حديث عن الأوضاع قبل إسقاط مرسى


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4149 - 2013 / 7 / 10 - 05:43
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

حديث عن الأوضاع قبل إسقاط مرسى
خليل كلفت مع الأستاذة هانم الشربينى
(لم يُنشر بعد)
- ما رؤيتك للمشهد الثقافى العام فى ظل الأزمات السياسية التى نعيشها؟
* الأزمات السياسية التى نعيشها تصنعها صراعات سياسية متواصلة وبالأخص بعد وصول جماعة الإخوان المسلمين على رأس باقى جماعات وأحزاب الإسلام السياسى إلى السلطة. وتتولّد عن السياسات الإخوانية ومنها الاندفاع بسرعة مذهلة فى مجال الأخونة والتمكين والسيطرة على كل مفاصل الدولة أزمات لا حصر لها، كما تؤدى لامبالاة حكم الرئيس مرسى إزاء قضايا مصيرية مثل سد النهضة الذى يجب أن ندرك أن مصر عاجزة تماما عن أن تحرِّك ساكنا فيما يتعلق بها؛ فقد "وقع الفاس فى الراس". وهناك مشروعات مدمِّرة من خلال قانون الصكوك لقناة السويس وبالتالى لمدن القنال وسيناء التى تجرى صوملتها على قدم وساق. وهناك مذبحة القضاء وأشياء أخرى لا تُحصى وقوانين غير دستورية وخروج متواصل فى قمة السلطة على القانون، وتنفيذ أحكام القضاء. وهناك عنف متواصل ضد المعارضة وترويع وإرهاب وجرائم وتهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور قبل وبعد 30 يونيو القادم. وكل هذا يزيد من حدة الأزمات جنبا إلى جنب مع الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتواصلة. وفى سياق هذه الأزمات والصراعات جاء الهجوم الشامل على الثقافة المصرية. وبادر وزير الثقافة الذى عينه الإخوان على الفور ودون أن يضيِّع وقتا بالإقالات وقبول الاستقالات من كل المناصب الأساسية وما تحتها مباشرة فى مختلف مؤسسات وزارة الثقافة. وجاء إلى هذه المناصب بقيادات إخوانية. وشمل هذا العصف بالقيادات الثقافية هيئة الكتاب ودار الكتب والوثائق القومية والمجلس الأعلى للثقافة ودار الأوپرا والباليه وأخيرا وليس آخرا تم إغلاق متحف الآثار المصرية فى روما، ويتواصل الهجوم الشامل رغم "ثورة" المثقفين فى كل مجالات الثقافة ومظاهراتهم ومسيراتهم واعتصامهم فى مبنى الوزارة نفسه محاصَرين بالوزير والمرتزقة من مؤيديه. وكل هذا مجرد بداية فى سبيل السيطرة الإخوانية على الثقافة المصرية ومؤسساتها الرسمية، لتدمير هذه الثقافة، بحجة تطهير الوزارة من الفساد دون وثائق محددة، وبحجة أن فئة بعينها هى المسيطرة على الثقافة ووزارتها مع إقصاء مثقفى ومبدعى الإسلام السياسى الذين لا وجود لهم فى الحقيقة. هذه مجرد بداية غير أن مصير الوزير صار مرتبطا بمصير الرئيس فى سياق حركة "تَمَرُّد".
- وهل تعتقد أن الحركة الثقافية تعود للخلف بعد الثورة أم أن الحرية التى اكتسبناها بالثورة ستقفز بها للأمام؟
* لا شك فى أن الحرية التى انتزعناها بالثورة، فى الممارسة ولكنْ ليس فى الدستور والتشريع والقانون بطبيعة الحال، من شأنها أن تدفع الحركة الثقافية، والإنتاج الثقافى والفكرى والإبداعى إلى الأمام، غير أن مصير سير الثقافة المصرية إلى الأمام مرتبط ارتباطا وثيقا بمصير الثورة. وأعتقد أن الثمرة الحلوة التى يمكن أن يخرج بها شعبٌ، أىّ شعب، من ثورةٌ، أىّ ثورة، كما يعلمنا التاريخ الحديث هى الديمقراطية الشعبية من أسفل أو بتعبير آخر الديمقراطية التى تنتزعها القوى الحقيقية للثورة. ولا معنى لكلمة الديمقراطية ذاتها إلا عندما ينتزعها شعب من أسفل لأنه لا يمكن أن توجد ديمقراطية فى صميم بنيان الدولة ومؤسساتها وأجهزتها. والمقصود بالديمقراطية الشعبية من أسفل هو نجاح قوى الثورة فى انتزاع الحقوق والحريات ومنها حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب وكل أنواع الاحتجاج، ونجاحها فى انتزاع الأحزاب والنقابات المستقلة كأدوات للنضال الاقتصادى والسياسى، ونجاحها فى انتزاع مستويات معيشة كريمة بكل مقتضياتها من أجور يرتبط تطورها بتطور الأسعار والتضخم بين الحدين الأقصى والأدنى للأجور، وفى انتزاع التأمين الصحى الشامل للشعب المصرى كله، وانتزاع حق التعليم المجانى الجيد، ونجاحها فى انتزاع استقلال القضاء واستقلال الصحافة والإعلام، ونجاحها فى انتزاع تحرير المرأة وتحرُّرها، وفى القضاء على كل تمييز بسبب الجنس أو الدين أو العرق أو اللون، وغير هذه الأشياء بالطبع. وتصير القضية الكبرى بعد ذلك هى النجاح فى توسيع وتطوير وتعميق هذه الديمقراطية التى سوف تتعرض للاعتداء والهجوم بصورة شاملة متواصلة فى ظل الدولة الحاكمة المسيطرة: دولة مبارك والدولة الدينية اللتين تتصارعان على سلطة الدولة فى الوقت الحالى.
