حوار عن توجُّهات الحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ بعد مؤتمره الثَّامن التَّوحيديّ


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 7682 - 2023 / 7 / 24 - 02:47
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية     

نصّ الحوار الَّذي تكرَّم بإجرائه معي الرِّفاق في هيئة تحرير جريدة «الجماهير»، جريدة الحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ:

حوار: هيئة التحرير
قال أمين عام الحزب الشيوعي الأردني، الرفيق سعود قبيلات، إن وحدة الشيوعيين لم تكن مطلباً للشيوعيين فحسب، بل للقوى التقدمية والديمقراطية في وطننا. وأكد في حديث اتسم بالصراحة والشفافية لهيئة تحرير "الجماهير"، إنه ينظر بإيجابية عالية إلى أن أعضاء الحزب بعد الوحدة، يمثلون تجارب سياسية مختلفة، وهو ما يثري تجربتهم النضالية ويعمق أفكارهم وينوّعها. وبيَّن أن الحزب سيطور اعلامه بما ينسجم مع التطورات التي يشهدها الإعلام الحديث، كما يتجه إلى انشاء مركز دراسات متخصصة وإقامة مدرسة حزبية وإطلاق مجلة نظرية الكترونية.
على الصعيد المحلي، قال إن الأردن والبلدان العربية تمر بمرحلة التحرر الوطني. وشدد على أن جماهير شعبنا ترفض الليبرالية المتوحشة ورموزها وحلولها، وترفض املاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، كما ترفض الخصخصة وانسحاب الدولة من الاقتصاد.
بخصوص القضية الفلسطينية، أكد أن الحزب استعاد التعريف الحقيقي العلمي للقضية، وذلك بالنظر اليها كقضية شعب اقتُلع من أرضه وتشتت شمله من قِبل استعمار استيطاني إحلالي عنصري.
وفيما يلي نص الحوار...

وحدة الشيوعيين.

س: كانت وحدة الشيوعيين مطلباً للشيوعيين في الأردن خلال عقدين ماضيين على أقل تقدير، إلى أي حد نستطيع القول بتلبية المؤتمر التوحيدي لهذه الرغبة؟

ج: وحدة الشُّيوعيين لم تكن مطلباً لحَمَلَةِ الفكر الشُّيوعيّ في الأردن وحدهم؛ بل كانت مطلباً لجميع الدِّيمقراطيين والتَّقدّميين الأردنيين..
والحقيقة أنَّ المؤتمر الثَّامن (التَّوحيديّ) للحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ، قد لبَّى هذا المطلب إلى حدٍّ لا بأس به؛ لكن لا يزال أمامنا عمل كبير للانصهار معاً في بوتقة التَّنظيم الحزبيّ، كما أنَّه لا يزال لدينا طموح بأنْ لا يبقى أحدٌ من الشُّيوعيين خارج إطار الحزب.
قبل المؤتمر، تواصلنا مع رفاق كثيرين، وتحاورنا معهم بشأن وحدة الشُّيوعيين؛ بعض هؤلاء الرِّفاق اقتنع بجدوى هذه العمليَّة وجدِّيَّتها فانخرط فيها، والبعض الآخر كان متشائماً جدَّاً ولم يقتنع وفضَّل أنْ ينتظر ويُراقب مِنْ بعيد.
ومِنْ ناحية أخرى، ربَّما أنَّ جهودَنا في هذا المجال قصَّرتْ عن الوصول إلى جميع المعنيين.
على أيَّة حال، كثيرٌ من الرِّفاق الَّذين كانوا متشائمين ولم يُشاركوا في الوحدة، أصبحوا الآن متحمِّسين للانخراط فيها.. بعدما تيقُّنوا مِنْ جدِّيَّتها ورأوا أنَّها حقَّقت نتائج إيجابيَّة عديدة لم يكونوا يتوقَّعونها. وسنتابع جهودنا، في هذا المجال، بلا كلل، في المرحلة القادمة.
عموماً، نحن متفائلون جدّاً بنجاح هذه الجهود إلى حدٍّ بعيد.

س: استطاع المؤتمر التوحيدي استقطاب شيوعيين بتجارب مختلفة، بعضها لم يكن داخل الأطر التقليدية للحزب. في ضوء اختلاف هذه التجارب، ما مدى قدرة الحزب لخلق حالة من الانسجام المستقبلي في العمل، وإلى أي حد يمكن أن تلعب هذه الجزئية دوراً في تجديد الحياة الحزبية وضخ دماء جديدة في الحزب؟

ج: أعتقد أنَّه يجب النَّظر بإيجابيَّة كبيرة إلى كون أعضاء الحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ الآن، بنتيجة الوحدة، يمثِّلون تجاربَ سياسيَّةً مختلفةً، فهذا يمكن أنْ يُثري تجربتهم النِّضاليَّة ويُعمِّق أفكارَهم وينوِّعها.
أمَّا الانسجام (أُفضِّلُ، هنا، استخدام مفردة التَّناغم)، فيأتي مِنْ خلال العمل النِّضاليّ اليوميّ المُشتَرك.. العمل النِّضاليّ المشترك يقود إلى تقارب الرِّفاق أكثر فأكثر، وإلى فهم كُلٍّ منهم للآخر بصورة أكبر، وإلى انصهارهم في إطار الحزب بصورة أشدّ وأعمق، وإلى تكامل جهودهم وتشديد عزيمتهم وتصليب إرادتهم وتوحيدها.
نحن – كما هو معروف – لم نحصر جهودنا، قبل المؤتمر وخلاله، بالعمل مِنْ أجلِ تلبيةِ شروط قانون الأحزاب الجديد العجيب وغير الدِّيمقراطيّ، بل بذلنا – بالإضافة إلى ذلك – جهوداً كبيرةً مِنْ أجل تحقيق الوحدة وإنجاحها.
وبالتَّزامن مع ذلك، صغنا وأقررنا نظاماً أساسيَّاً جديداً ومختلفاً، وصغنا وأقررنا برنامجاً سياسيَّاً جديداً ومختلفاً. وبالنَّتيجة، لدينا الآن خطابٌ سياسيٌّ جديد ومختلف.
ونأمل أن يساهم البرنامجُ السِّياسيُّ الجديدُ والخطابُ السِّياسيُّ الجديدُ بتصليب وحدة الشُّيوعيين الأردنيين، وأن يكونا البؤرة الَّتي نلتفّ حولها جميعاً.
أعتقد أنَّ هذا البرنامج وهذا الخطاب هما محتوىً حقيقيٌّ وقويٌّ لهذه الوحدة..
مِنْ دون محتوى سياسيّ يجيب بدقَّة ووضوح وجُرأة على أسئلة المرحلة، لا يمكن الحديث بكلامٍ جدِّيٍّ عن الوحدة.
ومع ذلك، فنجاح الوحدة ليس مسألةً سهلة، أو ميكانيكيَّة، بل يحتاج إلى تظافر إرادة الشُّيوعيّين، وحشد جهودهم جميعاً، أو حتَّى غالبيَّتهم على الأقلّ.
وبالتَّأكيد، كلّ نجاح تحقِّقه الوحدة، سيكون له دورٌ مهمّ في تجديد الحياة السِّياسيَّة للحزب، وسيؤدِّي إلى ضخّ المزيد من الدِّماء الجديدة في شرايين الحزب.
ونأمل أنْ تنعكس هذه العمليَّة بصورةٍ إيجابيَّةٍ على الحياة السِّياسيَّة الأردنيَّة بمجملها.. خصوصاً على الحياة السِّياسيَّة للمعارضة.

رؤية جديدة للإعلام.
س: الإعلام عنوان مهم وحيوي في كل مكان وزمان، وكذلك هو لدى الأحزاب الشيوعية، هل من رؤية جديدة للإعلام في الحزب، ما هي، وكيف تتجلى؟

ج: نعم، توجد رؤية جديدة للإعلام في الحزب، وهي التَّعامل معه وفق الأساليب الإعلاميَّة الحديثة، وعلى أُسسٍ علميَّة مدروسة.
وسائل الإعلام تطوَّرتْ على نحوٍ هائل في العقود الأخيرة، وأدَّى هذا إلى تَغيُّر الأساليب الإعلاميَّة تغيُّراً جذريَّاً. ونحن ننوي أن نُحدِّثَ إعلامَنا بما ينسجم مع آخر التَّطوُّرات في الأساليب والوسائل الَّتي شهدها الإعلام في العالم..
سيكون لدينا، في المدى المنظور، موقع إلكترونيّ حيويّ تفاعليّ، وستُوضع عليه جريدة الحزب (الجماهير) بصيغة تفاعليَّة وليس بصيغة البي. دي. إف المستخدَمَة حاليَّاً لنشر الجريدة على الإنترنت. وستُنشَر على هذا الموقع بانتظام مجلَّة نظريَّة إلكترونيَّة يَكتُب فيها عددٌ من الشُّيوعيين واليساريين الأردنيين المشتغلين بالفكر، كما أنَّها ستستكتب مفكِّرين وباحثين شيوعيين ويساريين عرب ومِنْ بلدان أُخرى مختلفة في العالم.
وستكون لدينا قناة يوتيوب تعمل وفق أحدث الأساليب الإعلاميَّة..
ولدينا الآن لجنة إعلاميَّة وهيئة تحرير لجريدة الحزب، تضمَّان مجموعةً من الإعلاميين المختصّين. إعلاميّون لهم تجربة يُعتدُّ بها في هذا المجال، وبعضهم يحمل شهادات علميَّة عُليا في الإعلام.

