تعريف موجز بموضوع رواية -الشمندورة-


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4202 - 2013 / 9 / 1 - 15:55
المحور: الادب والفن     

تعريف موجز بموضوع رواية "الشمندورة"
(أول رواية نوبية فى تاريخ الأدب العربى)
الشمندورة، محمد خليل قاسم، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، القاهرة، 1968
(528 صفحة من القطع الكبير فى 57 فصلا)
بقلم: خليل كلفت
على مر القرون، عاش النوبيون – الذين تنتشر قُراهم على شاطئىْ النيل – مع النيل وبالنيل ورغم النيل، ينعمون بخيراته ويقاسون ويلاته، غير أن القرن العشرين كان يدَّخر لهم دراما كبرى حسمت مصيرهم فى نهاية الأمر.
والمصير المقصود هو، بطبيعة الحال، الاقتلاع من أرض الوطن (الموطن): النوبة، أىْ مصير الشتات النوبى المرتبط ارتباطا كاملا بمشروعىْ الرى الكبيرين فى تلك المنطقة: خزان أسوان والسد العالى.
ولم ينكر النوبيون فى يوم من الأيام أن المشروعين كانا لخير مصر كلها ولم يرفضوا فى يوم من الأيام تلك التضحية بالوطن ذاته، رغم رغبتهم المشروعة لكنْ المحطمة فى معاملة منصفة. وعلى كل حال، لم يكن هناك مفر من قَدَر الشتات والاقتلاع من أرض الوطن (موطنهم)، وكان هذا قَدَرا بالنظر إلى الأوضاع ككل فى مصر، من حيث عقلية وطاقات مصر طوال هذا القرن، فلم تحاول ولم تفكر أصلا فى توفير حياة جديدة كريمة للنوبيِّين فى وطنهم (موطنهم) على شاطئىْ النيل، شاطئىْ بحيرة ناصر فيما بعد.
ولم تحدث دراما النوبيِّين فى القرن العشرين أىْ الشتات بسبب خزان أسوان والسد العالى دفعة واحدة. فقد تم بناء خزان أسوان 1899-1902، وتمت تعليته الأولى 1907-1912، وتعليته الثانية 1929-1934، وتم فى النهاية بناء السد العالى (كان الخروج النوبى النهائى فى 1964). وكانت كل خطوة من هذه الخطوات الأربع تعنى منسوبا جديدا أكثر ارتفاعا لمياه النيل. ولأن القرى النوبية قرى نيلية تقع على النيل مباشرة، كما أنها تقع من ناحية أخرى جنوبى الخزان، كان من المنطقى أن يعنى كل منسوب جديد أكثر ارتفاعا أن تغرق المناطق المنخفضة عن ذلك المنسوب فى كل قرية، كما كان من المنطقى أن تكون أضرار كافة مراحل خزان أسوان أشد دمارا على القرى الشمالية الأقرب إلى الخزان، وإنْ كان الدمار واسع النطاق أيضا فى القرى الجنوبية.
هذه الدراما الكبرى، بمختلف فصولها، أعادت تشكيل حياة النوبيِّين بصفة جذرية. كان تقلُّص الأراضى الزراعية أو غرقها بصفة كلية أو شبه كلية يعنيان انهيار الأرضية التى تقوم عليها الحياة الزراعية الفلاحية للنوبة والنوبيِّين، وكانا يعنيان بالتالى الهجرة الواسعة النطاق. فمع الخزان وتعليته مرتين، أخذ النوبيون من القرى الشمالية يهاجرون جنوبا إلى النوبة الجنوبية، وأخذ النوبيون فى القرى الشمالية والجنوبية يهاجرون شمالا إلى القاهرة والإسكندرية. وأخذ يظهر ذلك النمط الجديد من النوبى البواب أو الطباخ أو السفرجى (أو بصفة أعم: "البربرى" بتعبير عنصرى). وبدأت معاناة الغربة والأشكال التى لا يمكن تفاديها من العنصرية بكل آثارها النفسية على النوبيِّين، وإنْ كانت على كل حال مستويات معتدلة من العنصرية.
وفى هذا السياق، يمكن النظر إلى رواية الشمندورة على أنها تاريخ روائى لقرية "قتّه" النوبية، خلال حوالى 5 سنوات، من 1930 إلى 1935، أىْ قُبَيْل وخلال وفى أعقاب التعلية الثانية لخزان أسوان.
يتمثل الحدث الكبير، التاريخى فى هذه الرواية إذن فى توقعات ونتائج التعلية الثانية لخزان أسوان كما تحققت فى قرية "قتّه" النوبية: الانتظار والترقب والإعداد والاستعداد والهجرة قبل اكتساح مياه النيل للقرية. وكانت الهجرة فى وجهات ثلاث: شمالا إلى مناطق فى جنوبى الصعيد، وجنوبا إلى قرية بلانة النوبية بصفة خاصة، وغربا (وهنا بالذات تُواصل الرواية فصولها حيث يبدأ بناء حياة جديدة على الشاطئ الغربى قبالة القرية الغارقة).
ورغم أن مراحل بناء وتعليتىْ خزان أسوان لم تُغرق القرى النوبية إغراقا شاملا، بل تركت هذه المهمة الأخيرة للسد العالى، كان قَدَر قرية "قتّه" أن تُغرقها التعلية الثانية بصفة كاملة ونهائية. وهكذا كان الإغراق الكامل والنهائى لقرية "قتّه" بمثابة "پروڤ-;-ا چنرال" للحدث الأكبر: إغراق السد العالى للجانب الأكبر من النوبة المصرية ولجانب كبير من النوبة السودانية.
