيط ولا موقف ولا ذريعة».

ثمّ راح يتلو «منفستو الخارجيّ – بيان الخارجيّين»، فقال:

«أيّها الخارجون عن قانون الجاذبيّة أقيلوا عقولكم واحتفظوا بخيالاتكم».

«تعالوا نؤسّس شلّةً في الخواء وللخواء. تعالوا نقطع أصابعنا عندما تقبل المرأة الزنبقة أو السيّدة الباذخة أو "باء" أو "سين" أو لبنى أو المرأة القنبلة أو مارغريت.

أيّها الخارجون على قبائلكم تعالوا نخرج مِنْ جلودنا.

خارجون، خارجون، خارجون.. وباطنيّون أيضاً!

تعالوا نتظاهر بلا مطالب ولا شعارات ولا أهداف ولا هتافات.

دعونا نخرج في مسيرة كبرى عن مسار الكواكب. نُقلِع حين يهبط الآخرون. وننحطُّ حيث يحلّق غيرنا.

تعالوا نبايع "باكونين" فيلسوف فوضانا. فلنرفض المؤسّسات والدوائر والمراجع والطوابع ومدير قسم دائرة اللوازم بما نحن جماعة لا تَلزَمها الأشياء».

كنتُ أستمع إليه وأنا أركّز نظري على السيّارة التي تقلّ جثمانه كي لا تضيع منّي في زحمة السير، وما لبث أن انتقل إلى تلاوة فقراتٍ مِنْ غزليّاته بأزرا (آلهة الموت في الحضارة الرزّازيّة التي سادتْ وبادتْ في بادية الشام ـ بحسب قوله):

«أزرا...

مأخوذٌ بكِ. مأخوذٌ بقميصكِ الدمويّ.

بدهاليزكِ المكيّفة الهواء.

ثمّة جحيم مالح وفردوس رماديّ على الأرض، والعلاقة بينهما جدليّة. أنتِ، يا أزرا، سكرة خضراء.

أنتِ...
***
أزرا.. مَنْ غيركِ يقبل بي كما أنا.. بكامل عيوبي الفاضحة بلا قيدٍ أو شرط

عيوبي المشعشة بشاعة

عيوبي الكافرة المكفهرّة

المعشوشبة أدغالاً وعتمات.
***
أريد، يا أزرا، ملجأً سريّاً تحت الأرض كي أمارس موتي بلا طموح (...) أرغب في قلعةٍ تحت الأرض بعدما انهارتْ قلعتي الجوّانيّة الحصينة، حين كبا حصان طروادة.

قلعة ضيّقة خائفة سريّة تحت الأرض أُنظّم بها حركة موتي المقاوم. مِنْ تحت.. سوف أقاوم.
***
الخطّ البيانيّ ينحدر... نحو ماذا؟

نحو الحضيض طبعاً.

القعر مريح، يغدق عليّ ظلّ اليأس وطمأنينة الاستسلام.

ها أنا مسجّى بلا مقاومة.. وأزرا تغطّيني ببطّانيّة مِن القبلات، على قشعريرتي».

كانت الجنازة، آنذاك، قد انحرفتْ مِنْ عند دوّار جمال عبد الناصر باتّجاه الدوّار الثالث، ورحتُ أتذكّر دعوات مؤنس الملحّة لأزرا، طوال السنتين الماضيتين، لتأتي إليه سريعاً وتأخذه على حين غرّة:

«أزرا..

معاكِ الدنيا امتصّتْ رحيق ما تبقّى مِنْ قوّتي، اقبضي على روحي وهي في ذروة تألّقها، اقبضي عليها وهي ما تزال بطلة الحلبة.. لا تمهليها فينهشها جرذُ العَفَن.

أزرا.. تعالي، لا تردّي على سميحة، لا تنخدعي بهاشم وسعود ويوسف[3].
***
اقطفيني من العدم الشاحب وخذيني إلى الغيب المتفتّح

إنَّني خطأٌ شائع: مثل الحلّاج وفان كوخ، وبناء على ما تقدّم، ذوّبيني بدروس "الصرف" "نحو" المجارير التي ابتلعتْ فرج الله الحلو.. وصرفته نهائيّاً ما دام خطأً فاحشاً في عيون عبد الحميد السرّاج، عميد الصرف السيباويهيّ.