مرحلة التحرر الوطني.
س: هل ترون أن شعار حزبكم "أردن وطني ديمقراطي متحرر" ما يزال صالحاً أم بحاجة إلى إعادة نظر وتطوير، في ضوء ما يشهده الأردن من ظروف وتحولات؟

ج: العنوان الرَّئيس لبرنامجنا السِّياسيّ الحالِّيّ هو التَّحرُّر الوطنيّ؛ فبلادُنا – كما هو موضَّحٌ في مقدِّمة برنامجنا هذا – تعيش في ظلّ مرحلة التَّحرُّر الوطنيّ، شأنها شأن كلِّ أطرافِ النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ. بلادنا العربيَّة كلّها تقريباً تراوح في ظلّ هذه المرحلة منذ محمَّد عليّ باشا وحتَّى الآن.. فقد حال الاستعمار والشَّرائح الطَّبقيَّة المرتبطة به، وزَرْع «إسرائيل» في قلب العالم العربيّ، دون إنجاز برنامج التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ.
بطبيعة الحال، تندرج تحت عنوان التَّحرُّر الوطنيّ عناوين فرعيَّة كثيرة.. سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة. وبرنامجنا الجديد يُقاربُ هذه العناوين بشمولها وتفاصيلها.. فيتناول التَّحوّلَ السِّلميَّ والدّستوريَّ من الأوتوقراطيَّة (الحُكم الفرديّ المطلق) إلى الدِّيمقراطيَّة بأعمق أشكالها وأكثرها شمولاً؛ وينطلق مِنْ رفض الاتِّفاقيَّات الاستسلاميَّة المعقودة مع العدوّ الصّهيونيّ (وفي مقدِّمتها، وادي عربة وملحقاتها)، والاتِّفاقيَّات المُذلَّة المعقودة مع الولايات المتَّحدة وكلّ ما ترتَّبَ عليها مِنْ قواعد عسكريَّة أميركيَّة على الأرض الأردنيَّة، ومِنْ حقوقٍ استعماريَّة غير مشروعة للعسكريين الأميركيين على الأرض الأردنيَّة أيضاً؛ ويرفض كلَّ مشاركة في الأحلاف العسكريَّة المشبوهة.. الخ.
ويتناول البرنامجُ الموضوعَ الاقتصاديَّ بشموله؛ كما يتناول موضوعَ الطَّاقة، والموضوعَ الزِّراعيّ، والأرضَ والبيئةَ، والأحوالَ المعيشيَّةَ للأغلبيَّة الشَّعبيَّة، والعملَ والضَّمانَ الاجتماعيَّ، والتَّعليمَ والثَّقافةَ الوطنيَّةَ والشَّبابَ، وحقوقَ الإنسانِ والمواطنِ؛ ويتناول «العدالةَ الانتقاليَّةَ» ويضع تصوُّراً واضحاً ومفصَّلاً لها.. الخ.
كما يتناول برنامجُنا الجديدُ القضيَّةَ الفلسطينيَّةَ بمقاربةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ.. مقاربةٍ تنطلق من النَّظر إلى وجود الكيان الصّهيونيّ الغاصب على أرض فلسطين بوصفه عقبة كأداء تعترض طريقَ نضال الحركة الوطنيَّة الأردنيَّة.. الأمر الَّذي يجعل نضالَ الحركة الوطنيَّة الأردنيَّة ضدَّ هذا الكيان نضالاً وطنيَّاً أردنيَّاً أصيلاً وليس مِنْ باب المساندة فقط للشَّعب الفلسطينيّ الشَّقيق..
ويؤكِّد البرنامجُ أنَّ نضالَ الشَّعبين الشَّقيقين، الأردنيّ والفلسطينيّ، ضدَّ العدوّ الصّهيونيّ ومِنْ أجل التَّحرير والتَّحرُّر الوطنيّ، هو نضالٌ واحد بمهمَّتين متكاملتين.
وينصُّ البرنامجُ، أيضاً، على «العمل مع الشَّعب الفلسطينيّ الشَّقيق مِنْ أجل تمكينه من انتزاع حقوقه الوطنيَّة المشروعة جميعها، وخصوصاً، حقّه في تحرير وطنه، وحقّه في العودة إلى دياره وتعويضه عن تشريده وجميع خساراته وعذاباته الَّتي سبَّبها الاحتلالُ الصّهيونيُّ، وحقّه في تقرير مصيره على أرضه التَّاريخيَّة كُلِّها».
والأساس، في هذا كلِّه، هو أنَّنا استعدنا التَّعريفَ الحقيقيَّ والعلميَّ للقضيَّة الفلسطينيَّة.. هذا التَّعريف الَّذي طُمِسَ تحت رُكامِ الحلولِ الاستسلاميَّةِ.. فنظرنا إليها – كما هي فعلاً – كقضيَّةِ استعمارٍ استيطانيٍّ إحلاليٍّ عُنصريٍّ، مِنْ جهة؛ وقضيَّة شعبٍ اُقتُلِعَ مِنْ أرضِه، وشُرِّدَ، وتشتَّت شملُه، مِنْ جهةٍ أخرى. وعلى ذلك أعدنا بناء موقفنا بمجمله من القضيَّة الفلسطينيَّة.
ويتناول البرنامجُ الشَّأنَ العربيَّ والعلاقات مع الدّول الأخرى. وهذا كلّه في سياق رؤيتنا الخاصَّة للتَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ.

قانون الأحزاب الجديد.
س: لا شك أن شروط الترخيص الأخيرة وإفرازها بداية لمرحلة جديدة من العمل الحزبي، ما هو تصوركم لهذه المرحلة؟

ج: قانون الأحزاب الجديد، برأينا، قانون غير ديمقراطيّ، بل هو قانون عجيب لا يوجد مثله في العالم كلِّه. الأصل في التَّعامل الدِّيمقراطيّ العصريّ مع الأحزاب هو إباحة تشكيلها، وتسهيل عمليَّة إنشائها، وأن يكون دور السُّلطات في هذا المجال في حدودِ تأمينِ حقِّها في أخْذِ العِلْمِ بقيامِ هذه الأحزاب، وحفظ الحقوق القانونيَّة لأعضاء هذه الأحزاب، وليس التَّدخُّل في برامجها وفي صياغة أنظمتها الدَّاخليَّة وفي تشكيلة عضويَّتها وعدد الأعضاء المنضوين في صفوفها.
ولا توجد مشكلة في أيّ بلد مِنْ بلدان العالم مع عدد الأحزاب؛ ففي النَّهاية، ما يُقرِّر حضورَها وتأثيرَها هو نوع علاقتها بالنَّاس ومدى دقّةِ تعبيرها عنهم.
بالنِّسبة لنا، كشيوعيين، تعاملنا مع هذا القانون العجيب حسب المثل القائل «رُبَّ ضارَّةٍ نافعة»؛ فعملنا مِنْ أجل إعادة بناء حزبنا على أُسسٍ جديدةٍ، وعقدنا مؤتمراً حقيقيَّاً، وجدَّدنا في تشكيلةِ قيادتنا، وجدَّدنا خطابنا، ونجدِّد الآن في أساليب عملنا، ونسعى بكلِّ طاقتنا إلى الاقتراب مِنْ أوسع شرائح الطَّبقات الشَّعبيَّة في بلادنا. ونُبرِزُ بوضوح هويَّتنا الطَّبقيَّة المعبِّرة عن العُمَّال والفلَّاحين وسائر الكادحين.

التحالفات الوطنية.
س: مرّت تحالفات اليسار والمعارضة في الأردن بتطورات مختلفة، وأصيبت بانتكاسات على ضوء الأحداث الإقليمية، ما هو تصوركم للعلاقة المستقبلية مع هذه الأحزاب، وكذلك ما هي تصوراتكم للعلاقة المستقبلية مع تنظيمات يسارية استطاعت أن تعقد مؤتمراتها وتبقى على خارطة العمل الحزبي في الأردن؟

ج: في برنامجنا الجديد، ثمَّة مسألة أساسيَّة مطروحة في هذا المجال؛ إنَّها مسألة الجبهة الوطنيَّة الشَّعبيَّة. فنحن نرى أنَّ المهمَّات الَّتي يشتمل عليها برنامج التَّحرُّر الوطنيّ، وكذا الظّروف السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي تعيشها بلادنا، ووجود قواعد عسكريَّة أميركيَّة عديدة على الأرض الأردنيَّة – لا يمكن التَّصدِّي لها إلَّا بأداة سياسيَّة مِنْ مستوى الجبهة الوطنيَّة الشَّعبيَّة.
وانسجاماً مع تقييمنا العالي لأهمِّيَّة الجبهة الوطنيَّة الشَّعبيَّة، أنشأنا لجنةً خاصَّةً في اللجنة المركزيَّة لحزبنا بمسمَّى لجنة العمل مِنْ أجل قيام الجبهة الوطنيَّة الشَّعبيَّة.
ونحن لا نتصوُّر علاقة حزبنا مع التَّنظيمات اليساريَّة، بل ومع مجمل القوى الوطنيَّة والدِّيمقراطيَّة، إلَّا إيجابيَّة. وأكثر مِنْ ذلك، فنحن مصمِّمون على تطوير هذه العلاقات وتعميقها إلى أبعد الحدود، ولدينا الآن في المكتب السِّياسيّ لحزبنا رفيقٌ يضطلع بمهمَّة أمين شؤون العلاقة مع الأحزاب والقوى السِّياسيَّة، وقد أعددنا رسالةً خطِّيَّةً لإبلاغ الأحزاب والقوى السِّياسيَّة بذلك.

