23 يوليو/تمّوز انقلاب أم ثورة.. وبعض مفارقات التاريخ


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 6643 - 2020 / 8 / 11 - 12:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مرَّتْ 68 سنة على قيام الثورة النَّاصريّة (ثورة 23 يوليو/تمّوز 1952). ولا يزال خصوم هذه الثورة – وأكثرهم حماساً وحميّةً ضدَّها «الإخوان المسلمون» – يستهدفونها بالمستوى نفسه من الضّراوة والحقد (إنْ لم يكن أكثر)، مِنْ ثلاثة مداخل متهافتة، هي: وصفها بأنَّها مجرّد انقلاب، ووصم نظامها بأنَّه غير ديمقراطيّ، والقول بأنَّها هُزِمَتْ في النِّهاية وأُجهِضَ مشروعها.

أوّلاً، في ما يتعلَّق بالانقلاب والثّورة..
الانقلاب هو مجرّد وسيلة للوصول إلى السّلطة، وثمَّة وسائل أخرى عديدة غيره تؤدِّي إلى النتيجة نفسها. والانقلاب قد يُنتِج ثورة، وقد يُنتِج ثورة مضادَّة، وقد لا يكون أكثر من «انقلاب قصر».

أمَّا الثورة، فهي سيرورة تاريخيّة تقود إلى تحوّلات نوعيّة في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ بمجمله، وليست مجرّد اسم لوسيلة مِنْ وسائل الوصول إلى السّلطة.

بخلاف ذلك، تكون عمليّة التغيير مجرّد انقلاب داخل قصر الطَّبقة الحاكمة.. حتَّى لو كان الحُكّام الجدد قد وصلوا إلى السلطة على أكتاف ألوف أو ملايين الناس المنتفضين في الشَّوارع وليس على ظهور الدَّبَّابات، وحتَّى لو كان الحاكمون الجدد قد جاءوا مِنْ خارج نادي الحكم وليس مِنْ داخله. فالمهمّ، في هذه الحالة، هو أنَّ جوهر النِّظام يبقى كما هو، وتتغيَّر فقط أسماء طاقم الحكّام والمسؤولين.

أمَّا إذا كانت نتيجة هذه الحركة هي إجراء تعديلات فقط على النِّظام القائم، فهي حركة إصلاحيّة وليست ثورة.

وأمَّا مَنْ يرتمي في أحضان الدَّوائر الإمبرياليّة ليصنع تغييراً في بلاده، فإنَّه يصنع ثورة مضادّة ولا يصنع ثورة. فالثورة، في هوامش النِّظام الرأسماليّ الدوليّ، ذروةُ سنامِها التَّحرّرُ الوطنيُّ وليس إدامة التبعيّة بما هي بنية اقتصاديّة اجتماعيّة طُفيليَّة رثّة.. كما هو الحال عادةً في الهوامش.

أكثر مَنْ يُشهِر تهمة الانقلاب في وجه خصومه الآن هم «الإخوان المسلمون»؛ كأنَّ القوى السياسيَّة تتصارع مِنْ أجل مفاهيم مجرَّدة وليس مِنْ أجل أهداف ومصالح حقيقيَّة! وأيضاً كأنَّ «الإخوان المسلمين»، أنفسهم، قد استنكفوا طوال تاريخهم عن استخدام العنف والانقلابات العسكريَّة كوسيلة للوصول إلى السطلة! فماذا يُسمَّى، إذاً، ما ظلّوا يفعلونه طوال حوالي عشر سنوات في سوريَّة؟ وماذا عن انقلابهم في السودان على حكومة الصَّادق المهدي المنتخبة.. على سبيل المثال؟ وماذا عن دعمهم وتأييدهم لانقلاب النِّظام القائم في بلادنا والدَّوائر الاستعماريّة على حكومة سليمان النَّابلسيّ التي كانت منتخبة مِنْ أغلبيّة شعبيّة كاسحة؟

وأكثر مِنْ ذلك، فهم يُغفِلون حقيقة دعمهم لـ«انقلاب» عبد النَّاصر في البداية.. عندما كان مجرَّد انقلاب، وأنَّهم أصبحوا مِنْ أشدِّ خصومه عداوةً عندما تحوَّل إلى ثورة.