أزرا.. إنّني خطأٌ فاحش، فاشطبيني، صحّحيني بحربة ممحاتك
***
أعوي عواء ذئبٍ مثخنٍ وأناديك:

ـ أزرا.. تعالي، لقد بلغتُ أرذل العمر بعد نصف قرن فقط من الطراد على هذه الأرض اليباب المسيّجة بأفقٍ مِنْ غار فقدان السويّة وعوسج العُصاب.

والذئبُ المثخن بالمرارة النازفة السوداء.. خطر.

تعالي.. وإنْ لم تأتِ انقضضتُ أنا عليكِ انقضاض ذَكَرٍ عُصابيّ خالع على امرأة لذيذة في شارع مقفر..

وهي تمضي مخلوعة القلب هلعاً، وتتعثّر

تعالي.. آمركِ أمرَ الضحيّة للجلاّد. أمرَ الأرض للشمس التي تدور حولها بالرغم مِنْ أنفها: عاشتْ الحريّة ماجدة عربيّة خالدة!

أزرا.. لا أتمنّى سوى الموت. اخطفيني خطفاً سريعاً لئيماً.

اقبضي على روحي غدراً. كوني طعنةً مباغتة غادرة في الظهر يا حبيبتي.

عند ذاك المنعطف حيث لا أتوقّع مديتكِ الساطعة سرّاً.

تعالي اِلعبي معي الورق ولتغازل قدمكِ اليسرى قدمي اليمنى تحت الطاولة.. بينما الشركاء من اللاعبين يمضون في غيّهم الأبله:

وهناك في ظلّ سرير اللعب المشترك وفراش التواطئ الغرائزيّ حيث فحيح المرأة يوقد لهاث الرجل.. اطعنيني.

طعنةً واحدةً مظلمة في الظهر، ضربةً حادّة النصل بين الوريد والوريد احتجاجاً على خيوط القدر. ورفضاً لعنكبوت القوانين.. وشبكة الظاهرة الإنسانيّة المعقّدة».

كان ثمّة مصوّر تلفزيونيّ يظهر مِنْ حينٍ إلى حين على الرصيف موجّهاً كاميرته إلى السيّارات المنتظمة في موكب الجنازة. وعندما هبطنا باتّجاه «رأس العين»، كان المصوّر قد انبطح على الرصيف وراح يصوّر السيّارات مِنْ الأسفل. نظر «مؤنس» إليَّ مستغرباً؛ فأفهمته بتعابير وجهي أنَّني مثله مندهش من الأمر ولا أملك له تفسيراً.

عندئذٍ، عاد إلى استذكار مقاطع أخرى من اعترافاته:

«عبورٌ هذه الرحلة من المهد إلى اللحد، مجرّد عبور بأدغال أحزان تفتح في الربيع المقبل ابتسامات الصحارى.

عبور.. مجرّد عبور له نكهة حبور بسيط ملتبس، عبور على جسور العدم والخلود».

وراح يمسح شاربيه الطويلين براحته، كشأنه دائماً كلّما أخذه الشرود أو انهمك في التفكير.

وكان شارباه اللذان كانا طويلين كشاربي مكسيم غوركي قد تعرّضا لمحاولة تشذيبٍ بيدٍ غير محترفة، حيث بدتْ بعض الشعيرات أطول مِنْ سواها. وكان على هذه الحال نفسها عندما رأيته لآخر مرّةٍ قبل غيابه الأبديّ بنصف ساعة، وفكّرتُ عندها بأنَّ ملامح الطفل قد أصبحتْ أكثر وضوحاً في وجهه بعدما أصبح شارباه رفيعين.

ولم أعرف لماذا راح يتحدّث كثيراً مستذكراً العديد من الأصدقاء، وبعضهم لم يكن قد رآه أو تذكّره منذ مدّةٍ طويلة. وفجأة انتبهتُ إلى صوته يتلو مقاطع أخرى من «الاعترافات»، وكنّا آنذاك قد بدأنا نصعد باتّجاه أم الحيران:

«ما أروع الحياة، الحياة إحساس مرعش بنداء حريّة مطلقة، الدنيا تتحكّم بها قاعدة الضرورة.

الحياة نطاق الخيارات، الدنيا مواقع الحتم، الحياة خروج عن القاعدة وعليها. الدنيا انضباط المضطرّ.. أو المذعن».