س: يؤخذ على الأحزاب الشيوعية العربية، ومن بينها الحزب الشيوعي الأردني، افتقارها للدراسات التحليلية للواقع الاقتصادي والاجتماعي في بلداننا، ألا ترون ضرورة لسد مثل هذه الثغرة؟

ج: هذا صحيح إلى حدٍّ كبير، مع أنَّ بعضَ الأحزاب الشُّيوعيَّة كان له حتَّى أواخر القرن الماضيّ نشاطٌ ملموسٌ في مجال الدِّراسات والأبحاث. أمَّا الآن، فيكاد فقر هذه الأبحاث والدِّراسات أن يكون شاملاً.
نحن نسير الآن على طريق سدِّ هذه الثَّغرة، وقد تطرَّقنا إليها، في نظامنا الأساسيّ وفي برنامجنا السِّياسيّ الجديدين، ووضعنا تصوّراً واضحاً لمعالجتها.
وقريباً سيُعقَد الاجتماع الأوَّل للِجنةٍ خاصَّةٍ من الدَّارسين والباحثين والمشتغلين بالفكر والدِّراسات، لوضع تصوُّراتٍ لإنشاء عدَّة مشاريع مهمّة في مجال العمل الفكريّ: مدرسة حزبيَّة، ومركز دراسات وأبحاث، ومجلَّة نظريَّة فكريَّة.
وهذا ضروريّ جدّاً؛ فالعمل السِّياسيّ الصَّحيح، سواء أكان في المعارَضة أم في السُّلطة الحاكمة، يجب أنْ يستند إلى أبحاثٍ ودراساتٍ متخصِّصةٍ معمَّقةٍ وأفكارٍ ذكيَّة. وإلَّا فهو خبط عشواء وارتجال، أو – كما يقول المثل الشَّعبيّ – «حراثة جِمال».

التنسيق بين الأحزاب الشيوعية العربية.

س: تمر الأحزاب الشيوعية العربية بظروف بالغة الصعوبة على ضوء التحولات الدولية، إلى أي حد ترون بإمكانية الخروج بتصورات تطور التنسيق بينها، لتكون عاملاً مؤثراً في صناعة القرار السياسي العربي، بما يتناسب مع مصلحة بلادها في التعامل مع هذه التحولات؟