إنَّهم يحصرون النقاش في شكل الحدث ويتجاهلون مضمونه. في حين أنَّ المهمّ هو ما هي طبيعة السلطة التي تمَّت الإطاحة بها وما هي آفاق التغيير التي انفتحت بعد الإطاحة بها، وما هي الطَّبقات الاجتماعيَّة المرشَّحة للاستفادة بالوضع الجديد، وما مدى انسجام ذلك مع جدول أعمال التَّاريخ في المرحلة المحدَّدة.

قبل 23 يوليو/تمّوز 1952، كانت توجد في مصر أحزاب تتنافس في ما بينها وتتداول السُّلطة بوساطة صندوق الاقتراع؛ لكن سقف طموحاتها وحركتها كانا محكومين بوجود الملك فاروق بفساده وتبعيَّته واستهتاره و«حرسه الحديديّ»، وبالنِّظام الملكيّ الإقطاعيّ الكولينياليّ المهترئ، وبسلطة المندوب الساميّ البريطانيّ المطلقة على كلّ شيء في البلاد. وكانت الأحزاب الَّتي تتداول السُّلطة، هي نفسها، فاسدة أيضاً ومهترئة، وليس لديها برنامج جدّيّ لإخراج مصر مِنْ أزمتها المستحكمة. أمَّا الأحزاب الوطنيّة، الَّتي كانت ترفض الانتداب البريطانيّ وفساد النِّظام الملكيّ وعجز وفساد الأحزاب السُّلطويَّة، فكان يتمّ حظرها وملاحقة أعضائها واضطهادهم باستمرار.

انكشف ذلك النِّظام المتهالك، على حقيقته، دفعةً واحدة – كما هو معروف – في حرب العام 1948 في فلسطين، خصوصاً بسبب فضيحة الأسلحة الفاسدة، الَّتي أدَّت إلى نشوء تنظيم الضّبَّاط الأحرار على يد البكباشي (آنذاك) جمال عبد النّاصر. كان عبد النَّاصر قد سَجَّل في تلك الحرب أمثولةً بطوليةً مشهودة؛ وذلك بصموده حتَّى النِّهاية، هو والكتيبة التي كان يقودها، في وجه حصار العدوّ الصَّهيونيّ الطَّويل لهم في الفالوجة في فلسطين، ورفضهم أنْ يستسلموا له. غطَّت الصَّحافة المصريَّة، في ذلك الوقت، بالتَّفصيل، وقائع صمود تلك الكتيبة وقائدها، وأصبح المصريّون ينظرون إليهم كأبطال وطنيين مرموقين.

المهمّ، جاء تحرّك الجيش، بعد ذلك بسنوات قليلة (في 23 يوليو/تمّوز 1952)، للاستيلاء على السُّلطة، وسرعان ما تحوّلت هذه العمليّة إلى ثورة حقيقيَّة غيَّرت الحياة المصريَّة بصورة عميقة. ذلك لأنَّ النِّظام الجديد لم يكتفِ باتّخاذ الإجراءات التي تعزِّز سلطته حسب؛ بل تجاوز ذلك بصورةٍ جذريَّة؛ حيث:

1. أطاح بطبقة الباشوات الإقطاعيين كاملةً، ووزَّع أراضيهم – بوساطة برنامج الإصلاح الزِّراعيّ – على الفلاحين المصريين الفقراء الَّذين كانوا قبل ذلك مذلّين مهانين؛

2. ألغى التَّراتب القروسطيّ الَّذي كان الملك يقف على رأس هرمه، والَّذي كان يتعامل مع الشَّعب باعتباره مجرّد رعيّة للمك، ودفع – بدلاً مِنْ ذلك – إلى الواجهة، مفهوم الشَّعب، وسيادة الشَّعب، ومخاطبة الشَّعب كمواطنين. وكان عبد النَّاصر أوّل حاكم عربيّ يخاطب أبناء بلده قائلاً: أيُّها المواطنون.