ومن غير المتوقع بطبيعة الحال أن تؤرخ الرواية لهذا الحدث كما يمكن أن يفعل كتاب تاريخ. إنها بالأحرى رواية معاناة هؤلاء البشر لهذا المصير كأفراد وسيكولوچيا جمعية وحكمة شعوب، كمقاومة ومواجهة وإعادة بناء لحياة تم تدمير مقوماتها.
ورغم أن نُذُر هذا الحدث واردة فى الرواية منذ الصفحة الأولى، مع وصول لجنة تسجيل الممتلكات: الأراضى، البيوت، النخيل، إلا أنها تكاد تنقسم إلى نصفين؛ يركِّز النصف الثانى على التعلية ونتائجها بينما يقوم النصف الأول بتقديم الحياة النوبية الأصلية فى هذه القرية، حيث نعرف خصوصيات وعموميات تلك الحياة، كما نتعرف على شخصيات الرواية فى حياتها العادية الأصلية، قبل أن نرى تعامل هذه الشخصيات مع الحدث الكبير: حدث الاقتلاع من الجذور.
يمكن، إذن، تمييز عنصرين بارزين فى الرواية: المكان والتهجير.
ولأن البطل فى نهاية الأمر هو المكان، أىْ النيل، وبالأحرى النيل فى تلك المنطقة، يبدو البشر بوصفهم جماعة قبل أن يكونوا أفرادا وشخصيات.
ورغم كل أهمية هذه الشخصيات، ورغم أن منها شخصيات لا تُنسى، يمكن القول إن الشخصيات التى نتعامل معها بصفة مباشرة طوال الرواية شخصيات بسيطة: شخصيات قروية غير مركَّبة، فالرواية إذن ليست رواية شخصيات فى المحل الأول بل هى رواية تدور حول شخصية جماعة من البشر فى مكان خاص وفى ظرف خاص.
وتتأكد هذه الصفة الجمعية بواقع أن الرواية – رغم أنها تقدم عالم الكبار بكل مقتضياته – تتوالى فصولها وأحداثها من خلال رؤية الأطفال.
فمنذ البداية نلتقى بالراوى الطفل "حامد"، ضمن مجموعة من أطفال القرية بقيادة زعيمهم "بُرَعى". ومن خلال رؤيتهم للحياة والقرية والعالم ندخل عالم الكبار، فهو عالم واحد فى نهاية المطاف.
الرواية إذن بضمير المتكلم، والمتكلم طفل (8 سنوات فى بداية الرواية، 13 سنة فى نهايتها)، الأمر الذى يُضفى على الرواية سمة خصوصية هى سمة رؤية الطفل (ومجموعة الأطفال بالتالى)، وهذه السمة من شأنها الابتعاد برواية مكان خصوصى وحدث تاريخى من عيوب بعض مقتضياتها.
غير أن هذه الرواية الضخمة، والتى لا تقلّ حجما عن نصف ثلاثية نجيب محفوظ، لا تستطيع أن تتخلص من واقع أن مسرح أحداثها واسع للغاية: قرية كاملة بنجوعها وبشرها، أفرادا وعائلات، ونشاطها ومواسمها، مع بعض الامتدادات المنطقية إلى قرى أخرى مجاورة، وبالأخص مع بعض الامتدادات المنطقية بدورها إلى القاهرة.
وهنا تظهر حدود ضمير المتكلم، كما يستخدمه الكاتب فى الرواية، ويظهر بالتالى ضمير الغائب وعين الله. وإذا كانت الرواية بثلاثة أرباعها تقريبا بضمير المتكلم، فإن رُبْعها تقريبا بضمير الغائب. ولا شك فى أن هذه المفارقة تُشعر القارئ بغير قليل من الارتباك عند الانتقال إلى ضمير الغائب بغير منهج واضح.
وبطبيعة الحال يفرض المكان شروطه. فالرواية تقدِّم لأول مرة، فى ذلك الحين، وربما إلى الآن باعتبار المستوى، القرية النوبية، والحياة النوبية، والثقافة النوبية، والسيكولوچيا النوبية، والشخصية النوبية، إلخ.، إلخ.،.. وتتمثل الضريبة المنطقية لهذا الوضع فى عشرات الصفحات التى تفرضها هذه المقتضيات، من وصف للمكان والمواسم والأفراح والأتراح إلخ.، إلخ.،..
على أن الرواية تقدِّم كل هذه الجوانب من خلال نظرة الطفل وسرده، الأمر الذى يُضفى على الرواية كلها حميمية وسلاسة، بحيث تذوب هذه الجوانب فى أغلب الأحيان أو تفقد فظاظتها المتوقعة فى روايات أخرى.
وتُعَدّ الشمندورة أول وأعظم رواية نوبية. وإذا كان هناك من يريد التعرُّف على حياة النوبيِّين فى النوبة القديمة (قبل السد العالى)، وبالتالى الكثير من سمات الحياة النوبية المعاصرة فى المهاجر، فسوف يجد خير عون فى هذه الرواية التى سيكتشف بعد قراءتها أنه صار يعرف الإنسان النوبى من داخله أيضا، وأعتقد أن هذا يقع ضمن دائرة أسمى ما يقدم الأدب الرفيع وبالذات الرواية.
(مكتوب فى 1994 ولم يُنشر من قبل)