ج: أظنُّ أنَّ ما نتكلَّم عنه هنا هو حالة أزمة. بدأ الكلام عن هذه الأزمة منذ أوائلِ سبعينيَّات القرن الماضي. وآنذاك كان البعض يُسمِّيها أزمة حركة التَّحرُّر العربيَّة.
برأيي، توجدُ مغالطةٌ أساسيَّةٌ شائعةٌ في الحديثِ عن أزمةِ اليسارِ (أو أزمة حركة التَّحرُّر)؛ فمفهومُ اليسارِ يشملُ الفاعلين اليساريين والأفكارَ اليساريَّةَ والبرنامجَ اليساريَّ السِّياسيَّ والاقتصاديَّ والاجتماعيَّ والثَّقافيَّ. ولكن ما يكون في خلفيَّةِ الذِّهنِ عادةً، عند الحديثِ عن اليسارِ، هو الفاعلون اليساريّون تحديداً.
وسبق أنْ تحدَّثتُ مراراً، في مقالاتٍ أو ندواتٍ، عن هذا الموضوع. وقلتُ بأنَّ الأزمة، في رأيي، هي أزمة بعض الفاعلين اليساريين، وليست أزمة اليسار أو أزمة الفاعلين اليساريين كلِّهم؛ بدليلِ أنَّه بينما يوجدُ يسارٌ مأزوم (كما هو الحالُ في بلادنا العربيَّة وبُلدانٍ أخرى)، يُوجدُ يسارٌ مزدهرٌ وناهض وجماهيريّ (كما هو الحالُ في أميركا اللاتينيَّة، على سبيل المثال).
ومِنْ مظاهر أزمة بعض الفاعلين اليساريين، برأيي:
أوَّلاً: انحسارُ حضور أحزابهم وتراجعُ دورِها في الحياةِ السِّياسيّةِ والاجتماعيّةِ والثَّقافيّةِ؛ رغم اتِّساع القاعدة الاجتماعيَّة للبرنامج اليساريّ مِنْ خلال مطالبَ الطَّبقاتِ الشَّعبيّةِ المطروحة فعلاً في الشَّارع.
ثانياً: تراجعُ قدرةِ تلك الأحزاب على استنباطِ الحلولِ المبتكرةِ مِنْ واقعِ بلدانِها ومن الظَّروفِ التَّاريخيّةِ المحدَّدةِ.
ثالثاً: تراجعُ إنتاجِ الفكرِ اليساريِّ لدى تلك الأحزاب رغم أنَّه ضروريّ لفهمِ الواقعِ وتيسيرِ سُبُلِ التَّعاملِ معه وتغييرهِ ورؤيةِ آفاقِه بوضوح.
رابعاً: عدمُ وضوحِ أيَّةِ آفاقٍ منظورةٍ لاختراقٍ يساريٍّ جديدٍ يعيدُ اليسارَ، ذاك، إلى دفَّةِ قيادةِ النِّضالِ مِنْ أجلِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ والتَّحوُّلِ الدِّيمقراطيِّ.
وهنا، الحالةُ الَّتي يعيشُها هذا اليسارُ هي حتَّى الآن حالةُ إدارةِ الأزمةِ..
وفي بلادِنا، النِّظامُ يعيشُ في حالةِ إدارةِ الأزمةِ، والمعارضةُ عموماً تعيشُ في حالةِ إدارةِ الأزمةِ.
اليسار المأزوم، هذا، هو في الأصل يسارٌ أصابه فايروس الليبراليَّة (كما يُسمِّيه سمير أمين)، فتنكَّرَ لهويَّته اليساريَّة، وعانى، بالنَّتيجة، مِنْ عجزٍ مزمنٍ عن القيام بدوره التَّاريخيّ في إنجاز برنامج التَّحرُّر الوطنيّ...
ومِنْ مظاهر تفشِّي الليبراليَّة في صفوف هذا اليسار:
1. غيابُ برنامج التَّحرُّر الوطنيّ لدى الكثير مِنْ أحزابِه، مع أنَّ هذا البرنامج مطروح موضوعيَّاً على جدول أعمال التَّاريخ في منطقتنا منذ مدَّةٍ طويلةٍ ولم يتمّ إنجازه بعد.
وبرنامجُ التَّحرُّر الوطنيّ هو، بالضَّرورة، برنامج يساريّ؛ لأنَّه لا يمكن إنجاز التَّحرُّر الوطنيّ إلا بنقض البُنية الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة للتَّبعيَّة، وإعادة بناء الدَّولة على أُسسٍ جديدةٍ مغايرةٍ.. اقتصاديَّة اجتماعيّة تنمويَّة وسياسيّة وثقافيّة.. تتمحور جميعها على مصالح البلاد ومصالح الأغلبيّة الشَّعبيَّة، وتشتمل على إعادة توزيع الدَّخل والثَّروة لصالحِ الطَّبقاتِ الشَّعبيَّة.
وحيث أنَّ النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ يتَّسم بحالةِ استقطابٍ حادَّةٍ بين مراكزه وبين أطرافه، تهيمن فيها المراكزُ على الأطرافِ وتستغلُّها، فإنَّ التَّحرُّرَ الوطنيَّ هو نمطٌ من الصَّراعِ الطَّبقيِّ يدور على مستوى النِّظام الرَّأسماليّ الدّوليّ ككلّ.. بخلاف صراع الطَّبقات العاديّ الَّذي يدور على مستوى كلّ دولة على حدة.
ولكن، مع تمدُّد الشّركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة إلى مختلف بلدان الأطراف في العقود الأخيرة، ووضع يدها بشكلٍ مباشرٍ على ثروات تلك البلدان، واستيلائها على فائض قيمة العمل في تلك البلدان.. بشكلٍ مباشرٍ أيضاً (وليس مِنْ خلال وكلائها الكمبرادوريين فقط، كما كان الأمر في السَّابق)، فإنَّ الصِّراعَ الطّبقيَّ في البلدانِ الطَّرفيّةِ أصبح في جانبٍ منه صراعاً طبقيَّاً مباشراً مع المراكز الرَّأسماليّة وليس عبر الكمبرادور المحلِّيّ فقط.. كما كان الأمر في السَّابق.
وبالخلاصة، بما أنَّ برنامجَ التَّحرُّرَ الوطنيَّ هو برنامجٌ يساريّ، فإنَّه لا يمكن أن يحمله إلا قوى يساريّة حقيقيّة.. لا قوى تزعُمُ أنَّها يساريَّة وهي في الحقيقة ليبراليَّة ذات ماضٍ يساريّ، ولا سواها من القوى البورجوازيَّة.
2. تَوهُّمُ العديد مِنْ أحزاب اليسار بأنَّ حُرِّيَّةَ الشَّعب منفصلة عن التَّحرُّر الوطنيّ لبلاده وليست مشروطةً به.
3. تَوهُّمُ العديدِ مِنْ أحزابِ اليسارِ بأنَّ الدِّيمقراطيَّةَ محايدةٌ في اسمها وشكلها وأساليبها ووسائلها، وأنَّها خاليةٌ مِنْ أيِّ مضمونٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ أو ثقافيٍّ، وتُختَزَل بصندوقِ الاقتراعِ وحدِه. أي أنَّها هي الدِّيمقراطيّةُ البورجوازيّةُ تحديداً.. أي الدِّيمقراطيّةُ العرجاء الَّتي ترتكزُ على الجانبِ السِّياسيِّ وحدِه وتهملُ الجانبَ الاقتصاديَّ، وتهملُ مصالحَ غالبيّةِ الشَّعبِ، لتخدم مصالحَ الكمبرادور والشَّركات متعدِّدة ومتعدِّية الجنسيَّة. إنَّها ديمقراطيَّة زائفة، لأنَّها خاضعة لشروط التَّبعيّةِ.
مفردة الدِّيمقراطيّة، كما نوَّهنا مراراً، في مناسباتٍ عديدة، ليست محايدةً، بل تعبِّر عن عمليَّةٍ ذات معانٍ متباينة.. تختلفُ باختلاف مضمونِها الاجتماعيّ الاقتصاديّ والطَّبقة (أو الطَّبقات) المستفيدة بها. الدِّيمقراطيَّة في أطرافِ النِّظامِ الرَّأسماليِّ الدَّوليِّ مشروطةٌ بالتَّحرُّرِ الوطنيِّ وبالانحياز لمصالحِ الأغلبيّةِ الشَّعبيَّةِ السَّاحقةِ.
4. غيابُ الاشتراكيَّة، كغاية وفكرة، عن برامجِ العديدِ مِنْ أحزابِ اليسار؛ ليحلَّ محلَّها مفهوم العدالة الاجتماعيَّة الغامض والفضفاض.
5. غيابُ الصِّراع الطَّبقيّ في مستواه الدَّوليّ، لدى العديد مِنْ أوساطِ اليسارِ؛ ما أدَّى إلى ارتباك بوصلتها فلم تعُد تتَّجهُ بوضوحٍ إلى العداء للإمبرياليَّةِ والصّهيونيَّةِ والرَّجعيَّةِ؛ وبالنَّتيجةِ، رأينا بعضَ هذا اليسار يصطفُّ اصطفافاتٍ غريبةً وغيرَ مفهومةٍ ولا يمكن أنْ تكون يساريَّة، في العديدِ من المناسباتِ.
6. ميلُ هذا اليسار إلى استخدامِ مفاهيم تلفيقيّة في الخطابِ السِّياسيّ وفي النَّظر الفكريّ، بدلاً من المفاهيم الماركسيَّة اللينينيَّة.
هذا بالنِّسبة للفاعلين اليساريين؛ أمَّا البرنامج اليساريّ، فلا علاقة له بالأزمة؛ البرنامج اليساريّ موجودٌ في الشَّارعِ ومطلوبٌ، في الأردن وفي البلادِ العربيَّةِ.. موجودٌ في مطالبِ نُشطاءِ الحِراكات وشعاراتِهم، وموجودٌ في خطابِ الانتفاضاتِ الشَّعبيَّةِ الَّتي تندلعُ مِنْ حينٍ إلى حينٍ في البلدانِ العربيَّةِ.. وكلُّ ما في الأمرِ أنَّه يحتاجُ إلى إعادةِ صياغةٍ بلغةٍ أكثر دقَّةٍ وأكثر عمقاً وأكثر شمولاً.. وهذا ما يجب أنْ يقوم به الفاعلون اليساريّون؛ لكنَّ الفاعلين اليساريّين غائبون.. صِلتُهم بالطَّبقاتِ الشَّعبيَّةِ ضعيفةٌ وتغلبُ عليها الشُّكوكُ والتَّوجُّساتُ..
والبرنامجُ اليساريُّ المنشودُ غائبٌ لدى هؤلاء الفاعلين اليساريين.. غيَّبَه عنهم الانحرافُ الليبراليُّ..
والجماهيرُ الشَّعبيَّةُ، الَّتي تعاني الأمرَّين أصلاً من السِّياساتِ الليبراليَّة المتوحِّشة، الَّتي طُبِّقَتْ خلال العقودِ الماضية، لا تجدُ في مفردات الخطابِ الليبراليِّ، الَّذي تفشَّى في صفوفِ اليسارِ، تعبيراً عنها؛ ومن الطَّبيعيّ أنَّها لا تتعاطفُ معه ولا تستجيبُ له..
الجماهير الشَّعبيَّة ترفضُ الليبراليَّةَ المتوحِّشةَ ورموزَها و«حلولَها»؛ ترفضُ إملاءاتِ البنكِ الدَّوليّ وصندوقِ النَّقد الدَّوليّ؛ ترفضُ الخصخصةَ وانسحابَ الدّولةِ من الاقتصادِ.. خصوصاً من القطاعاتِ الاقتصاديّةِ الأساسيّةِ الَّتي تعتمد على استخراجِ الموادِّ الخامّ الطَّبيعيّة، أو الَّتي لها علاقةٌ وثيقةٌ بالحاجاتِ الأساسيّةِ للأغلبيَّة الشَّعبيَّة.. الصّحة والتَّعليم وتوفير الموادّ الغذائيّة والتَّأمينات الاجتماعيَّة وسوى ذلك.
وما دامت المطالبُ اليساريّةُ موجودةً موضوعيّاً في الشَّارع، وما دام البرنامجُ اليساريُّ موجوداً في صيغته الخامّ الأوَّليَّة بين الجماهير الشَّعبيَّة، فالسؤال هو: أين حاملهما المفتَرَض إذاً.. أي اليسار؟ وأين هم اليساريّون الواعون والمبدئيّون؟
أنا أعتقدُ أنَّ اليسارَ، في الأردن وفي معظم البلاد العربيَّة، لم يتجاوز حالةَ الوجودِ بذاتِه. أعني أنَّه موجودٌ كانعكاسٍ موضوعيٍّ فقط لمظالمِ النِّظامِ الرَّأسماليِّ الدَّوليِّ المأزومِ، ولم يرتقِ إلى مستوى الوجودِ الفاعلِ والرَّدِّ الجدّيِّ الملموسِ على هذه المظالمِ.
وأنا، هنا، عندما أتحدَّث عن الوجودِ بذاتِه، فإنَّما أستعيرُ – كما سبق أن فعلتُ مراراً – مفهومَ ماركس عن الطَّبقةِ العاملةِ بذاتِها والطَّبقةِ العاملةِ لذاتِها.
وشرطُ الانتقالِ مِنْ حالةِ الوجودِ بذاتِه إلى حالةِ الوجودِ لذاتِه هو الوعيُ والفعلُ المبنيُّ على هذا الوعيِ. أعني وعيَ الذَّاتِ وإدراكَ مصالِحِها والعملَ بإخلاصٍ مِنْ أجلِها.
في ما يتعلَّقُ بشرطِ الوعيِ، اليسارُ في بلادنِا العربيّةِ (خصوصاً في المشرق) نشأ في ظروفٍ صعبةٍ..
كانت بلدانُنا – آنذاك – قد خرجتْ للتّوِّ مِنْ تحتِ نيرِ الاستعمارِ العثمانيِّ الَّذي صحَّرَ المجتمعاتِ وحوَّلَها إلى البداوةِ، وأهملَ البُنى التَّحتيّةَ والتَّعليمَ تماماً، ودمَّر الثَّقافةَ، وزيَّفَ الوعيَ، ولم يكن يهمّه شيء سوى استيفاء الضَّرائب والمكوس الجائرة.
عند انحسار الاستعمار العثمانيّ عن بلادِنا، كان عددُ المتعلِّمين يقتربُ مِنْ مستوى النُّدرة، وكان الوضعُ الاقتصاديُّ الاجتماعيُّ في مستوى الشُّروطِ البدائيّةِ، وكانت الأحوالُ المعيشيّةُ في حدودِها الدُّنيا.
وبالمناسبة، كلُّ البلدانِ الَّتي أُخضِعَتْ للاستعمارِ العثمانيِّ لم تتمكَّن مِنْ تجاوزِ آثارِه المدمِّرةِ حتَّى الآن، وليس البلادَ العربيّةَ وحدَها. فلننظر، على سبيلِ المثالِ، إلى عددٍ مِنْ دولِ أوروبّا الشَّرقيّةِ الَّتي رزحتْ لفتراتٍ متفاوتةٍ تحت نيرِ هذا الاستعمارِ ونقارنُها بسواها من الدّولِ الأوروبيّةِ.
وآتي، الآن، إلى الإجابة على القسم الثَّاني مِنْ سؤالكم، وهو المتعلِّق بتطوير التَّنسيق بين الأحزاب الشُّيوعيَّة العربيَّة..
نحن مع هذا تماماً، وسنعمل بجدٍّ ومثابرةٍ مِنْ أجله. لكن التَّنسيق إذا لم يترافق مع تغييراتٍ جدِّيَّةٍ واسعةٍ تقود إلى التَّخلّص مِنْ شوائب الليبراليَّة، لن ينتج عنه شيءٌ كثيرٌ ونوعيٌّ.
ومع ذلك، فنحن، في كلِّ الأحوال، ومهما كان مستوى النَّتائج المتوقَّعة، معنيّون بالتَّنسيق بين الأحزاب الشُّيوعيَّة.. سواء تطابقت آراؤها أم اختلفت في بعض المسائل. وفي النِّهاية، كلُّ حزبٍ هو المعنيّ بتقييم أوضاعه وأوضاع بلده.