وقد كرَّس هذا كتقليدٍ ثابتٍ له، كما أنَّه كان يُصدر قراراته باسم الشّعب. بعده جاء أنور السَّادات، فأطلق على نفسه «الرَّئيس المؤمن»، وصار يتكلَّم ويتَّخذ قراراته «باسم الله». ومن المفروغ منه أنَّ الذَّات الإلهيّة لم تمنحه تفويضاً خاصّاً للتَّحدَّث باسمها. ولقد واصل السَّير على هذا الطَّريق إلى أنْ وصل إلى القدس المحتلّة، ليرفع راية استسلامه في «الكنيست الإسرائيليّ». وليتكلَّم، هناك أيضاً، «باسم الله»!

وقبل الثَّورة النَّاصريَّة، كان الحاكم (الملك) يُوصف مِنْ حاشيته بـ«سيِّدنا»؛ ما يعني أنَّ الآخرين مجرَّد رقيق ومِنْ ضمن أملاكه. وبعد الثَّورة، أصبح الحاكم يوصف بـ«الرِّيِّس».. أي بمسمَّاه الوظيفيّ في الدّولة.

3. طوَّر الرِّيف ووضعه على طريق الرَّفاه والتقدّم الاجتماعيّ؛

4. وفَّر أسباب الكرامة والتحرّر للغالبيَّة العُظمى مِنْ أبناء مصر (الفلَّاحين والعمّال)، وأرسى دعائم العدالة الاجتماعيَّة؛

5. قضى على النِّظام القديم الفاسد والتَّابع قضاءً مبرماً، وأقام بدلاً منه نظاماً وطنيّاً متحرِّراً،

6. خلَّص مصر مِنْ قبضة الاحتلال البريطانيّ، وأرسى الرَّكائز الاجتماعيّة الاقتصاديّة لإنهاء التَّبعيّة واستكمال التَّحرّر الوطنيّ؛

7. حوَّل مصر مِنْ نظام ملكيّ قروسطيّ تابع تحكمه عائلة منفصلة عن الشَّعب إلى جمهوريَّة عصريّة مستقلّة يحكمها أبناؤها؛

8. وضع موارد البلاد تحت سيطرتها وفي خدمة تنميتها، وبنى اقتصاداً وطنيّاً ناهضاً ومتمحوراً على الذَّات؛

9. أمَّم قناة السّويس.. فأصبح ريعها كلّه لمصر، بعدما كان منهوباً مِنْ شركات الإمبرياليين الفرنسيين والبريطانيين؛

10. بنى السَّدّ العالي بمساعدة السّوفييت. ويُعَدّ هذا الصَّرح أحد أبرز المنشآت العملاقة الَّتي بناها الإنسان، والَّذي رأى الخبراء أنَّه أنقذ مصر من المجاعات الَّتي عمَّت إفريقيا خلال العقود الماضية.

11. أنجز مشروع كهربة البلاد، وسار قدماً على طريق التَّصنيع بمختلف مستوياته، بما في ذلك التَّصنيع الثَّقيل؛

12. جعل مصر في طليعة دول العالم الثَّالث، ومنارةً للتحرّر الوطنيّ لدى جميع الدّول والشّعوب الثَّائرة في حينه؛

13. أقام علاقات نديَّة مع مختلف دول العالم ميَّز فيها بين الأصدقاء الصَّدوقين وبين الأعداء الحاقدين؛

14. وفَّر الرِّعاية الصّحيَّة المجانيَّة لجميع المصريين؛

15. في عهده، ازدهرتْ الثَّقافة والفنون، واتَّسع نطاق الإنتاج الفكريّ وتعمَّق. وكان خطاب عبد النَّاصر، هو نفسه، خطاباً تقدّميّاً تحرّريّاً تنويريّاً يتَّكئ على ثقافة عميقة. بل كان أوَّل حاكم عربيّ يتكلّم عن التَّحرّر الوطنيّ والعدالة الاجتماعيّة والاشتراكيّة والتقدّم الاجتماعيّ وقوى الشَّعب العامل والعداء للإمبرياليّة والرأسماليّة والصَّهيونيّة والرَّجعيّة؛

16. اهتمّ بتطوير التَّعليم وجعله مجانيّاً في كلّ مراحله؛ الأمر الذي أتاح لأبناء العُمّال والفَلَّاحين الفقراء أنْ يتعلّموا وأنْ يضطلعوا بأدوار عادلة في مختلف مجالات الحياة، بعدما كان ذلك حكراً على أبناء الأقلّيّة الثَّريّة وأرباب السلطة.