- وهل تعتبر 25 يناير ثورة اجتماعية أم سياسية؟
* الأوضاع الاجتماعية المتردية التى دفعت طليعة شبابية شعبية ثم الشعب كله إلى الثورة لا تبرِّر مطلقا وصفها بأنها ثورة اجتماعية. ومهما استطاعت الثورة أن تحقق من إصلاحات اجتماعية واقتصادية وثقافية حتى كبيرة فإن هذا لا يجعلها ثورة اجتماعية. فمفهوم هذه الأخيرة أنها تنقل المجتمع من نمط إنتاج إلى آخر: مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية، فى التاريخ الحديث. ومن ناحية أخرى فإنه لا يمكن وصف ثورة سياسية شعبية مهما كبرت وعظمت بأنها ثورة اجتماعية فى أىّ بلد من بلدان العالم ولا فى أىّ عصر تاريخىّ فهى ثورة سياسية شعبية فى كل الأحوال وفى كل مكان وزمان؛ حتى عندما تكون فى سياق ثورة اجتماعية حقيقية. والسؤال الحقيقى هو فى أىّ سياق تاريخى تحدث هذه الثورة السياسية: فى سياق ثورة اجتماعية أم فى سياق غياب ثورة اجتماعية؟ والثورة الاجتماعية هى الأهم من ثورة الانفجارات الثورية الشعبية وبدون الأولى لا تؤدى الثانية إلى تقدُّم كبير فى أغلب الأحوال. ذلك أن الثورة الاجتماعية تعنى التطور الاجتماعى-الاقتصادى الطويل والعميق قبل الثورة الشعبية؛ مثلا فى حالة ثورة 1789 السياسية الكبرى: خلال فترة تزيد على مائة عام تطورت الثورة الاجتماعية وهى بطبيعتها ثورة بطيئة من خلال تطور الاقتصاد والعلم والفكر؛ ورشة ورشة، مصنعا مصنعا، مزرعة رأسمالية، مزرعة رأسمالية، دكانا دكانا فى اتجاه السوق، شركة شركة، اختراعا اختراعا، نظرية نظرية؛ إلخ.
- وما الذى ينقص ثورتنا؟
* ثورتنا ثورة سياسية شعبية كبرى فى السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية فليست فى السياق التاريخى لثورة اجتماعية سابقة. وهكذا لم تسبقها حالة يمكن الانطلاق منها والبناء عليها بل سبقها خراب شامل لم يبدأ بعهد مبارك ولكنه تفاقم فيه واستفحل وصار من المستحيل البناء على منجزات مفقودة أصلا.