وصلتْ الجنازة إلى «أمَّ الحيران»، وبينما كانت تقترب من المقبرة، راح مؤنس يتلو المقطع التالي:

«حيواتنا كالسحب تتشكّل في دار قاضي القضاة لتنحلّ وتنقشع عند الأطبّاء.

بين سلطة القاضي الصارم وامتيازات الطبيب المهرّج، دعوني أمرّ بأبهة العاطلين عن العمل، أقصد المتسكّعين النبلاء والمشرّدين جرّاء موقف فلسفيّ. أقصد الخيبة المبهجة».

وقفتْ سيّارة نقل الموتى أمام مسجد المقبرة، وأُنزِلَ الجثمان منها وأدخله المشيّعون المسجد للصلاة عليه بينما وقفنا (مؤنس ويوسف الحسبان، الذي ترجّل مِنْ سيّارةٍ أخرى، وأنا) على رصيف الشارع المارّ مِنْ أمام الجامع، ورحنا نثرثر على سبيل تزجية الوقت.

وعندما طال الأمر قليلاً، اِقترح مؤنس أنْ ندخل المقبرة بانتظار دخول الجثمان. فما إن هممنا بالدخول حتّى عاد إلى تلاوة اعترافاته:

«في رحم أزرا سلامي تنتظرني سكينتي المرتجاة.

في أحشاء أزرا سلامي الوحيد ونهاية مسلسل الزلزال الدراميّ».

وقال يوسف موجِّهاً كلامه لمؤنس: الآن أكتشفُ متأخِّراً – مع الأسف – أنَّك كُنتَ جادّاً في دعوتك الملحاحة لأزرا لتأخذك إليها!

هززتُ رأسي مؤيّداً كلامه ومؤكِّداً أنَّني أنا أيضاً كنتُ قد فكَّرتُ على النحو نفسه.

عندئذٍ، نظر مؤنس إلينا والدهشة بادية على وجهه وقال: كنت أتخيّل أنّني كنت واضحاً جدّاً عندما رحتُ أقرأ لكم خلال السنتين الأخيرتين بعض مقاطع اعترافاتي التي أغازل فيها أزرا آلهة الموت.

قلتُ له: بصراحة؛ كنتُ أعتقد أنَّ هذا لم يكن أكثر مِنْ شكلٍ مِنْ أشكال الاحتجاج على الأحوال المتردّية والأحلام المتكسّرة والطموحات المتلاشية، حسب.

قال مستغرباً: أهذا ما كنتَ تظنّه حقّاً؟!

قلتُ: نعم؛ فلم أكن لأصدِّق أنَّ أحداً يمكن أنْ يحبّ الموت، بل ويعشقه، إلى هذا الحدّ، كما أنَّني كنتُ ألحظ نوعاً من التحفّظ في نبرات صوتك وأنت تقرأ تلك الاعترافات.

قال، وعلامات الاستغراب لا تزال بادية عليه: أتريد أنْ تعرف سبب ذلك بالضبط؟

قلتُ: نعم، بالتأكيد.

قال: سأتلو عليك، إذاً، مقطعاً من اعترافاتي.

وبينما أنا أنظر إليه مصغياً، قال:

«أغنّي لكِ يا أزرا بصوتي المنكر وإصغاء أذني الموسيقيّة.

أزرا: لمن أروح؟

أحبّكِ حبَّ مرتاحٍ ترتعد فرائصه خجلاً لا خوفاً. أخجل مِنْ أصدقائي وأحبّائي الذين يشدّونني مِنْ ياقة معطفي بعيداً عنكِ».

وعندئذٍ، شعرتُ بالأسى والأسف العميق لأنّني لم أفهم الأمر على نحوه الصحيح في الوقت المناسب.

وراح مؤنس يواصل تلاوة اعترافاته:

«إنَّني أنتفض خوفاً، لا ثورةً أو تمرّداً. حبّكِ يا أزرا، مريع ومروّع.. لكنّه يتميّز بطعم الرهبة، ولون الجرأة، وملمس الحذر، ورائحة الأمومة».

سرنا عبر ساحة واسعة داخل المقبرة، متّجهين إلى سورٍ داخليٍّ واطئ. وعندما وصلنا إلى قبر مؤنس المُعدّ، وقفنا هناك واتّكأنا على السور ورحنا نراقب المشيّعين الآخرين الذين أخذوا يتكاثرون في الساحة.