ملايين الشّبّان المصريين، من الأرياف والأحياء الشَّعبيَّة انفتحت أمامهم آفاق الحياة، آنذاك، وعبَّروا عن ذواتهم في ميادينها المختلفة، بسبب ذلك القرار العظيم، وأيضاً لأنَّ السُّلطة أصبحت، للمرَّة الأولى في تاريخ مصر، في يد واحدٍ منهم. ولذلك، فإنَّ معظم الكُتّاب والفنّانين والمثقَّفين والسِّياسيّين الّذين اشتُهروا في مصر في النّصف الثَّاني من القرن العشرين كانوا مِنْ أبناء الرّيف ومن الفقراء.

لقد فُتِحَتْ أمامهم أبوابٌ واسعة ليتدفّقوا بقوّة في مختلف شرايين الحياة في بلادهم، بعدما كانوا مهمّشين مقصيين ومذلّين مهانين.

واحد مِنْ هؤلاء، حرَّرت الثَّورة النَّاصريّة والده الفلّاح المستَعبَد مِنْ ربقة الإقطاع – ضمن ملايين الفلّاحين المذَلّين المهانين الَّذين حرَّرتهم – ومنحته قطعة أرضٍ صغيرة ليفلحها، وأتاحت للابن أنْ يتعلَّم – مستفيداً بمجانيّة التَّعليم – ويصعد في سلّم الحياة إلى أنْ أصبح رئيساً لمصر؛ فوقف، عندئذٍ، ذامّاً عهد عبد النَّاصر، ومتنكّراً لأفضاله، وقال: السّتينيَّات وما أدراك ما السّتينيَّات!

ذلك هو الرئيس المصريّ الأسبق الإخوانيّ محمَّد مرسي العيَّاط.

لولا الثّورة النَّاصريّة، فلربّما كان النِّظام الملكيّ الاقطاعيّ لا يزال قائماً، وبالنَّتيجة، لما كان أُتيح لمرسي أو سواه أنْ يصبحوا رؤساء لمصر. وأصلاً، لما كان أُتيح له أنْ يتعلَّم.

وعلى أيَّة حال..

في السّتينيَّات (وما أدراك ما السّتينيّات!) كان عبد الناصر قد جعل مصر دولةً مستقلَّةً، سيَّدةً لقرارها، وقائدةً لعالمها العربيّ، بل قائدة في العالم الثَّالث كلّه أيضاً؛ وجعل المصالح الوطنيَّة والقوميَّة هي معيار الصَّداقة والخصومة بين بلاده وبين الدّول الأخرى.

وفي السّتينيّات، كانت مصر بؤرة إشعاع للثَّورة والتَّحرّر الوطنيّ في كلّ أنحاء العالم، وكانت تساند الثّوّار وحركات التَّحرّر الوطنيّ بكلّ ما تستطيع وما تملك مِنْ طاقةٍ ماديَّة ومعنويَّة. وكانت القاهرة – آنذاك – قد أقامت في ساحاتها تماثيل لسيمون بوليفار وباتريس لوممبا وعبد المنعم رياض وسواهم. ومِنْ حُسن الحظّ أنَّ هذه التماثيل عظيمة الدَّلالة قد نجتْ من المصير الَّذي تعرَّضت له كنوز العراق وسوريا الأثريّة العظيمة على يد داعش وأخواتها، وخصوصاً، ما تعرَّض له تمثال أبي العلاء المعرِّيّ في معرَّة النعمان.

