الدين: المسبب الأول للعجز الادراكي


رندا قسيس
الحوار المتمدن - العدد: 3103 - 2010 / 8 / 23 - 18:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أستهل هذا المقال بمقولة معروفة "من التعاليم الأولى للإنسان، هو أن لا يتبع الفرد أي مبدأ بشكل أعمى و قطيعي، و أن لا يدافع عن أية فكرة أو معتقد... من دون قناعة فردية واضحة"، إلا أنني سأضيف عليها، على الفرد ادراك حدود معرفته مهما زادت، و الابتعاد عن الأحكام القائمة على "الأنا" العارفة، المدركة، و التخلي عن التعنت و التشبث بأفكاره المرتكزة على تجاربه الفردية و تجارب محيطه، ليتمكن من ازدياد معرفته، فيحلق بعيداً في فضاءات واسعة من التفكير، ليستمتع بشكل واع لحرية خلاقة ليس لها حدود.

بعد كم من الرسائل التي وصلتني و التي (اتهمتني) بالفرويدية، أخصص هذا المقال لإنصاف بعض مختصي النفس، الأعصاب و الأنتربولوجيا، و التي استندت عليهم بشكل مكثف في مقالاتي.
صحيح أن كثير من الأفكار الفرويدية أصبحت أسساً لمدارس عديدة في علم النفس، مع معارضة هذه المدارس لبعض النقاط الفرويدية و التي أغرقت فرويد في متاهاتها على حد تعبيرهم، فمثلاً الليبيدو لم يعد حكراً على فرويد، بل أصبح أساساً في فرضيات و نظريات نفسية عديدة، و إذا تمعنا قليلاً في الأبحاث و التجارب العصبية الحديثة، نرى اتفاقاً في بعض النقاط الفرويدية و تعاكساً في بعضها الآخر.
سأخصص مقالاً موسعاً لنقاط الإلتقاء و التعارض بين أفكار فرويد و المدرسة العصبية الحديثة، فمساحة المقالات محدودة، لهذا لا أستطيع الخوض في نقاط كثيرة.
هدفي الرئيسي في هذا المقال هو تسليط الضوء على عملية ادراك "الأنا" الآخر من دون رفض فوري وعدم الانجرار لترجمة الأقوال المختلفة حسب المعطيات القاموسية "الأنوية".
ما أثار استهجاني لهذه الرسائل، هو الطعن المباشر لدراسات نفسية و أنتربولوجية التي أستندت عليها في مقالاتي السابقة، ليتم نفيها و الصاق طابع فرويدي مبسط عليها، مع أني حرصت على وضع أسماء المختصين في كل فكرة طرحتها، كي لا يقع بعض القراء في مطب الأحكام ، الرفض و التهجم على كتاباتي بحجة اقتباس أفكار فرويد لإحيائها من جديد.
مما أثار في نفسي تساؤلاً عن سبب عدم وصول الفكرة، لأبدأ أولاً بمحاكمة ذاتية، لكن وجود رسائل أخرى تحتوي على مستوى رفيع من الفهم و الادراك، الكاسرة للأنا الضيقة، جعلني أتخلى قليلاً عن محاكمة كتاباتي، مما فتح لي استفساراً عن موطئ الخلل (خصوصاً، أني لا أجد أية مشكلة في ايصال الأفكار و التعاطي المرن مع أفراد ينتمون إلى ثقافات مختلفة، أي غير عربية).