قال يوسف: كان الناس في زمنٍ آخر يسمّون هذه المقبرة مقبرة الشهداء، أمّا الآن فيسمّونها مقبرة أمّ الحيران.

لم يعلّق أيٌّ منّا على ملحوظة يوسف، ولم يُضف هو أيّة كلمة أخرى، وفجأة تذكّرتُ باندهاش مقطعاً من «الاعترافات» يقول:

«أعرف أنَّ "محطّتي الأخيرة" دانية.

بوسعي أنْ أرسم بارود مرساتي وعباءاتٍ سوداوات فيهنّ نساء، بوسعي أنْ أرسم المشهد هذا تشكيليّاً».

وبدا لي كما لو أنّني أقرأ هذا لأوّل مرّة. وعندئذٍ، نظرتُ إلى مؤنس نظرةً مدقِّقة ولم أقل شيئاً.

وما لبث الجثمان أنْ دخل من الباب الخلفيّ للجامع محمولاً على الأكفّ والأكتاف، فاحتشد المشيّعون خلفه، ورحنا نمشي خلفهم باتّجاه المثوى الأخير ونحن صامتين. وفي هذه الأثناء، كنت أتذكّر كيف أنَّنا (مؤنس وأنا وأصدقاء آخرون) قد مشينا في الممرّ نفسه، قبل أقلّ مِنْ عقدين من الزمن، مشيّعين جثمان والده الدكتور منيف الرزّاز إلى المثوى نفسه.

بعد بضع عشرات من الأمتار توقّف الحشد فتوقّفنا معه، وتولّتْ الأكفّ المرفوعة إدخال الجثمان إلى حجرة ضيّقة. فشعرتُ بحزنٍ مضاعف ولم أتمكّن مِنْ حبس دموعي. وفي هذه الأثناء، ظهر هاشم بالقرب منّي، ألقى تحيّةً مقتضبة ووقف صامتاً يراقب المشهد.

ومال يوسف علينا وقال هامساً: أيّة مقابر هذه التي تتّخذها بعض العائلات في العاصمة مستقرّاً أخيراً لموتاها! مقابر القرى أفضل بكثير، وهي في رأيي أليق بمبدعٍ كبير عاشق للحريّة مِنْ زنازين الموتى هذه. هناك يتّصل القبر مباشرة بالهواء الطلق والفضاء المفتوح، ويلتحم الجثمان مباشرة بالتراب فتتاح له الفرصة الكاملة للعودة بصورة سليمة إلى مكوّناته الطبيعيّة الأوّليّة.

أحنى هاشم رأسه موافقاً، وكذلك فعلتُ أنا.

وفجأة انتبهنا إلى صوت مؤنس يتلو مقطعاً غريباً من اعترافاته:

«الدود لذيذ طريف، ثمّة "دودة" تكايدني، تثير غيظي، تقول وهي تدبّ على خيالي: ـ إلى اللقاء.

أُحبّها، أرغبُ رغبة عارمة في لقائها الليلة.

أزرا.. حقِّقي أمنيتي في أنْ أشرب كأسها الآن، نضطجع في قبرٍ واحد، أنا على التراب وهي على صدري.. يا لخفّة دمها. تدغدغ ما تحت الإبط.. ولا تضحك.

الميّت يضحك سرّاً».

وفجأة انتبه إلى نظرات الاستغراب والفزع في عيوننا. فقال بلهجة مرحة: أتعلمون أنّني دعوت عراراً وتيسير السبول للّقاء هنا الليلة في أمّ الحيران للاحتفال بمناسبة انتقالي للإقامة في هذا المكان؛ ستجدون هذا مكتوباً في اعترافاتي.

لكنّه لم يخبرني بأنّه في خطاب الدعوة هذا قد توجّه إلى عرار وتيسير قائلاً (وربّما شاكياً):

«الحقّ أقول لك يا عرار: سعود قبيلات يمشي، أمّا أنا فأجري، انقطع نفسي يا تيسير. هل كان مسدّسك بدولاب أم بمخزن؟».