يكفي أنْ نتذكَّر، في هذا المجال، أنَّه، بعد مدَّة طويلة مِنْ رحيل عبد النَّاصر، كان رئيس إحدى دول أميركا اللاتينيَّة (هوغو شافيز) يصف نفسه بأنَّه ناصريّ، وبعد وفاة شافيز أقامت دولته (فنزويلا)، تمثالاً لعبد النَّاصر في مكانٍ بارزٍ مِنْ عاصمتها.

تشي غيفارا أيضاً قال إنَّ عبد النَّاصر كان ملهماً له وهو يقاتل قوّات العميل الأميركيّ باتيستا في جبال السّيرا مايسترا في كوبا.

وهذان ثائران حقيقيّان ضدّ الإمبرياليَّة والصَّهيونيَّة والرَّأسماليَّة والرَّجعيَّة. وهما المثالان اللذان خطرا في بالي في لحظة كتابة هذا المقال، والأمثلة الأخرى أكبر بكثير مِنْ إمكانيَّة الإحاطة بها.

وفي عهد عبد النَّاصر، كما أذكر، لم نكن نرى أيَّ مصريٍّ في بلداننا العربيَّة إلا كزائرٍ لمدَّة محدودة؛ وبالمقابل، كانت مصر في ذلك الزَّمان قِبلَةً ليس للعرب وحدهم؛ بل، أيضاً، لأبناء العالم الثّالث كلّهم. بل والأوّل كذلك إذا ما تذكرنا زيارات كبار المفكّرين والمثقّفين للقاهرة.. جان بول سارتر، على سبيل المثال.

.
ثانياً، غياب الدّيمقراطيّة..
ثمَّة مشكلة في فهم الديمقراطيّة، تتمثَّل في أنَّ كثيرين يختزلونها في شكلها وإطارها، مِنْ دون أيّ محتوى أو مضمون. وذلك انسجاماً مع مصالحهم الطَّبقيَّة والسِّياسيَّة الأنانيَّة. الدّيمقراطيَّة ليست مجرَّد شكلٍ أو إطار؛ وهي مِنْ دون محتواها الاجتماعيّ العميق، تتحوّل إلى نمط مِن الدّيكتاتوريّة المقنَّعة للطُّغم الماليَّة والاقتصاديَّة؛ حيث تستخدم أقليَّة محدودة جدّاً قدراتها الماليَّة الهائلة ونفوذها الكبير لإيصال ممثِّليها إلى البرلمان وحرمان غالبيَّة الشَّعب العظمى مِن التَّمثيل البرلمانيّ.

وبالمقابل، فعهد عبد النَّاصر، كان غنيّاً بالمحتوى الدّيمقراطيّ الاجتماعيّ: تصفية الإقطاع وتوزيع أراضي الإقطاعيين على الفلَّاحين الفقراء، وإقرار مجانيَّة التَّعليم في كلّ مراحله، وتعميم الثَّقافة ومنتجاتها الرَّاقية على أوسع نطاق، وتقليص مستويات التَّفاوت الطَّبقيّ والاجتماعيّ، وتوسيع مساحة الطَّبقة الوسطى ورفع مستوى دورها، كما أصبح القطاع العامّ المستند إلى الطَّاقات الشَّعبيَّة هو القائد لمجمل الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وبالمجمل، أتاحتْ التحوّلات النَّاصريَّة الجذريَّة لأوسع قطاعات الشَّعب المصريّ أنْ تمارس أدواراً عامَّة عادلة كانت محرومة منها قبل الثَّورة.

