موسى وجولييت الفصل الثالث


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4566 - 2014 / 9 / 6 - 14:57
المحور: الادب والفن     


حقيقته أن يكون جنديًا كُتب له الظفر، هو اقتحامه للعالم، وهو الحظ السماويّ. ميلاده استمرار وديمومة، وهو طاعة غيره له، أَوَ ما انتهى عهد العقاب؟ عقاب الآخرين على يده منته عليهم، وفي العقاب جزاء التوبة، ونعيم السيف، وانتصار الموت في اللحظة التي يصبح فيها الضد وعكسه، وفي الامتداد اللاطبيعي للأشياء، أَوَ نقول ارتكاسا؟ حياته أوسع من أفق مفتوح، وأعمق من بحر متلاطم، ولكنه دومًا يصل، وهو لا يصل إلا ليذهب بالعالم إلى سعادته. على رماح الحرب، نعم، إذا ما لزم ذلك. وهذا موسى ومعه جولييت يغتسلان في ماء البحر، ويتحدان، بعد أن نفذا من الدائرة. كيف يعيدهما الجنديّ إلى قوة الحصار؟ كيف يكوّن من حبهما حبه لسلاحه؟ كيف يعيد صياغة الدائرة والدوران الخالد؟
راح يوسُفُ يجري مثل زوبعة في سيناء ليخبر ياكوفَ أباه: يا للكارثة! يا للكارثة! جولييت تريد موسى وموسى يريد جولييت، وقد ألقى كل منهما بجسده في البحر عاريا. يا للكارثة! يا للكارثة! أي حب سيبقى له؟ وأي حلم سيتشبث به؟ وهذا أبوه بينه وبين أخته كالتمثال جاثم، وهذا موسى يأخذ منه حبه المستبد.
كان ياكوف، أبوه، يتوجه إلى نوري بهذه الكلمات، وهو يربض بظله المهدد الواعد، ونوري يرمي النظر إليه بعين الصاغر الطائع:
- أنا أعتبرك مثل ولدي، يا نوري، انتزعتك من "شكونات هاتيكفا" قبل أن يقتل والديك البائسين قدرهما البائس.
- نِعْمَ ما فعلت، يا أبي ياكوف!
- نَعَمْ، أنا أعتبرك مثل ولدي يوسُف، أصغركم الذي أكثر من أحبه فيكم.
- وأنا فخور بذلك، يا أبي ياكوف!
- لهذا عليك أن تسهر جيدًا على مصالح أبيك ياكوف، يا نوري. أنت تعرف المسألة، إن لم تسهر على مصالح أبيك ياكوف، ذهب كل شيء هباءً منثورا، كل هذا الصرح سينهدم إن لم تسهر على مصالح أبيك ياكوف، يا نوري.
- أقدم عنقي في سبيلك، يا أبي ياكوف العزيز!
- ستقدم عنقك في سبيلي إذا ما جرى واجب، ولكني أريدك الآن أن تفتح عينيك واسعًا مثل بوم لا تعرف النوم، وضبع لا تظلم عيناه، وثاكل أنفقت كل الدمع. أريدك أن تفتح عينيك واسعًا، وتسهر جيدًا على مصالحي، فمصالحي هي مصالحك، وأنا الذي رباك على يديه مثلما ربى يوسُفَ وجولييت. أريد أن أبقى ملكًا للحوم في أسواق تل أبيب، وإذا ما عصى أمري أحد، استعمل قبضتك الحديد، وأنت تفتح عينيك واسعًا على الدنيا.
- سيتدخل الضابط أفنيري.
- أنت لن يخيفك الضابط أفنيري.
- أنا لن يخيفني الضابط أفنيري، يا أبي ياكوف.
نبه نوري ياكوفَ أباه إلى وجود يوسُف المنتظر خلف الباب المزجج، لكن ياكوف سأل نوري:
- وماذا بشأن ما تدفعه نوادي الليل لنا؟