دعونا نركز قليلاً على آلية الادراك، المبنية على "الأنا" المستندة على أنماط صور عقلية في الدماغ، ليقوم (الدماغ) بمعالجتها من خلال الأحاسيس المتفاعلة مع المعلومات المستمدة من الخارج، أي البيئة، المحيط الجماعي و من ثم الخيال، ليشكل "الأنا" الفردية.
نعلم أن أسس القارئ العربي مرتكزة على أسس ثابتة، و يعود ذلك، إلى التعاليم الدينية المزروعة في أدمغة الفرد العربي منذ نعومة أظافره، هذه الأسس الآلية تحرم الفرد من غرائزه و من التغلغل في نفسه، لتحصره ضمن قيم زائفة منافية لتركيبته النفسية، إلا انها تشعل في نفسه رغبة التميز عن الآخر وذلك تعويضاً لما حرمته إياه، من خلال الاعتزاز بالدين، فيتم توحد الفرد مع الرمز الديني، وهذا بالطبع لا يقتصر على الأديان فقط، بل يشمل جميع الأيدلوجيات، القوميات و الأعراق...
تحد هذه الثقافة الفرد فتجعله جاهزاً لوضع لاصقات محدودة للكلمات، للتعابير و الجمل.
ينشأ عن هذا التعميم شلل جزئي في التعاطي مع تعابير و مفاهيم جديدة، ليصبح الفرد عاجزاً عن الإبحار في فكره و التغريد بعيداً عن كل القيم الثابتة المغروسة في مخيلته، لهذا نلاحظ أن نفي الفرد لكل ما لا يعرفه هو أمر ناتج عن خلو هذه الأسس من مبدأ النقد و التشكيك، مما يجعل منه فرداً متشبثاً بأرائه، رافضاً لكل جديد، خاضعاً لقوانين الجماعة و الإله.

فسر لنا مختص الأعصاب "ليونيل نكاش"، بطريقة تجريبية عصبية حالة التعرف على فرد ما، فأعتبرها عملية خالية من السهولة و البساطة، فهي ليست ناقلة للمعلومات فقط ، بل خاضعة بدورها إلى تحضير ذاتي يتم فيها استخدام الخيال و التفسير الذاتي للمتلقي، أي أن عملية التعرف على فرد آخر تخضع إلى نظام جملة من المعتقدات الذاتية و المؤسسة للأنا.
نستطيع القول أن الفرد "المبرمج"، العاجز عن إعادة تركيبة أناه، يقوم بتحديد الكلمات من خلال وضع لاصقة مستمدة من مفاهيمه، ليتم التعميم فتضيع المعاني و المحاولات الهاربة من هذه الدائرة.

لا شك فيه أن تغيير المعتقدات التي بنى الفرد عليها حياة كاملة، كما أن صعوبة نسف أناه المقتبس من نموذج الإله العارف المدرك لكل شيئ، تجعل منه فرداً رافضاً لأية فكرة جديدة لم يسبق له قراءتها، فإذا خضنا في التركيبة النفسية للأفراد، نراها خاضعة، أولاً لقاعدة بيولوجية، و من ثم لتأثير ثقافة المحيط الخارجي المتواجدة به.
يصعب علي شرح عملية الادراك بشكل مفصل، و التي استند فيها على أبحاث عصبية حديثة و فرضيات نفسية، في مقال صغير، لهذا خصصت لها قسماً مطولاً لشرحها في كتابي الذي قاربت على إنهائه.

نعود إلى عملية المعرفة و المشكلة الأساسية لدى بعض القراء باللغة العربية، المصرين على صحة و دقة معرفتهم، ليقوموا بتفسير الجمل و العبارات حسب قاموسهم الذاتي من دون أية محاولة منهم في فهم العبارات و الأفكار الغير مألوفة لديهم، و هذا بالطبع، حسب اعتقادي الشخصي الآني، القابل للتغيير، أن المشكلة الرئيسية تكمن في الأسس و التربية الأساسية لدى الأطفال، المرتكزة على أسس دينية "حقيقية" بالنسبة اليهم، خالية من إمكانيه التشكيك و النقد، لهذا أجد أن مشكلة الشعوب العربية ذات الأسس الثابتة تدفع الأفراد للتشبث بحقائقهم و معرفتهم الخاضعة بدورها إلى رقابة دينية، حكومية و من ثم فردية.
فإذا نظرنا إلى عملية الادراك أو وعي الأفكار، من وجهة نظر عصبية، نراها معتمدة على القدرة الفردية و الاستعداد الدائم في التشكيك لكل المعتقدات، الأسس و "الأنا" الفردية، انها عملية دائمة لنفي "الحقيقة"، لنكون على استعداد في تقبل "اللاحقائق" كي نستخرج منها أجزاءً واقعية.