ومع أنَّ الشَّكل الدّيمقراطيّ السياسيّ كان غائباً، إلا أنَّ مضمون التوجّهات والقرارات السّياسيَّة كان ديمقراطيّاً وطنيّاً قوميّاً (وأمميّاً) منسجماً مع إرادة الشَّعب ورغباته ومصالحه: التَّوجّه العروبيّ للثَّورة، على سبيل المثال، والدّور الطَّليعيّ لمصر على مستوى العالم الثَّالث، ومساندة حركات التَّحرّر في الجزائر وفلسطين والخليج العربيّ واليمن وفي مختلف أنحاء إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة، وإتِّباع سياسة الحياد الإيجابيّ على المستوى الدوليّ، والاسترشاد في العلاقات الدوليَّة ببوصلة المصالح الوطنيَّة والقوميَّة، وتأمين استقلال القرار السّياسيّ الوطنيّ بقوَّة عسكريَّة جيِّدة العدّة والعديد والتَّدريب.. وباقتصاد وطنيّ قويّ قائم على التَّصنيع ويتَّجه إلى التَّمحور على الذَّات، وبناء المشروعات الكبرى مثل مصانع الصّلب في حلوان والسَّدّ العاليّ، ووضع مقدِّرات البلاد الرئيسة تحت سيطرتها.. لخدمة مصالحها ولبناء تقدّمها وتطوّرها.

عبد النَّاصر ربَّما كان حاكماً فرديّاً، لكنَّه كان يحكم بالإرادة الشَّعبيَّة وبالشَّرعيَّة الثّوريَّة، الَّتي أنتجها مِنْ انقلابٍ عسكريّ، بينما غيره ركب انتفاضةً شعبيَّة واسعة وحوَّلها إلى مجرَّد انقلاب صغير في أروقة الطَّبقة الحاكمة.

ولكن، بالتّأكيد، كان تجاهل الشَّكل الدّيمقراطيّ السّياسيّ يمثِّل خللاً مهمّاً؛ فمِنْ هذه الثَّغرة بالتَّحديد تسلَّلتْ قوى الثَّورة المضادَّة وأطاحت بمكاسب الثَّورة. ولكنَّنا، بالمقابل، يجب أنْ لا ننسى أجواء الحرب الباردة الَّتي حكم عبد النَّاصر خلالها؛ حيث لم يكن من السَّهل في ظلّ التربّص الإمبرياليّ الحثيث إتِّباع الشَّكل الدّيمقراطيّ السّياسيّ للحكم بصورة سليمة وآمنة؛ دليلنا على ذلك، النّهاية المأساويَّة لتجربة محمّد مصدّق في إيران على يد المخابرات الأميركيَّة والبريطانيَّة، والنّهاية المماثلة لتجربة سليمان النَّابلسيّ في الأردن، ومثلها تجربة سلفادور أللندي في تشيلي.. وتجارب أخرى كثيرة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة. وكذلك ما تعرَّضت له في السّنوات الأخيرة تجربة الدّيمقراطيّة في البرازيل وبوليفيا وفنزويلا.

لذلك، كلّه، تكالبتْ الدّول الإمبرياليَّة والرَّجعيَّة وأذنابها على ثورة عبد النَّاصر، وليس لأنَّه لم يكن ديمقراطيّاً. يكفي دليلاً على زيف مزاعم الغرب الإمبرياليّ الدّيمقراطيَّة أنَّ الحكّام الموالين له، الَّذين حكموا مصر طوال ما يزيد على أربعين عاماً بعد رحيل عبد النَّاصر، لم يقيموا فيها نظاماً ديمقراطيّاً، ومع ذلك نالوا دعمه (أعني الغرب الإمبرياليّ) ومساندته ورعايته بلا انقطاع أو اعتراض. والسَّبب هو أنَّ أولئك الحُكّام، بخلاف عبد النَّاصر، لم تستند قراراتهم إلى مصالح الشَّعب، ولم يعبِّروا عن إرادته، كما أنَّهم فرَّطوا باستقلال بلادهم وبحقوقها ومكانتها، وأخضعوها للمصالح الإمبرياليّة.


ثالثا، الهزائم والنَّكبات..
تعرَّض عبد النَّاصر لهزائم قاسية ونكبات كبرى؟

هذا طبيعيّ؛ مَنْ يتبنَّى مثل البرنامج الَّذي تبنّاه، تحشد الدَّوائر الإمبرياليّة والرَّجعيّة والصَّهيونيّة وتوابعها ضدّه كلّ قواها. وهذه قوى عاتية. أطاحت قبله بالكثيرين ووأدت الكثير مِنْ أحلام الشّعوب.