- الكل يدفع ما عدا نادي أدريانا، سالومون يماطل، يقول إن النادي لا يمشي كالسابق.
- إذا كان النادي لا يمشي كالسابق، فهذا شأنه. قل لسالومون أريد العمولة، وإلا رفعت عنه حمايتي، قل له إنه إنذاري الأخير.
- سأقول له، لكنه لن يسمع لي.
- ستقول له إنه إنذاري الأخير، يا رب موسى! وإذا لم يسمع لك، خلعت التاج عن رأسي، هذا الرأس الكبير!
- سأقول له، لكنه لن يخضع، ولن يرتدع.
- إن كان الأمر أمرا، رأى قيصر في رعيته شرا.
خفض نوري رأسه سمعًا وطاعة، ثم تحرك، وفتح الباب المزجج ليوسُف الذي دخل باضطرابٍ وعجلة، وهو يقول لياكوف أبيه:
- إنه أمر جولييت، يا أبتِ.
فتراخى أبوه ياكوف في مقعده الجلديّ، وقال ببرود جم:
- ما لك وما لها جولييت، يا يوسُف؟ قلت لك مائة ألف مرة ألا تهتم إلا بنفسك إذا ما تعلق الأمر بجولييت طالما بقيت حيا، أن تكون جنديًا مثاليا، وهناك، على الحدود. أن تكون على الحدود سلاحًا وبين الحدود سلاحًا وعصا.
صاح يوسُف بياكوف أبيه:
- أتحبني هناك وتكرهني هنا؟ فليكن! اكرهني هنا، وتعال ننقذ جولييت من حب جولييت.
- هنا أم هناك، أبدًا لم أكره في حياتي يوسُف الذي أكثر من أحب في الوجود.
- تقوله، يا أبتِ، ولكني لا أشعر بِهِ.
- ككل جاحد للجميل.
حدق ياكوف، أبوه، في وجهه، وسأله بتأنٍ:
- ما هو أمرها جولييت؟
ألقى يوسُف نظرة حاقدة على ظل أبيه الرهيب، وأخرى مترددة على نوري الراضخ في ظله، فعنفه أبوه أشد عنف:
- لا تطلب مني أن أصرف نوري، إنه بمثابة أخيك! وكم من مرة طلبت إليك أن تعتبره أخًا أكبر لك، في السراء يكون لك وفي الضراء يكون لك.
سارع يوسف إلى القول:
- بل على العكس، أريده أن يسمع ما سأقوله لك من قصة لن تسعده هو أيضا، وجولييت طرف أساسي في حبكتها.
راح كلاهما يفحصه بنظرةِ القَلِقِ المتحيرِ لأسئلة يثيرها عزيز يروعه أمره، وبعد أن تركهما يوسُف ينتظران زمنًا فاقم لديهما من قلقٍ وحيرةٍ نطق:
- جولييت تحب عربيًا، لا هو من عربنا، ولا هو من عربهم، في ملامح وجهه بطولة أمير مضطهد.
وراح بدوره يفحصهما بنظرة المنتظر المنقب عن ردود الفعل لديهما، وفي صدره بعض سعادة مباغتة، فقد كان رد فعل أبيه المنعكس عن ملامح وجهه يتباين فيه الذعر والحنق، وهو يبذل جهدًا ضائعًا لإخفاء أثر تلك الطعنة في القلب، والتي تزلزل له الكِيان، فكأن يوسُف قد قطع من كبد يعقوب النبي قطعةً أخذ يلوكها بتلذذ. أما عن نوري الذي باعه ذات مرة للقافلة، فها هو يهدي نفسه للشيطان، ويحفز النفس على إعادة الصفقة بشكل آخر يكون موسى محورها، فيقتله على حجر أو، على الأقل، يتيهه في الصحراء أربعين عامًا بعد أربعين عام... رآه يتحول إلى ثعبان من القلز مفترس، وكبد أبيه إلى قرن ثور مقدس.


يتبع الفصل الرابع