- وما الفارق بين الثورة الفرنسية والنظام القديم هناك، والثورة المصرية؟
* فى الثورة الفرنسية كانت الثورة الاجتماعية قد حققت مراحل فى تطور الرأسمالية وحولت المجتمع الفرنسى إلى مجتمع رأسمالى انتقالى ظل يتطور رأسماليا على مدى مائة سنة أخرى بعد الثورات السياسية من 1789 إلى 1830 إلى 1848 إلى كومونة پاريس 1871 قبل أن يقوم مجتمع رأسمالى ناضج مستقر بكل معنى الكلمة. والثورة الاجتماعية غائبة قبل ثورة 25 يناير 2011. وهذه الثورة الاجتماعية هى التى يسميها المفكر والفيلسوف السياسى الفرنسى الكلاسيكى أليكسى دو توكڤ-;-يل بالنظام القديم أىْ أن النظام القديم السابق للثورة فى فرنسا كان نظاما رأسماليا انتقاليا يندفع بقوة إلى الأمام. ومن هنا فكرة توكڤ-;-يل التى تبدو ملغزة للوهلة الأولى: النظام القديم هو الثورة! وكان أىّ نظام قديم تقدُّمى مندفع إلى الأمام غائبا فى مصر بل لم يكن هناك سوى التدهور الاجتماعى-الاقتصادى الشامل المتواصل قبل الثورة. ومن هنا كل مشكلاتنا ومعضلاتنا. فنحن لا ننطلق بعد الثورة من نقطة تطورية تقدمية مادية سابقة على الأرض لنبنى عليها بل تمثل كل ما سبق ثورتنا فى خراب شامل يستحيل البناء عليه بل لا مناص من إحداث قطيعة كاملة معها وتتمثل المشكلة فى أن القوى الثورية الحقيقية أضعف من أن تتجه بنا فى المدى المباشر والمتوسط نحو مثل هذه القطيعة.
-كما كان على توكڤ-;-يل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة، فعلينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن، والفرق هو أنه كان يقوم بتشريح جثة، مهما قال إن تلك الثورة كانت ما تزال مستمرة، على حين أن علينا أن نقوم هنا والآن بدراسة ثورتنا فى خضم تطوراتها، هكذا ذكرتَ فى مقدمة كتابك الأخير فهل تعتقد أن ثورتنا تنقصها دراسة طبيعتها وتطوراتها أم أنها لا تزال مستمرة وما زلنا عاجزين عن رصدها بشكل كامل؟
* أعتقد أن الثورة التى كانت ما تزال مستمرة هى فى المحل الأول الثورة الاجتماعية-الاقتصادية السابقة لحدث 1789 واللاحقة لها. وبهذا المعنى فإن الثورة التى كانت مستمرة ما تزال بعد 1789 بستين سنة هى الثورة الاجتماعية-الاقتصادية فى المحل الأول، وكان لم يعد باقيا من الزمن سوى عقود قليلة لتكتمل الثورة الحقيقية تماما، ولهذا لم تكن تلك الثورة جثة إلا من حيث إن أحداثها وتطوراتها كانت قد استمرت قرابة مائة وستين عاما فكان الحديث عنها حديثا فى فلسفة التاريخ وبحث وقائع صارت فى ذمة التاريخ. وفيما يتعلق بثورتنا فإن الدراسات ما تزال غير كافية ليس لعجزنا عن رصد وقائعها بل لعدم وجود تصوُّر واضح عن طبيعتها التى تحدد خصائص مصيرها؛ والسبب الحقيقى هو أن مفهوم الثورة غائب عند المثقفين المصريِّين والعرب وغيرهم فى العالم كله، ربما لأن الفكر الثورى العالمى لم يقدِّم إجابة واضحة تماما على سؤال مفهوم الثورة، وربما كانت الثورات المسماة بالاشتراكية طوال القرن العشرين قد ساهمت بتطوراتها وفكرها فى تشويش مفهوم الثورة.
- لماذا لم تستمر فى مسيرتك فى النقد الأدبى، وهل وجدت فى الترجمة معادلا لمشروعك الثقافى؟
* شغلتنى السياسة كما شغلت غيرى. وقد أصدرتُ منذ سنوات كتاباتى النقدية فى الستينات والبداية الأولى للسبعينات فى كتاب بعنوان "خطوات فى النقد الأدبى". ومنذ أوائل الثمانينات سيطرت الترجمة ووضع المعاجم والعمل فى قواعد البيانات المعجمية والأبحاث النحوية على جهودى. وشهدت الفترة المذكورة ترجمات أدبية وفى النقد الأدبى ودراسات الترجمة. وكانت هناك بالطبع كتابات فكرية وسياسية وثقافية متنوعة. ويبدو فى الأسابيع الأخيرة أننى أتجه إلى العودة إلى النقد الأدبى. والسبب حدث عارض فى منتهى الطرافة ولكن المجال لا يتسع لسردها هنا.