ولكن، هل يجب على قوى الثّورة والتَّحرّر الوطنيّ أنْ تستسلم أمام هذه القوى مِنْ دون مواجهة؟

يقول فريدريك أنجلز:

«ولا جدال في أنَّ المبادر في النِّضال، كلِّ نضال، يخاطر بتحمّل الهزيمة؛ ولكن هل هذا مبرّر، يا ترى، لكي يعلن المرء نفسه مهزوماً منذ بادئ بدء ويستكين للنّير مِنْ دون أنْ يسحب السَّيف مِنْ قرابه؟».

ويتابع قائلاً:

«وفي زمن الثَّورة، كلّ مَنْ يسلِّم موقعاً حاسماً كان يشغله، عوضاً عن أنْ يحمل العدوّ على التَّجاسر على الهجوم، يستحقّ دائماً معاملة الخائن». [المنتخبات – الثورة والثورة المضادَّة في ألمانيا – ص 83]

نعم، في أجواء التَّكالب الاستعماريّ، تلك، هُزِم ناصر في حرب 1967؛ لكنَّه، بعد أقلّ مِنْ ثلاثة أشهر، جمع الدّول العربيَّة في قمّة الخرطوم، ودفع باتِّجاه إصدار اللاءات الثَّلاث الشَّهيرة: «لا صلح؛ لا مفاوضات؛ لا اعتراف». وشرع بالإعداد لحرب التَّحرير الَّتي جرتْ في العام 1973، لكن بعدما حوّلها السَّادات إلى حرب تحريك غايتها القصوى التَّغطية على قراره الارتماء في الحضن الأميركيّ.

الهزيمة هي الاستسلام للعدوّ والكفّ عن مقاومته، وليست مطلقاً خسران معركة في الصَّراع الطَّويل معه. وكما قال هيمنجواي في «الشَّيخ والبحر»: «الإنسان قد يُدمَّر.. لكنَّه لا يُهزم».

لذلك، كانت الهزيمة الحقيقيّة هي بعد كسب الحرب العسكريّة في العام 1973 وليس بعد خُسران الحرب في العام 1967. بعد 1967، كانت نفوس النّاس ممتلئة بالرَّفض والتَّحدّي وإرادة القتال والمواجهة؛ أمَّا بعد 1973، فكانت نفوس النّاس ممتلئة بالانكسار والإحباط واليأس.

أخيراً: الإساءة لناصر وتكريم السَّادات!!
لا يمكن نسيان المشهد المشين التَّالي، ويجب عدم السّماح بالتعتيم عليه مطلقاً: إبّان حُكمهم لمصر، كرَّم «الإخوان المسلمون» اسم الرَّئيسَ الأسبق الرَّاحل محمّد أنور السَّادات؛ حيث دعا الرئيس الإخوانيّ الرَّاحل محمد مرسي عائلة السَّادات إلى القصر الرِّئاسيّ، ومَنَحَ «قلادة النِّيل العظمى» و«وسام نجمة الشَّرف» لاسم السّادات. وقد تسلَّم جمال أنور السَّادات هذين الوسامين باسم والده.

وفي الوقت نفسه، أمر مرسي بإزالة الحراسة عن ضريح الرَّئيس عبد النَّاصر ليتحوَّل إلى مكرهة صحّيّة.

عداؤهم لعبد النَّاصر مفهوم، وقد فصَّلنا أسبابه في ما مضى مِنْ مقالنا هذا. ولكن ما الذي يمكن أنْ يُكرَّم السَّادات مِنْ أجله؟

هل هو تحويل حرب التَّحرير إلى حرب تحريك، والتواطؤ على فتح ثغرة الدّفرسوار، مِنْ أجل استخدامها كذريعة للتَّفاوض مع العدوّ والاستسلام له؟

أم هو سياسة الانفتاح الاقتصاديّ الَّتي دمَّرت اقتصاد مصر وسلَّمته لقمة سائغة للشِّركات الأجنبيّة والقطط السِّمان؟

أم هو اتِّفاقيّة كامب ديفيد الَّتي رجعت بها سينا وضاعت مصر (كما عبَّرتْ قصيدة أحمد فؤاد نجم الشَّهيرة)؟

وطبعاً، حتَّى رجوع سينا هذا كان مشروطاً بقيود مشدَّدة على وجود الجيش المصريّ والسلّاح المصريّ فيها.