س: يؤخذ على الشيوعيين العرب أنهم وقفوا على الضد من توجه الشعوب العربية ونبضها، في مراحل تاريخية مفصلية، فقد أيدوا قرار تقسيم فلسطين سنة ١٩٤٧، في وقت رفضته الشعوب العربية، ووقفوا ضد الوحدة بين مصر وسوريا زمن عبد الناصر، وأخيراً وقفوا ضد ما يعرف بـ «الربيع العربي»... ما رأيكم؟

ج: لا أحبُّ أنْ أُقاربَ هذه المسألة على هذا النَّحو الاتِّهاميّ الحاسم. هذه الأحزاب لم تقف على الضِّدّ مِنْ توجُّه الشُّعوب العربيَّة ونبضها؛ بل هي رأت أنَّها يمكن أن تخدم الشُّعوبَ العربيَّةَ عن طريق مقاربتها لقضاياها بذلك النَّحو الَّذي أُثير حوله الكثير من الجدال.
وجودُ اليسارِ في بلادِنا في مستوى «الوجودِ بذاتِه»، وعدمُ ارتقائِه إلى مستوى «الوجودِ لذاتِه»، أدَّى إلى اعتمادِه، إلى حدٍّ كبيرٍ، في جانبِ الوعيِ والنَّظرِ السِّياسيِّ الماركسيِّ، على ما كان يُنتَجُ منهما في الاتِّحادِ السّوفييتيِّ ضمن ظروفِ الدَّولةِ السّوفييتيّةِ وتقلُّباتِ أحوالِها ومصالحِها كدولة عُظمى.
وهكذا، بدلاً مِنْ إعادةِ إنتاجِ الفكرِ الماركسيِّ والنَّظرِ الماركسيِّ مِنْ مفرداتِ البيئةِ العربيَّةِ والظُّروفِ العربيَّةِ والمصالحِ العربيَّةِ، تمَّت استعارةُ هذا الفكرِ وهذه النَّظراتِ من الاتِّحادِ السّوفييتيِّ.
وهنا، غاب عن الأحزابِ اليساريّةِ والشّيوعيّةِ العربيّةِ شرطٌ أساسيٌّ مِنْ شروطِ وجودِ الحزبِ الثّوريِّ، وهو شرطُ النَّظريّةِ الثَّوريَّةِ المتَّصلةِ بالواقعِ المحدَّدِ وبالظَّرفِ التَّاريخيِّ المعيَّنِ..
النَّظريَّةُ الثَّوريَّةُ لا تُستورَدُ ولا تُستَعارُ، بل يُعادُ إنتاجُها ضمن شروطِ المرحلةِ التَّاريخيَّةِ وواقعِ البلدِ المعنيّ.
والمشكلةُ أنَّ اليسارَ العربيَّ، الَّذي جاء بعد هزيمةِ حزيران في العام 1967 وطرحَ نفسَه بديلاً للأحزابِ الشّيوعيَّةِ العربيَّةِ، لم يُنتج، هو الآخرُ، نظريَّةً ثوريَّةً، بل استعار التَّجاربَ والتَّطبيقاتِ الماويَّةَ والجيفاريَّةَ..
أي أنَّه، ضمناً، رأى أنَّ المشكلةَ هي في التَّطبيقاتِ السُّوفييتيَّةِ وليست في استعارةِ هذه التَّطبيقاتِ ولا في عدمِ إعادة إنتاجِ النَّظريَّةِ الثَّوريّةِ المطلوبة؛ لذلك، اكتفى بأن استعار مِنْ مكانٍ آخر.
والاستعارةُ تضمَّنتْ عدداً من المواقفِ السِّياسيَّةِ الخلافيَّة والمفاهيمِ النَّظريَّةِ الإشكاليَّة.. على سبيل المثالِ، الموقفُ مِنْ قرارِ التَّقسيمِ الخاصِّ بالقضيَّةِ الفلسطينيّةِ الَّذي تغيَّرَ مع تغيُّرِ الموقفِ السُّوفييتيِّ مِنْ هذا القرار.
برأيي، الموقفُ السُّوفييتيُّ النِّهائيُّ مِنْ قرارِ التَّقسيمِ كان مبنيَّاً على المناخِ الثَّقافيِّ والأيديولوجيِّ للحربِ العالميَّةِ الثَّانيةِ وتحالفاتِها. ولم يكن موقفاً ماركسيَّاً مبدئيَّاً.
قبل موافقته على قرار التَّقسيم، كان الاتِّحادُ السُّوفييتيُّ يتبنَّى حلَّ الدَّولةِ الفلسطينيّةِ الدِّيمقراطيّةِ. وقد برَّر المندوبُ السُّوفييتيُّ في مجلس الأمن، الَّذي كان – آنذاك – أندريه غروميكو (وزير الخارجيّة السُّوفييتيّ لاحقاً)، تَغيُّرَ موقف بلاده بقوله إنَّ قرارَ التَّقسيمِ هو أحسنُ الحلولِ السِّيئةِ المتاحةِ.
الموقفُ الماركسيُّ المبدئيُّ تمَّ التَّعبيرُ عنه بدقَّةٍ في المؤتمرِ الثَّاني للأمميَّة الشُّيوعيَّة الَّذي انعقد في موسكو برئاسة لينين في العام 1920، حيث رفض المؤتمر بشكلٍ صريحٍ ما أسماه «المنشأة الفلسطينية للصهاينة والصهيونية»... «التي تضع السكان الكادحين في فلسطين، حيث يمثل فيها الكادحون اليهود أقلية لا تذكر، ضحية فعلية للاستغلال الإنجليزي تحت زعم إنشاء دولة يهودية في فلسطين».
والموقف الماركسي موجودٌ أيضاً في أطروحةِ ماركس بشأن «المسألة اليهودية».
وعلى أيَّة حال، ليس كلّ الأحزاب الشُّيوعيّة ولا كلّ الشُّيوعيين، تبنَّوا الموافقةَ السُّوفييتيَّةَ على قرار التَّقسيم.
والَّذين يرون، حتَّى الآن، أنَّ هذا الموقفَ كان صائباً، يستخدمون في دفاعِهم عنه حُججاً تستندُ إلى المنطقِ الصُّوريِّ، فيقولون: لو أنَّ الجميعَ وافقوا على قرارِ التَّقسيمِ، لما وصلَ حالُ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ إلى ما وصلتْ إليه الآن؛ أو إنَّ الغايةَ كانت إنقاذَ ما يمكن إنقاذُه؛ أو إنَّ ما وافقتْ عليه منظَّمةُ التَّحريرِ الفلسطينيَّةِ في أوسلو كان أقلَّ بكثيرٍ من الَّذي نصَّ عليه قرارُ التَّقسيمِ مِنْ حقوقٍ للفلسطينيين والعرب (مقارنة السِّيئِ بالأسوأ)؛ أو إنَّ الواقعَ العربيَّ كان سيِّئاً جدَّاً، بحيث كان يتعذَّرُ التَّمسكُ بالمطالبِ العادلةِ للشَّعبِ الفلسطينيِّ كاملة.. الخ.
الواقع العربيّ الآن أسوأ؛ فهل هذا يبرِّرُ كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو ومشروعَ حلّ الدَّولتين؟
بالمناسبة، الَّذين يؤيِّدون هذه الاتِّفاقيّات الاستسلاميَّة يدافعون عنها، هم أيضاً، بالمنطق نفسه.
القضيَّةُ الفلسطينيّةُ كانت آنذاك في بداياتِها، والكيانُ الصّهيونيُّ لم يكن قد أُعلِنَ قيامُه بعد. وهكذا، فإنَّ هذا الموقفَ، كان مجرَّدَ سُلفةٍ مِنْ دونِ مقابل.
لم ينتهِ هذا الخلل بعد. وأستغربُ الآن كثيراً عندما أجد بعضَ اليساريين، بل والشُّيوعيين، العرب، يتكلَّم عن القضيَّة الفلسطينيَّة كما لو أنَّه ممثِّل لهيئة الأمم المتَّحدة وليس ممثلاً لحزبٍ عربيٍّ يكتوي هو وشعبه بنيران هذه القضيَّة!
ومن المواقفِ والمفاهيمِ الزَّائفة، الَّتي استعارتها الحركةُ الشُّيوعيّةُ العربيّةُ من السُّوفييت، مفهوم «الطَّريق اللارأسماليّ»، الَّذي بناءً عليه حَلّ الحزبُ الشُّيوعيُّ المصريُّ نفسَه في ستينيَّاتِ القرنِ الماضي. وهذا المفهومُ مفهومٌ تلفيقيٌّ تماماً. وحين يتبنَّى الحزبُ مفهوماً تلفيقيَّاً فإنَّه يضلِّلُ جماهيرَه ويضعُ نفسَه في متاهةٍ؛ بدلاً مِنْ أنْ يُنيرَ دربَ جماهيرِه ويرى طريقَه بوضوحٍ.
ومن المواقفِ الَّتي تمَّت استعارتُها، أيضاً، الموقفُ من القوميَّةِ، وهذا مع أنَّ الأحزابَ الشّيوعيَّةَ في لبنان وفلسطين وسوريا، كانت سبَّاقةً في تبنِّيها للوحدةِ العربيّةِ.. قبل نشوء أحزابِ القوميّةِ العربيَّة.. خصوصاً في البيانِ المشتركِ الَّذي أصدرته تلك الأحزاب الثَّلاثة في موسكو في العام 1931.
لكن، في ما بعد، لم تبنِ الحركةُ الشُّيوعيَّةُ العربيَّةُ على تلك المواقف الإيجابيَّة المبكِّرة، وبدلاً مِنْ ذلك، استعارت الموقفَ السَّلبيَّ ضدَّ القوميَّة الَّذي بُنِيَ على مناخات الحربِ العالميّةِ الثَّانيةِ..
في الحربِ العالميّةِ الثّانيّةِ، كانت الأحزابُ النَّازيّةُ والفاشيّةُ تستند – كما هو معروف – إلى أيديولوجيا وطنيَّةٍ عنصريّةٍ عدوانيّة. وقد تمَّ تعميمُ هذا الموقف وهذا التَّقييم على جميعِ الحالاتِ والمواقفِ الوطنيّةِ؛ لتصبحَ الوطنيّةُ، ثمَّ القوميّةُ (كما هي في الحالةِ العربيّةِ الخاصّةِ)، صفةً ذميمةً.
وهذا الموقفُ يُغفلُ جانباً أساسيّاً من الصِّراعِ الطَّبقيِ، وهو المتعلِّق بالصّراعِ الطَّبقيِّ بين مراكزِ النِّظامِ الرَّأسماليِّ الدّوليِّ وبين شعوبِ الأطرافِ..