اكتشفتُ هذا لاحقاً عندما قرأتُ «الاعترافات»، وعندها أيضاً، رأيت حجم ما كتبه مؤنس في وقتٍ قصير، فاكتشفتُ أنّني تعرّضتُ لأكبر خدعةٍ منه، فقد أوهمني أنّه أكثر كسلاً مِنْ (أبلوموف)، الأمر الذي أهّله، بغير وجه حقّ، لترؤس جمعيّة التنابلة طوال حياته، بلا منازع. وكان يؤكّد متفاخراً أنّه الزعيم الوحيد الذي أمن شرّ الانقلابات، لأنّ مَنْ يفكّر في ذلك يكون قد فقد في اللحظة نفسها أهم شرطٍ مِنْ شروط انتظامه في تلك الجمعيّة.. ألا وهو التنبلة.

أمّا لماذا وجّه الدعوة إلى تيسير وعرار ولم يدعُ رفاقه في «عصابة الوردة الدامية»[4]، فقد اكتشفتُ السبب أيضاً عندما قرأتُ الاعترافات؛ حيث يقول فيها:

«المهمّ أنّنا، كلّنا، نعشق الحياة معاً.. لكنّني الوحيد، في عصابة الوردة، المولّه بأزرا، تلك التي صدرها الناهض جواز سفري إلى ما وراء العابر العارض. (....) تلك التي يفترض الناس أنّها شاحبة وهي تضجّ حيويّة على إيقاع حماسة متّقدة».

ويضيف مؤكّداً ملاحظته عن أزرا:

«خدّاها ليسا شاحبين، خدّاها متفّحين!».

وانتبهنا فجأة فإذا صفٌّ طويلٌ من الناس قد وقفوا يتلقّون العزاء به. وأردتُ أنْ أقول شيئاً ليوسف غير أنّني لم أجده، ففهمتُ أنّه انسحب من المكان مِنْ دون أنْ نفطن. وقال مؤنس وقد لاحظ هو الآخر غياب يوسف: دعونا نلحق بيوسف؛ أظنّه سيكون أكثر مَنْ يفتقدني مِنْ بين أصدقائي.

مشينا (مؤنس وهاشم وأنا)، فعبرنا الممرّ، ثمّ الساحة، وإذا بنا سريعاً خارج المقبرة، ثمّ إذا بنا نرى يوسف يسير وحيداً وهو يعضّ على غليونه.

ناديناه فوقف ينتظرنا. ومِنْ هناك انطلقنا إلى بيت مؤنس في جبل اللويبدة، حيث وجدنا سرادقاً كبيراً قد أقيم بقربه. نزلنا من السيّارة واتّجهنا إلى السرادق، لكنّنا فوجئنا بمؤنس يتخلّف عنّا وينادينا إليه، فعدنا، وقلت له: ما بك؟

قال: إلى أين أنتم ذاهبون؟

قلت: إلى بيت العزاء، كما ترى.

قال: وماذا ستفعلون هناك؟

قلت: عجيب أمرك! ماذا يمكن أنْ يفعل الناس في بيت عزاء؟!

قال: دعوكم مِنْ هذا، ولنذهب إلى شرفة بيتي فنجلس هناك، مثلما كنّا نفعل دائماً، لنتبادل الحديث عن أيّ شيء.. عن الراقص المجنون نيجينسكي، مثلاً، واعترافاته الغريبة في المَصَحّة النفسيّة، أو نسمع شيئاً مِنْ غناء أمّ كلثوم أو فيروز..

وهنا، قاطعته قائلاً: لكنّ هذا لا يجوز؛ فالواجب يدعونا للذهاب إلى السرادق مع المعزِّين.

قال: كأنّك نسيت أنّني طالما قلت: لا أريد أنْ يمشي أحدٌ في جنازتي أو يأتي إلى عزائي. بل أكثر مِنْ ذلك ستجدون في اعترافاتي ما يلي:

«سأجلس على شاطئ البحر الميّت وقد عنّ لي أنْ أصدر "منفستو" يعفي أصدقائي مِنْ واجب المشي في جنازتي حين أموت».

وصمتَ قليلاً ثمّ أضاف:

«هل قصدتُ (حين أعيش)؟».

قلتُ: ولكنّ كثيرين مشوا في جنازتك اليوم، مع ذلك!

قال: لم أدعُهم. ربّما كان والدي هو مَنْ دعاهم.