والَّذي يكرِّم صاحب «كامبد ديفيد»، يجب أنْ لا ينخدع به عاقل إذا ما زعم أنَّه ضدّ «كامب ديفيد» أو أيّ اتِّفاقيّة استسلاميّة أخرى مماثلة.

أم هو مكافأة على تتبيع مصر للغرب (للأميركان بوجهٍ خاصّ). الأمر الَّذي أتاح رفقة السِّلاح المشهورة بين السَّادات وبين «الإخوان» وبقيّة الأتباع، للقتال، بإشراف السي. آي. أيه، ضدّ جمهوريّة أفغانستان التقدّميّة والسّوفييت، في أواخر سبعينيّات القرن الماضي؟

أم هو على هذا كلّه؟

القوى الَّتي قاتلتْ عبد النَّاصر في حياته وتآمرت على الثّورة النَّاصريّة بضراوة، ومِنْ ضمنها «الإخوان المسلمون»، لا تزال تواصل قتالها ضدّ الرَّجل وثورته.. حتَّى بعد عقود طويلة على غيابهما، ما يكشف حجم قلقها المتزايد تجاهه وتجاه ثورته.

وبرأيي، يحقّ لخصوم ناصر وأعدائه أنْ يقلقوا وأنْ يتصرَّفوا كما لو أنَّه لا يزال حيّاً وينفِّذ برنامجه؛ فالفكرة الأصيلة الحيَّة الَّتي تنتصر للناس وللحياة، تظلّ حاضرةً وفاعلةً وتزداد تألّقاً ومضاءً على مرِّ السنين؟

أتذكَّر، هنا، على سبيل المثال، كيف كان النّاس، في مصر، في انتفاضة 25 كانون الثَّاني/يناير، يحملون صور عبد النَّاصر، ويستعيدون شعاراته، ويسمعون ويردَّون الأناشيد الوطنيّة لعهده. فقد كنتُ هناك في الأيّام الأولى الَّتي تلت سقوط مبارك.

ما فعله مرسي مع السّادات وعبد النَّاصر ليس خطأً غير مقصود، ولا هو ناتجٌ عن سوء تقدير؛ بل هو موقفٌ مدروس ينسجم مع طبيعة حكمه وحكم «الإخوان المسلمين» الَّذي كان – كما أشرتُ في أكثر مِنْ مقالٍ سابق – امتداداً لنظام السّادات التَّبعيّ الاستسلاميّ.. ذلك النّظام الَّذي حافظ حسني مبارك على جوهره وتركيبته وسياساته، طوال ثلاثين سنة لاحقة. ثمَّ جاء مرسي وتابع الَّسير على الطَّريق نفسه؛ فالتزم باتِّفاقيّات كامبد ديفيد، وحفظ أمن «إسرائيل».. كما لم يفعل مبارك، وواصل البناء على سياسات «الانفتاح الاقتصاديّ» الليبراليَّة السَّاداتيَّة الَّتي تُمثِّل الأساس المادِّي للتَّبعيَّة. وما تكريمه للسَّادات إلا إشارة رمزيَّة واضحة لهذا الواقع، وتعبير صريح عن برنامج حكمه الحقيقيّ. والترجمة الدَّقيقة لهذا الموقف هي: لا يلتبسنَّ الأمر على أحد؛ أنا على طريق السَّادات، ولستُ على طريق عبد النَّاصر.

نعم، مِنْ مفارقات التَّاريخ أنَّ عبد النَّاصر، المتَّهم بأنَّه كان حاكماً فرديّاً، قد حكم بالإرادة الشعبيَّة وبالشَّرعيَّة الثَّوريَّة، وأنتج من انقلابٍ عسكريٍّ ثورةً جذريَّة؛ في حين ركب غيره انتفاضةً شعبيَّة واسعة فحوَّلها إلى مجرَّد انقلابٍ صغير في أروقة الطَّبقة الحاكمة.