القوميّةُ في الأطرافِ، وليس في الأطراف فقط، بل أيضاً حتَّى في الدّولِ الصَّاعدةِ الآن (مثل روسيا، على سبيل المثال) هي حصنٌ للذَّاتِ بالنِّسبةِ لشعوبِ هذه البلدان في مواجهةِ الهجومِ الكاسحِ للشّركاتِ متعدِّدةِ الجنسيَّةِ ومتعدِّيةِ الجنسيَّةِ، وهي أداةٌ للنّهوضِ وتجاوزِ الحالةِ الطَّرفيّة.
ولكن، مِنْ ناحيةٍ أخرى، القوميَّةُ في الأطرافِ مشروطةٌ بموقفٍ طبقيٍّ واضحٍ وبوعيٍ طبقيٍّ متقدِّمٍ.. وإلا فإنَّ الكلامَ عنها يكون مجرَّدَ خلخلةٍ في الهواءِ، وتطبيقها يقودُ في الواقعِ إلى نقيضِه..
رأسُ المالِ (خصوصاً الكمبرادور ورأسَ المال الماليّ المهيمنين في معظم بلداننا الآن) كوزموبوليتي، بالضَّرورة.. بحكمِ مصالحِه الَّتي تتناقض مع الرَّابطة الوطنيّة والقوميَّة.. مهما ادّعى أو توهَّمَ. أمّا اليسار والقوى الاجتماعيّة الَّتي يمثّلها، فهو، في نضالِه مِنْ أجلِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ، وطنيٌّ وقوميٌّ بالضّرورةِ.. وبخلافِ ذلك، فهو تائه ولا يعي هويَّتَه وموقعَه في الصِّراع.
في رسالةٍ بعثها ماركس إلى أنجلز، في تاريخ 20 حزيران 1866، يشيرُ إلى نقاشٍ دار في «مجلس الأمميَّة» حول مسألةِ القوميَّاتِ والموقفِ منها، ويسخرُ مِنْ موقفِ الشُّيوعيين الفرنسيين الرَّافضِ للقوميّةِ، ويقول: «لم يخفِ الفرنسيّون، وكان عددُهم كبيراً جدّاً، نفورَهم الصَّادقَ من الإيطاليين».
ويضيف قائلاً: «لقد ضحك الانجليز كثيراً عندما قلت في مستهل خطابي إن صديقَنا لافارغ والآخرين، الَّذين ألغوا القوميات، يخاطبوننا "بالفرنسية"، أي بلغة لا يفهمُها تسعة أعشار المجتمعين. ثم ألمحت إلى أن لافارغ، من دون أن يدرك ما يقول، يفهم، كما يبدو، من إنكار القوميات، امتصاصها من قبل الأمة المثالية، الأمة الفرنسية».
ويُلفتُ النَّظر أنَّ أنجلز وماركس قد تبادلا، في أواسطِ القرنِ التَّاسعِ عشر، حديثاً عن الشُّعورِ القوميّ العربيّ..
كان ذلك في رسالةٍ مِنْ أنجلز إلى ماركس في تاريخِ 6 حزيران 1853، قال فيها:
«لقد تم طرد الأحباشِ قبل 40 سنة من ظهور محمد. وكان ذلك أول عمل للشعور القومي العربي المستيقظ الذي تؤججه كذلك غزوات الفرس من الشمال، الذين بلغوا تقريباً مشارف مكة».
ونحن لا نعيد الكلامَ هنا عن بعض مواقف الحركة الشُّيوعيَّة العربيَّة، الَّتي لا نرى أنَّها كانت موفَّقة، مِنْ أجل جلد الذّات، بل مِنْ أجلِ الاستفادةِ مِنْ هذه الأخطاءِ والانطلاقِ نحو آفاقٍ جديدةٍ..
لن نتمكَّن مِنْ تجاوزِ واقعنا الصَّعب ما لم نقم بعمليَّةِ نقدٍ ذاتيٍّ حقيقيّةٍ وعلميَّةٍ وجريئة.
أمَّا في ما يخصُّ الموقفَ من «الرَّبيع العربيّ»، كما وصفتموه في سؤالكم، فهذا أمرٌ مختلف..
تسمية «الرَّبيع» تعبِّر عن موقفٍ سياسيٍّ مسبق..
تسمية «الرَّبيع» هي – كما هو معروف – إحالة على «ربيع براغ». أي أنَّها تعبير عن انحيازٍ مُسبَق للثَّورة المضادَّة على حساب الثَّورة.
والأحداث الَّتي جرت في العالم العربيّ ما بين العام 2011 وبين العام 2021 انطوت على مضمونين مختلفين جذريَّاً، هما باختصار، مضمون الانتفاضة الشَّعبيَّة ومضمون الثَّورة المضادَّة..
وهذا التَّقييمُ مبنيٌّ على النَّظر إلى المرحلة التَّاريخيَّة الَّتي تعيشها بلادنا ومنطقتنا العربيَّة بأنَّها مرحلة التَّحرُّر الوطنيّ، وأنَّ المطروح على جدول أعمال التَّاريخ الآن هو إنجاز برنامج التَّحرُّر الوطنيّ، وأنَّ قضيَّة الدِّيمقراطيَّة في بلدان الأطراف ليست مفصولة عن قضيَّة التَّحرُّر الوطنيّ.
وهنا، نكرِّر: لا يمكن لشعبٍ أن يكون حُرَّاً إذا لم يكن بلده حُرَّاً.
ولقد جرى الالتفاف على الانتفاضات العربيَّة، عن طريق تحويلها إلى «ثورات ملوَّنة» أو «ربيع عربيّ». وكانت الغاية مِنْ ذلك هي الحيلولة دون تحوّل هذه الانتفاضات إلى ثوراتٍ تعمل وفق سيرورة مدروسة مِنْ أجل إنجاز المهمَّات المطروحة على جدول أعمال التَّاريخ في المرحلة المحدَّدة، وهي في حالتنا العربيَّة – كما سبق أن أشرنا – مهمَّات التَّحرُّر الوطنيّ.
وكان الالتفافُ على هذه الانتفاضات وتحويلُها إلى «ربيع عربي» هو الدَّور الَّذي قام به الليبراليّون و«الإسلام السِّياسيّ» (وهو ليبراليّ أيضاً في برنامجه الاقتصاديّ)، والدَّوائر الغربيَّة الإمبرياليَّة والأنظمة الرَّجعيَّة التَّابعة لها..
تلاعب هؤلاء بلفظتيْ الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة، وحاولوا أن يوحوا بأنَّ الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة لفظتين محايدتين وبلا أيّ مضمون اجتماعيّ اقتصاديّ، وبأنَّه يمكن تحقيق الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة بمعزل عن برنامج التَّحرُّر الوطنيّ، بل مِنْ دون إنجاز التَّحرُّر الوطنيّ.
وقبيل تلك المرحلة وفي أثنائها، ظهرت «خطَّة أوباما» لإحلال «الإسلام السِّياسيّ» محلّ الأوساط الحاكمة في الأنظمة التَّابعة..
كان ذلك يُشبِه نوعاً من المقاولة من الباطن تقود إلى تسلُّم «الإسلام السِّياسيّ» دفَّة هذه الأنظمة المتهاوية الَّتي وصلت إلى طريق مسدود وأصبح من المتعذِّر إصلاحها مِنْ داخلها.
والمقصود بإصلاح هذه الأنظمة مِنْ داخلها هو مدّ عمرها مِنْ دون تغيير جوهرها كأنظمة تابعة..
وقد راهنت الدَّوائر الإمبرياليَّة على أنَّ «الإسلام السِّياسيّ» هو المؤهَّل لذلك؛ فهو ليس لديه أيّ مشروع اقتصاديّ اجتماعيّ حقيقيّ للتغيير، وكلُّ ما في الأمر أنَّه يُغيِّر المسمَّيات والتَّوصيفات فقط، ويمنحها طابعاً قُدسيَّاً زائفاً.. طابعاً يُضلِّل الطَّبقات الشَّعبيَّة لتقبل بالوضع القائم حتَّى مع أنَّه لا يخدم مصالحها ولا يخدم بلدانها..
يُتقِنُ «الإسلامُ السِّياسيُّ» تزييفَ الوعي؛ وهكذا.. يُصبح الرِّبا مرابحة، والتَّفاوتُ الطَّبقيُّ من السُّنن الرَّبانيَّة، والاقتصادُ الرَّأسماليُّ – بأكثر تجلِّياته توحُّشاً – اقتصاداً إسلاميَّاً، والاستغلالُ الطَّبقيُّ عملاً حلالاً، والمِلكيَّةُ الخاصَّةُ (بما فيها المِلكيَّة الخاصَّة لوسائل الإنتاج) حقَّاً مقدَّساً، وحُبُّ التَّملُّك فطرةً ربَّانيَّةً خالصة، والتِّجارةُ نشاطاً اقتصاديَّاً مبارَكَاً، وفائضُ قيمة العمل «حلالاً» للرَّأسماليين لا يشكِّك به إلا جاحد وناكر لتعاليم الدِّين، وحريَّةُ رأس المال (والسُّوق) وما ينجم عنها مِنْ تمايزٍ طبقيٍّ وظلمٍ اجتماعيٍّ قدراً ربَّانيّاً لا رادَّ له.. ولكن يجب التَّخفيف (التَّخفيف فقط)، مِنْ آثارها المأساويَّة، بوساطة أعمال البِرّ والإحسان والتَّصدّق وما إلى ذلك..
وكالعادة، خان الليبراليَّون، في تلك المرحلة، كلامَهم عن التَّنوير والعلمانيَّة وساندوا بلا تحفُّظ مشروعَ الدَّوائر الإمبرياليَّة الرَّامي إلى تلزيم أنظمة التَّبعيَّة لـ«لإسلام السِّياسيّ» باسم الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة!
كما تصنَّع «الإسلاميُّون» ارتداء لبوس الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة ليتمكَّنوا من القفز إلى السُّلطة بصورة مخادعة وفق خطَّة أوباما..
فهل كان يجب على الشُّيوعيين أنْ يقوموا بدور «المُحلِّل» لهذه العمليَّة الخبيثة الملتوية؟!