- النحو حتى اليوم متخلف حتى لدى أعضاء مجمع اللغة العربية الذين لا يقدمون أيّ خدمات فعلية للغة، هذه مقولة لك فماذا عن أسباب وجهة النظر هذه؟
* تتباهى اللغة العربية بعلوم لغوية متطورة وناضجة ومنها النحو، وهذا الأخير الذى يدور حوله السؤال كان، كغيره من علوم اللغة، ابن زمانه. وهناك مفهوم النحو الجديد مقابل النحو التقليدى فى علم النحو فى كافة البلدان المتقدمة لأن كل نحو فى كل لغة كان ابن زمانه فكان لا بد من تطوير النحو فى كل اللغات. ولا تتعلق محاولات التطوير التى تستحق هذا الاسم بحال من الأحوال بتغيير أىّ شيء من حقائق النحو الموضوعى السليقى والإعراب الموضوعى السليقى كما يستخدمهما العرب قديما أو حديثا. بل يتعلق كل جهد حقيقى بتطوير النحو الوضعى أىْ نحو النحاة فهو فقط الذى نعتبره ابن زمانه. وبتعبير آخر يتعلق الأمر بمفاهيم علم النحو وليس بالاستعمال اللغوى النحوى والإعرابى فى الكتابة والحديث. وتمثلت أعظم محاولة لتطوير النحو العربى فى قرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة فى 1945 كمحصلة لمحاولة جادة ناضجة لجهود المجمع ووزارة المعارف المصرية بين عامى 1937 و 1945، وكانت المحصلة النهائية بعد العديد من المؤتمرات حول هذه القضية كتاب "تحرير النحو العربى" الذى كان مقررا على تلاميذ المرحلة الإعدادية فى 1956 قبل أن تتلاشى كل تلك القرارات دون تعليل، كما علَّق الدكتور شوقى ضيف فى أحد كتبه. غير أن العصف بقرارات المجمع كان نتيجة منطقية لأمرين مترابطين: محاربة الأصولية اللغوية الدينية فى مصر والعالم العربى لتلك القرارت، من جهة، ونقاط ضعف كبرى فى صميم تلك القرارت، من جهة أخرى. وليس كتابى "من أجل نحو عربى جديد"، الصادر فى 2009، عن المجلس الأعلى للثقافة، وكتاباتى الأخرى حول النحو، سوى إحياء ونقد لتلك القرارات وبناء جديد عليها. أما محتوى كلٍّ من قرارات المجمع وكتابى فلا يتسع المجال هنا حتى لإشارات واضحة إليه.
- حدثنا عن تجربة السجن فى حياتك وهل تعتقد أنها أثرت فى اختياراتك فى الحياة ومنها عزوفك عن التواجد فى الندوات الأدبية.
* لم أُسْجَن سوى عامين إلا شهرين. كان هذا نصيبى المتواضع من السجن. ولا يعجبنى أولئك الذين يُسْجَنُون أسابيع أو شهورا لا غير ويظلون يتباهون بسجنهم ويعلقون بأنفسهم أوسمة دخول السجن على صدورهم. وفيما عدا هذين "العامين إلا" اضطررتُ إلى الهرب فى عهد السادات وبداية عهد مبارك. أما اختياراتى فى الحياة فلم يؤثر فيها السجن لأننى دخلتُ السجن وأنا فى الثانية والثلاثين من عمرى وبالتالى كانت اختياراتى فى الحياة متبلورة ونهائية قبل السجن، أما العزوف عن الندوات الأدبية فهذا لأننى هجرتُ النقد الأدبى زمنا غير قصير وبالأخص لأننى أفضل العمل من غرفتى فى البيت بصورة متواصلة، وكان ما ضاع من وقتى فى المقاهى والندوات فى شبابى فادحا رغم خروجى من هذه "الصِّياعة" بصداقات ستظل الكنز الحقيقى الذى أشاركهم فى امتلاكه والكينونة بفضله.
- حصولك على جائزة رفاعة الطهطاوى مؤخرا ماذا يعنى لك؟
* كانت هذه الجائزة الرفيعة التى يمنحها المركز القومى للترجمة أول جائزة أحصل عليها فى مصر، أو بالأحرى حصل عليها كتابى المترجَم "النظام القديم والثورة الفرنسية"، هذا العام ولكنْ عن عام 2012 وأنا فى سن الثانية والسبعين. والجائزة الوحيدة الأخرى لم تكن مصرية بل كانت أورو-متوسطية فى 2007. ولم أتقدم أنا لهذه الجائزة أو تلك؛ ويعنى هذا أننى تشرفتُ بهاتين الجائزتين ولكننى لا أجرى وراء الجوائز. ومع هذا فأنا لا أخفى أن أقصى ما يمكن أن يسعدنى هو حصول كتابى "من أجل نحو عربى جديد" على جائزة مهمة فقط لينتشر هذ الكتاب أكثر لأنه فى نظرى أهم إنتاج لى طوال حياتى وهو ما سيبقى منى. ولكننى لم أحاول إلى الآن التقدم به ومستعد للتنازل عن القيمة المادية للجائزة لأننى لا أجرى وراء المال أو الجوائز أو الشهرة؛ بل أحبس نفسى فى غرفة أعمل منها فى صمت على مرّ العقود.