قلتُ: ربّما دعا بعضهم، لكنّني على يقين مِنْ أنّهم جميعاً جاءوا بدعوةٍ منك أيضاً.

قال: ومع ذلك، فلن تستطيعوا إقناعي بالذهاب إلى بيت العزاء ذاك. ثمّ إنّني ميّت يا إخوان، والميّت كما تعلمون لا يتقبّل العزاء بنفسه.

قال هذا وسار مبتعداً، فاضطررنا للرضوخ لرغبته والسير معه، بينما كان هو في هذه الأثناء يتلو المقطع التالي من اعترافاته:

«المهرّجون في الجنازة، المهرّجون في دار عزائي».

«مهدي لعبة مهرّج، لحدي لهو مهرّج، الرحلة بينهما "كرنفال" تنكّري وموسيقى صاخبة، وبحّارة سكارى وغانيات يبعن الهواء والبلالين... فليذهبوا، جميعاً، إلى الجحيم!».

دخلنا من باب سور بيته، وصعدنا إلى الشرفة بين أشجار الأسكدنيا المتشابكة الأغصان، غير أنّنا لم نجلس هناك، إذ اكتشفنا أنّ الشرفة كانت مكتظّة بالنساء المنتحبات النائحات. تجاوزناهنّ ودخلنا مِنْ بوّابة البيت إلى الصالون، فإذا به مكتظٌّ هو الآخر بالنساء. وفجأة لمحنا أمَّ مؤنس جالسة على مقعدها المتحرّك. توجّهنا إليها، وعندما صرنا أمامها مباشرة انحنيتُ عليها وقبّلتُ خدّيها، وفعل هاشم ويوسف الأمر نفسه. ثمّ وقفنا جميعاً إلى جانبها.

نظرتْ إلينا وقالت وهي تنتحب: وينه مؤنس؟!

عندئذٍ، نظرتُ إلى حيث من المفروض أنْ يكون مؤنس، لكنّني لم أجده، فاستدرتُ خارجاً ورحتُ أبحث عنه بصورة محمومة، لكنّني لم أجده أيضاً. ثمّ نزلتُ على الدرج، وبعد ذلك خرجتُ مِنْ بوّابة السور، ورحتُ أنظر عبر الشارع المحاذي، فإذا بي أراه يركض مبتعداً. للمرّة الأولى أراه يركض. فرحتُ أمشي وراءه مندهشاً مِنْ تصرّفه الغريب، هذا، وأنا ألهث وتكاد أنفاسي تنقطع مِنْ شدّة المشي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بعد شهرين مِنْ رحيل مؤنس الرزَّاز، عُقِدَ لقاءٌ استذكاريّ له ولأدبه، في جامعة آل البيت. أشرفت على هذا اللقاء الدكتورة هند أبو الشعر، وتلقيتُ دعوة كريمة للمشاركة فيه، فأعددتُ له هذه القصّة بعنوان «رحلة أخيرة». وقد نُشِرَتْ لاحقاً في مجلّة الجامعة، وبعد ذلك نُشِرَتْ في مجلّة «الثقافة الجديدة» المصريّة ضمن ملفٍّ لها عن مؤنس وأدبه.
[2] هذا مخطوط من الأدب النادر في العالم العربيّ، تردَّد مؤنس بين عنوانين له، هما: «الاعترافات» و«السيرة الجوّانيّة»، وقد نشر في حياته القليل منه في مجلّة «أفكار» التي تصدر عن وزارة الثقافة في الأردنّ. وبعد رحيله، عُثِرَ على القسم الأكبر مِنْ هذا المخطوط بين أوراقه، وتمّ جمعه وإعداده للنشر؛ لكنّه لم يُنْشَر بعد، مع الأسف.
[3] المقصود: سميحة خريس، وهاشم غرايبة، ويوسف الحسبان، وسعود قبيلات.
[4] «عصابة الوردة الدامية» اسمٌ أطلقه مؤنس على مجموعة الأصدقاء التي تضمّه بالإضافة إلى سميحة خريس ويوسف الحسبان وهاشم غرايبة وسعود قبيلات. وقد كتب رواية (ونشرها) بالاسم نفسه، وجعل أعضاء «العصابة» شخصيّاتٍ روائيّة فيها، وأشار إليهم بالأحرف الأولى مِنْ أسمائهم.