النَّظريَّة الماركسية في ضوء تطورات العصر.
س: الفكر الماركسي يقر بأن كل منظومة فكرية تتطور عن منظومة أو منظومات فكرية سابقة لها. كارل ماركس نفسه، تأثر بالفيلسوف كانت أولاً، ثم تأثر بفيورباخ، وبهيجل لاحقاً، حتى توصل إلى وضع النظرية الماركسية. في ضوء تطورات العصر وما يشهده من تحولات متسارعة، ما الذي ترون ضرورة وضعه تحت مجهر إعادة النظر النقدية العلمية من أسس النظرية الماركسية اللينينية؟

ج: كثير من الَّذين يتحدَّثون عن ضرورةِ تجديدِ الخطابِ والنَّظر الفكريّ واتِّخاذِ مواقف جديدة، إنَّما يطلبون من اليسار في الحقيقة أنْ يقوم (باسم التَّجديد) بانقلابٍ شاملٍ على نفسِه؛ أي أنْ يتنكَّر لأفكاره ومبادئه الأساسيَّة وأنْ يتخلَّى عن هويَّته الطَّبقيَّة، لينتقل بعد ذلك إلى خندقِ الخصمِ ويتبنِّي الليبراليّة.. يتبنَّاها على سبيل «التَّجديد»! مع أنَّها – بالتَّأكيدِ – ليست أفكاراً جديدةً، كما أنَّ خطابَها ليس خطاباً جديداً.
لذلك، يجب أن نتَّفقَ على ما هو مطلوبٌ تغييرُه في الخطابِ والمواقفِ لنتوصَّل إلى التَّجديد المنشود..
المطلوب، برأيي، في هذا المجال، هو أنْ ننسجم أكثرَ مع الهويّةِ اليساريّةِ والشُّيوعيّةِ.
وانطلاقاً مِنْ هذا يجب أنْ نجدِّد خطابنا وأساليبَ عملنا ووسائلنا..
وبالتَّوازي معه، يجب أن نتحدَّثَ بدقّةٍ وصراحةٍ عن عثراتِنا وأخطائنا وتخبّطنا، ونراها كما هي فعلاً وليس كما يحلو لنا.
بطبيعة الحال، يجب أن لا ننسى القمعَ الممنهجَ وتجريفَ الحياةِ السِّياسيّةِ في بلادنا وفي العديدِ من البلدانِ العربيّةِ، ودورَ ذلك في وصول اليسار إلى الحال الَّذي هو عليه الآن.
وبرأيي، توجد حاجةٌ ماسّةٌ إلى إنتاجٍ فكريٍّ ماركسيٍّ أصيلٍ (أصيل بمعنى الإبداع المنتمي للواقعِ والظَّرفِ التَّاريخيِّ المحدَّدِ).. فكر ماركسيّ يقودُ إلى فهمِ الواقعِ فهماً صحيحاً ووضعِ الخططِ والبرامجِ العلميّةِ المناسبة للتَّعاملِ معه وتغييرِه.
مطلوبٌ، كذلك، الخروجُ مِنْ حالةِ الجيتو، الَّتي يعيش فيها العديدُ من الأحزابِ اليساريَّةِ والشُّيوعيّةِ، والانفتاحُ على أوسعِ قطاعاتِ الشَّعبِ، والسَّعيُ إلى فهمِ همومِها الحقيقيَّةِ ومطالبِها الحقيقيَّةِ، وفهمِ أساليبِ تفكيرِها، والوصولِ إلى لغةٍ مشتركةٍ معها، والسَّيرِ أمامَها ومعها.. لا خلفَها أو بعيداً عنها.
النَّاس ليسوا مفصَّلين على مقاسِ تصوّراتِنا ومفاهيمِنا المجرَّدةِ، ولديهم نزعاتٌ وسماتٌ قد لا تُريحنا. لكن، على رأي نجيب سرور: «منين أجيب ناس؟!».
في الواقعِ، هذه مشكلةٌ كبيرةٌ لدى اليسارِ والشُّيوعيين العربِ، وهي أنَّ تصوّراتِ كثيرين منهم للشَّعبِ وللنَّاسِ لا علاقةَ لها بالواقعِ وليست مُنتِجَة..
النَّاسُ الَّذين تمّ الاعتمادُ عليهم للقيامِ بثورةِ أُكتوبر/تشرين أوَّل السُّوفييتيّة وكلِّ الثّوراتِ الأخرى هم أيضاً لم يكونوا مرسومين حسب المواصفاتِ النّموذجيّةِ.
مطلوبٌ أنْ نفهم النَّاس (أعني الفئات الشَّعبيَّة الواسعة)، وأنْ نتبنَّى مطالبَهم، ونتقدَّمَ الصّفوفَ في الدِّفاعِ عنهم والعملِ مِنْ أجلِ تأمين حقوقهم ومصالحهم.
مطلوبٌ أن نحلِّلَ الواقعَ تحليلاً علميَّاً دقيقاً، ونضعَ النُّقاطَ على الحروفِ، ونعملَ بشجاعة على أساسِ هذا الفهمِ السَّليمِ.
وهنا، يوجد خلطٌ وسوءُ فهمٍ كبيرين؛ فيُنْظَرُ أحياناً إلى مَنْ يلتزم بتحليل الواقعَ بدقّةٍ ووضوحٍ ومِنْ دون مراوغة على أنَّه متطرِّفٌ..
التَّطرّفُ لا يكون في هذا الجانبِ، بل يكون عندما نطرحُ برامجَ للتغييرِ لا تنسجمُ مع جدولِ أعمالِ التَّاريخِ في المرحلةِ التَّاريخيّةِ المحدَّدةِ؛ ويكون عندما نستخدمُ أساليبَ نضالٍ لا تخدمُ عمليّةَ التَّغييرِ.. أساليب تأتي بنتائج عكسيّةٍ محبطة. أمَّا فهمُ الواقعِ كما هو، وتحليلُه تحليلاً دقيقاً، وشرحُه للشَّعب مِنْ دونِ مواربةٍ أو مراوغةٍ، وبناء الخطط وإطلاق العمل على هذا الأساس، فهذا أمرٌ ضروريٌّ، وبخلافِه، نُضلِّلُ أنفسَنا ونخدع شعبَنا.
ما نحتاج إليه حقَّاً هو أنْ نوظِّف النَّظريَّة الثَّوريَّة (الماركسيَّة اللينينيَّة) توظيفاً خلَّاقاً لخدمة عملنا الثَّوريّ ولخدمة بلدنا وشعبنا في المرحلة التَّاريخيَّة المحدَّدة..
هذا ما فعله لينين مع الماركسيَّة، وهذا هو جوهر الإضافة اللينينيَّة إلى الماركسيَّة. وهذا ما فعله ماو تسي تونغ في الصِّين، وهوشي منه في فيتنام، وكاسترو وغيفارا في كوبا وأميركا اللاتينيَّة، وما فعله غرامشي قبل ذلك في إيطاليا، وما فعله سمير أمين انطلاقاً مِنْ موقعه في هامش النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ.

مركز دراسات.

س: هناك حديث في أوساط الحزب حول تأسيس مركز دراسات متخصص، لماذا هذا المركز، وما هو دوره ووظيفته، وما هي آفاقه؟

ج: ما نتَّجِهُ إليه، في هذا المجال، ليس تأسيسَ مركزِ دراساتٍ فقط، بل أيضاً إقامة مدرسة حزبيَّة، وإطلاق مجلَّة نظريَّة إلكترونيَّة..
مركز الدِّراسات ضروريّ كي تكون برامجنا وخطط عملنا ومواقفنا وأفكارنا مبنيَّة على دراساتٍ علميَّةٍ متخصَّصة وليست ارتجاليَّة. وهذا المركز له أهميَّة لنشر الوعي وتعميقه على أوسع نطاق.
أمَّا المدرسة الحزبيَّة، فنأمل أنْ يكون لها دورٌ كبير في تنمية وعي كوادرنا الحزبيَّة في النَّظريَّة الثَّوريَّة.. الماركسيَّة اللينينيَّة، وبأحوال بلادنا، وأساليب العمل المناسبة لنضالنا اليوميّ، ومِنْ أجل توسيع المعارِف، وتعميق الحصيلة الثَّقافيَّة.
وسيُقدَّم قسمٌ مِنْ هذا الجُهد عن طريق الانترنت، ليُتاحَ لكلِّ مَنْ يريد من النَّاطقين بالعربيَّة أنْ يستفيد به.
وأمَّا المجلَّة النَّظريَّة، فدورها متكامل مع أدوار الهيئتين السَّابقتين، وسنستكتب فيها باحثين ومفكِّرين أردنيّين ومن البلاد العربيَّة ومِنْ خارج البلاد العربيَّة.