- وكيف ترى حركة الترجمة فى مصر، وما مشكلات تخلفنا فى الترجمة عن دولة مثل تركيا وغيرها؟
* شهدت أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحدى والعشرين ظهور وتطور المشروع القومى للترجمة الذى انتقل من المجلس الأعلى للثقافة إلى المركز القومى للترجمة بفضل جهود الدكتور جابر عصفور، فكان هذا المشروع إضافة هائلة لحركة الترجمة فى مصر، وأحدث المشروع بعد انتقاله إلى المركز قفزة كبرى فى أعداد الترجمات وفى مكافآت المترجمين الذين لم يعودوا يهربون بترجماتهم بسبب هزال العائد المالى فى السابق. ويمكن نقد المشروع فى جوانب بعينها كمستوى ترجمة غير قليل من الكتب إلى جانب ترجمات رفيعة حقا، ومحدودية أعداد النسخ مما يؤدى مع العدالة النسبية فى مكافآت المترجمين والمراجعين إلى ارتفاع سعر الغلاف بدلا من مضاعفة عدد النسخ للهبوط بسعر الغلاف بصورة كبيرة وبالتالى تنشيط التوزيع بفضل الأسعار المناسبة. وهناك ضرورة وجود مستوى أعلى من تخطيط الترجمة لكىْ لا تظل أمهات وكلاسيكيات عديدة فى الفلسفة والفكر الاقتصادى والسياسى والإبداع الكلاسيكى والحديث بلا ترجمة. وهناك بالطبع هيئات مصرية عديدة مثل هيئة الكتاب ومختلف دور النشر والمركز الثقافى الفرنسى قدمت إسهاماتها البارزة. هناك إذن خطوة إلى الأمام حتى فى ظل عهد مبارك رغم تدهوره الشامل. ومع هذا فإن المطلوب فى مجال الترجمة كبير؛ وما يزال هناك أمل فى أن ينجح المركز القومى للترجمة فى البقاء وأن يواصل تقدمه وعطاءه. أما التخلف فى الترجمة عن بلد أو آخر فهو يرجع إلى السياق العام لتخلفنا وتراجعنا فى كل المجالات، وبالتالى كون الإنتاج الترجمى لا يتم فى سياق دينامى حقا فى مجالات الاقتصاد والعلم والفكر. لسنا ولم نكن فى القرون الأخيرة من منتجى العلم وهنا تكون مجالات الاستفادة الحقيقية من الترجمة محدودة ويكون إدراك الحاجة إلى الترجمة ضعيفا. ولا شك فى أن دُور نشر الترجمة بهدف الربح لعبت وتلعب دورا هائلا فى تقدم الترجمة.
- وهل نعانى من فوضى فى الأعمال المترجمة إلى العربية؟
* أنا لا أرى فوضى فى حالة ترجمات ممتازة عديدة لأعمال ممتازة فكل الثقافات المتطورة تفعل هذا. وتتمثل الفوضى الحقيقية فى انعدام التخطيط الكافى بحيث تبقى أعمال قديمة وحديثة، فلسفية وعلمية، بالغة الأهمية دون ترجمة لأنه لا أحد من المترجمين يتقدم باقتراح ترجمتها. وأعتقد أن من الأفضل أن يكون جانب مهم من الترجمات، بالاستعانة بالمترجمين وكبار المثقفين، ضمن برنامج المركز القومى للترجمة وغيره من جهات، مع فتح مجال معقول للمقترحات التى تأتى بصورة فردية من المترجمين.
- وهل المترجم للأدب ينبغى أن يكون أديبا؟
* مترجم الأدب والفلسفة والفكر ينبغى أن يكون أديبا ليس بمعنى أن يكون شاعرا أو روائيا أو كاتبا مسرحيا أو سينمائيا بل بمعنى أن يكون صاحب أسلوب أدبى رفيع. أما الترجمات العلمية فلا تشترط أن يكون المترجم أديبا بالمعنى المذكور غير أن الأسلوب الأدبى يجب أن يكون جيدا بما يكفى للفهم الواضح دون التباسات بسبب الترجمة دون أن تكون فى الأصل. وأعتقد أن من بين الترجمات الرفيعة للغاية فى أسلوبها الأدبى ترجمات الفيلسوف المصرى داود روفائيل خشبة، لمؤلفاته التى يكتبها بالإنجليزية وينشرها فى الغرب، وهى صادرة عن المركز القومى للترجمة.