س: تُروج الآلة الإعلامية الضخمة للنظام الرأسمالي تعابير من نمط المجتمع التكنوتروني، المجتمع الاستهلاكي، والمجتمع بعد الصناعي، وغيرها، وذلك للإيحاء بأن الرأسمالية تجاوزت مركزية الإنتاج الصناعي، وتخطت صراع الطبقات والتناقض الحتمي بين ملكية وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ما رأيكم؟

ج: الآلة الإعلاميَّة الضَّخمة للنِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ مصَمَّمَة أساساً لنشر الوعي الزَّائف بدلاً من الوعي الحقيقيّ. الوعي الحقيقيّ يقود إلى معرفة حقيقة النِّظام الرَّأسماليّ كنظام استغلاليّ بشع على المستويات المحلِّيَّة للبلدان المختلفة وعلى مستوى النِّظام الدَّوليّ ككُلّ، ويقود إلى معرفة الاستلاب السِّلعيّ ومعرفة حقيقة تحويل الإنسان نفسه إلى سلعة. وهذا الوعي يقود إلى رفض هذا النِّظام وإلى الثَّورة ضدّه بغية تغييره والخلاص مِنْ جوره وظُلمه. لذلك، دأبت الآلة الإعلاميَّة الضَّخمة الخاصَّة بهذا النِّظام على تزييف وعي النَّاس بدلاً مِنْ توعيتهم.
وهنا، أُذكِّرُ بما كانت هذه الآلة قد روَّجته في العقود الأخيرة في أعقاب انهيار الاتِّحاد السُّوفييتيّ مِنْ أفكار بعض منظِّري البنتاغون.. فوكوياما، على سبيل المثال، ومزاعمه حول نهاية التَّاريخ الَّتي عبَّر مِنْ خلالها عن تمنِّياته (أكثر مِنْ تحليله) لتثبيت مشهد هيمنة الليبراليَّة المتوحِّشة نهائيَّاً.
وفي تلك الفترة، نفسِها، قُدِّمَت الليبراليَّة المتوحِّشة كفكر جديد، مع أنَّها تنتمي إلى القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر، وأنَّ الأفكار الاشتراكيَّة جاءت أصلاً كردٍّ ثوريٍّ على مظالمها.
وقد انساق مع هذه الموجة كثيرٌ من اليساريين، فانتقلوا ببساطة إلى الخندق المقابل؛ لا لشيْ سوى أنَّ أصحاب ذلك الخندق بدوا ككاسبين للصِّراع في تلك المرحلة. لقد فكَّر أولئك اليساريّون السَّابقون بأنَّ الكسبَ مطابقٌ لصحَّة الموقف. إنَّه موقفٌ ذرائعيٌّ بحت.
منذ ذاك، قلتُ مراراً بأنَّ هذه المحاكمة الانتهازيَّة لو كانت صحيحة لكان التَّاريخ قد انتهى منذ حَسْمِ أوَّلِ حالة صراعٍ جرت فيه.. إذ لكانت مواقف الكاسبين قد ثُبِّتَتْ في صفحة التَّاريخ كصوابٍ نهائيٍّ ومطلقٍ، ومواقف المهزومين كخطأٍ نهائيٍّ ومُطلقٍ، ولما بقي مِنْ مجالٍ لاستمرار الصّراع بعد ذلك. فهل هذا ما حدث ويحدث في التَّاريخ الحقيقيّ؟
اليساريّون الَّذين انتقلوا آنذاك مِنْ خندق اليسار إلى خندق الليبراليَّة المتوحِّشة، راحوا يتكلَّمون عن انتهاء الصِّراع الطَّبقيّ، بل وتكلَّموا أيضاً عن انتهاء الطَّبقة العاملة كما عرَّفها ماركس وأنجلز! وآنذاك، رَدَدتُ على تلك المزاعم بمقالٍ لي بعنوان «عندما اختفت الطَّبقة العاملة»..
والحقيقة أنَّ كلامَ هؤلاء كشف عن نقصٍ خطيرٍ في الوعي لديهم.. هذا في أقلِّ الأحوالِ سوءاً؛ فلو كانوا على وعيٍ بتعريف ماركس وأنجلز للطَّبقة العاملة، لما قالوا ذلك الكلام؛ هذا إذا لم يكونوا يراهنون في الحقيقة على غياب الوعي لدى النَّاس..
ولكنَّهم، بالمقابل، لم يقولوا إنَّ البرجوازيَّة أيضاً لم تعد موجودة! كما أنَّهم لم يقولوا كيف يمكن للبرجوازيَّة أنْ تستمرّ في الوجود إذا كانت البروليتاريا قد اختفت، كما زعموا.. مع أنَّ وجودَ كلٍّ منهما شرطٌ لوجود الأخرى؟!
في الواقع، هم تحدَّثوا عن تغيّر البرجوازيَّة أيضاً (بل والنظام الرأسماليّ الدوليّ بمجمله كذلك)؛ لكنَّهم تجاهلوا حقيقةَ أنَّ البرجوازيَّةَ تغيَّرتْ باتِّجاه أنَّها أصبحتْ أكثر ميلاً بكثير إلى النمط الاحتكاريّ، وأنَّ النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ راح يتَّجه إلى استعادة طبيعته الوحشيَّة الَّتي كانت سائدة في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر، وأنَّ الإمبرياليَّة عادتْ إلى أسلوبها القديم المتغطرس في التَّعامل مع البلدان والشُّعوب.. أُسلوب الإملاءات السِّياسيَّة والبوارج الحربيَّة.. الخ.
وبالمقابل، ظلَّتْ صورة الطَّبقة العاملة في أذهانهم هي صورتها كما كانت في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر والنِّصف الأوَّل من القرن العشرين، أي العمالة التَّقليديَّة محدودة المهارات وعمّال المصانع فقط، متجاهلين أنَّ هاتين كانتا مجرَّد شريحتين مِنْ شرائح الطَّبقة العاملة.
وهذا في حين أنَّ تعريف ماركس وأنجلز للطَّبقة العاملة (وللبورجوازيَّة) إنَّما هو على النَّحو التَّالي:
يقول أنجلز في ملاحظة له على الطَّبعة الإنجليزيَّة للبيان الشُّيوعيّ في العام 1888:
«نعني بالبرجوازيَّة طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الإنتاج الاجتماعي الذين يستخدمون العمل المأجور. ونعني بالبروليتاريا طبقة العمال الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أية وسائل إنتاج فيضطرون بالتالي إلى بيع قوة عملهم لكي يعيشوا».
وبهذا المعنى، كم هي (وما هي) الفئات الاجتماعيَّة الَّتي لا تملك أيَّة وسيلة إنتاج فتضطرّ إلى بيع قوَّة عملها لكي تعيش؟
وهذا طبعاً بغضِّ النَّظر عن التَّفاوت في مقادير أُجور العاملين وعن الشَّكل الَّذي يُترجَم به توظيف قوَّة العمل، وهل هي قوَّة عملٍ ذهنيٍّ أم عضليّ.
ولذلك، حين يتحدَّث أنجلز عن خطط الشُّيوعيَّة المستقبليَّة بالنِّسبة للمِلكيَّة، يوضِّح قائلاً: «إن الشيوعية لا تسلب أحداً القدرة على تملّك منتجات اجتماعية، إنها لا تنزع سوى القدرة على استعباد عمل الغير بوساطة هذا التملّك».
وهذا النَّمط من التَّملّك يؤدِّي، بحسب البيان الشُّيوعيّ، إلى المفارقة المأساويَّة التَّالية: «في المجتمع البرجوازي، الرأسمال مستقل وشخصي في حين أن الفرد الذي يعمل تابع لغيره ومحروم من شخصيته».
ولذلك، يخاطب البيانُ الشُّيوعيُّ الخصومَ البرجوازيين الَّذين يهاجمون الشُّيوعيَّة مِنْ زاوية أنَّها تريد أنْ تلغي كلَّ أشكال المِلكيَّة، قائلاً: «فأنتم تأخذون علينا إذن أننا نريد محو شكل للمِلكية، شرط وجوده أنْ تكون الأكثرية الساحقة محرومة من كل مِلكية».
ثمّ يوضِّح قائلاً: «وليس هدم علاقات المِلكية القائمة أمراً يلازم الشيوعية وحدها. فقد كابدت جميع علاقات المِلكية تغييرات تاريخية متتابعة وتعاقُباً تاريخياً مستمراً. فالثورة الفرنسية مثلاً قضت على المِلكية الإقطاعية لمصلحة البرجوازية. غير أن المِلكية الخاصة في الوقت الحاضر، أي المِلكية البرجوازية، هي آخر وأكمل تعبير عن أسلوب الإنتاج والتملّك، المبني على تناحرات الطبقات واستغلال بعض الناس لبعضهم الآخر. وعلى هذا، باستطاعة الشيوعيين أن يلخصوا نظريتهم بهذا الصدد في هذه الصيغة الوحيدة وهي القضاء على المِلكية الخاصة».
الطَّبقة العاملة، كما رأينا، موجودة؛ بل هي أوسع من السَّابق بكثير؛ والتَّفاوت الطَّبقيّ أكثر حدَّة، بل إنَّه يشهد استقطاباً هائلاً، حيث تتمتَّع فئة ضئيلة جدَّاً من الأشخاص بمقدارٍ من الثَّروات يُعادل ما تملكه الغالبيَّة السَّاحقة من البشر. وعندما يوجد تفاوت طبقيّ، بل تفاوت طبقيّ فادح كهذا، فمن الغريب أنْ يجري الحديث عن انتهاء الصِّراع الطَّبقيّ! الصِّراع الطَّبقيّ أكثر حدَّة الآن بكثير ممَّا كان عليه في أيِّ وقتٍ مضى، بل هو الآن قائم على مستويين: مستوى كلّ بلد على حدة، ومستوى النِّظام الرَّأسماليّ الدوليّ بمجمله.. بين أطراف النِّظام الرَّأسماليّ الدوليّ وبين مراكزه.
وهكذا، فطبيعة النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ وجوهره لم يتغيَّرا. وبناء عليه، فموقف الشُّيوعيين من النِّظام الرَّأسماليّ لم يتغيَّر، واقتراحهم الاشتراكيّ (والشُّيوعيّ) لا يزال قائماً.