ذروة النشوة و انسجام الذات


رندا قسيس
الحوار المتمدن - العدد: 3079 - 2010 / 7 / 30 - 12:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

تكملة للمقال السابق، و لشعوري بعدم اعطائه القدر الكافي من التوضيح، أحببت أن أبدأ هذا المقال بجملة "العراك من أجل البقاء" و التي استخدمت بطرق مختلفة لتأخذ منحى عنيفاً و لتؤجج شعور العدوانية تجاه الآخر تحت حجة الاستمرارية، و لتصبح أساساً في تعامل الجماعات و الأفراد مع الآخر. و هنا علينا التساؤل عن توافق مبدأ العراك من أجل البقاء مع مبدأ الهيمنة؟َ

لنبدأ أولاً بالنظرإلى نظامنا البيولوجي من أجل تحديد أهدافه الأساسية، سنجد ان بقاء النظام و استمراره مرتكز على تلبية حاجاته البيولوجية من طعام، شراب و جنس.
لا شك ان الأساسيات بمفهومها الأولي تُختزل في عملية اشباعها، الا انها في مرحلة لاحقة، تبدأ بعملية انتقاء أوسع لتستطيع الوصول إلى مشاعر فائقة من التلذذ، إلا ان هذه العملية تحتاج، بلا شك، إلى عملية واعية من قبل أفرادها.
لهذا يمكننا القول ان العراك من أجل البقاء هو تلبية لحاجاتنا الأساسية للوصول إلى أكبر درجات اللذة و المتعة، إلا ان مبدأ الهيمنة استطاع أن يحول اللذة إلى معركة مستمرة ما بين الجماعات و الأفراد، بل أكثر من ذلك، استطاع أن يؤجج صراعاً داخلياً ما بين ذات الفرد و بين القيم المتداولة الخارجية، ليضيع الفرد في متاهات الأخلاق و الديانات، فيمارس أبشع التعذيب في حق غرائزه أولاً، و من ثم، في حق الآخرين، و مع عملية القمع الممارسة تجاه الدوافع الجنسية، يقوم بقمع اللذة نفسها، فكما يقول فيلهلم ريتش "الدافع الجنسي ليس شيئاً يبحث عن اللذة، بل هو محرك اللذة نفسها".

وجد "فيرينكزي" ان تراجع اكتفاء بعض الرغبات الجنسية يتم تحت كم من الضغوطات الممارسة على الأفراد من قبل ثقافة المحيط لتدفعهم إلى نبذ اللذة و لتصب في مفهوم الاستبقاء (أي الحفاظ على الطاقة الجنسية) مما ينعكس و بشكل مباشر على السيلان، و علينا أن لا ننسى و على حد تعبير "فيلهلم ريتش" ان قمة النشوة تتلخص في القدرة على تدفق الطاقة البيولوجية المختزنة من دون أي رادع أو مانع أخلاقي، فذروة النشوة تكمن في تفريغ جميع المحتويات بشكل كامل، و المتواجدة في التهيجات الجنسية، و لهذا يرى "ريتش" ان الانسجام المتبادل مع الشريك يساعد الاثنين في الحصول على النشوة المبتغاة من كليهما، شرط توافق "الأنا" غير المتصارعة و غير الساعية إلى اكتفاء واقعها مع الدوافع نفسها، فعملية القذف عند الرجل أو الحصول على نشوة جزئية عند المرأة غير المنسجمين مع الدوافع و النشاط العضوي الجنسي، و ذلك لقيامهم بعملية تصعيد مستمرة، لا تعني أبداً تفريغ الكمية المتواجدة بشكل كامل، أي عدم الحصول على النشوة الكاملة التي تساهم في سلامة نفسية و فيزيولوجية أيضاً.

دعونا نعود إلى تأثير الأديان على الطاقة الجنسية من خلال تنطيم هذه الطاقة بشكل جماعي لاواعي عند أفردها، حيث تمنع الأفراد من النضج النفسي، و من اكتساب الخبرات بشكل واع لتمكينهم في الحصول على النشوة كاملة، لقيامهم لاحقاً بتنطيمها بشكل فردي واع.
هذه الثقافات المبنية على نموذج الإله المتحكم بعبيده، لا يمكنها إلا أن ترتدي نفس رداء إلهها، لتعكس إلهاً فاقداً للنشوة و اللذة.
أعود إلى نتائج هذا القمع على الأفراد، فهو يعيدهم إلى الخيالات و الفانتازية الهاربة من لذاتها، فعلى حسب بعض مدارس علم النفس، تؤثر عملية القمع في انتكاس الأفراد إلى المرحلة الطفولية، و مع هذا الانتكاس، يعيش الفرد جميع حالات الطفولة بما فيها من خيالات، أوهام و عقد.
و هنا نستطيع تفسير حالة مفهوم الجنس عند الرجال ذوي الثقافة الذكورية، حيث نراه على وجه الخصوص في ثقافة جميع المجتمعات القائمة في قوانينها و اسسها على الدين، و بالتحديد، نجد ان الجنس لدى معظمهم لا يعني إلا عملية غزو أو تغلغل في الأنثى، أي أن هذا المفهوم في حد ذاته مرتكز و بشكل أساسي، على مفهوم الاغتصاب اللاواعي، و هذا بالطبع يفسر، حسب تحليل علم النفس، بالحاجة إلى اثبات ذكورية ناقصة عند هؤلاء، و ذلك بسبب تراجع الحالة النفسية لديهم إلى المرحلة الطفولية، ليتم انعاش عقدة فقدان العضو و الاحساس القديم بذكورية ناقصة أمام الأب.
هذه الحالات القامعة لرغبات الطاقة الجنسية تسلك ممراً خاطئاً للتفريغ، و ذلك بسبب القمع الممارس عليها، ما يؤدي إلى تراجع الفرد إلى المراحل السابقة ليتبنى أفكاره الطفولية كأفكار أساسية، و ليغرق في خيالات واسعة.

نعود إلى مبدأ الهيمنة و الذي لا يتناسب، حسب ما رأينا، مع العراك من أجل البقاء، لأن بقاء النظام البيولوجي يكمن في تلبية حاجياته، إلا أن الهيمنة وجدت لاستبدال اللذة الفردية و تحويلها إلى طاقة نافعة للجماعة على حساب الفرد.

وضح "ديلجادو" ارتباط العنف مع حالة الألم الممارسة بالتحديد على الفرد المستعبد من خلال آلية المكافأة و الترفيع في المناصب، و هنا نجد ان الأديان ترتكز على نفس المبدأ من خلال اعطاء جنة تداعب خيالات الأفراد لتهبهم ما حرمتهم اياه على الأرض، هذه اللذة غير الملموسة و الواهية، تقوم بتحويل اللذة عن عبور طريقها السليم و المتناسب مع عملية التفريغ للوصول إلى النشوة، لتقوم باستبدالها بلذة غير ملموسة، مما يسبب اضطرابات بيولوجية للنظام العضوي.

أخيراً، لا أستطيع إلا القول أن "مبدأ الإله" المتحكم بالغرائز لا يتناسب مع سعينا للحصول على وعي أكبر نستطيع من خلاله ممارسة الجنس بقدر كاف من خلال رغبة متبادلة للوصول إلى نشوة مكثفة تصب في سلامة نظامنا البيولوجي، و ذلك لا يتم إلا من خلال تطابق قناعاتنا مع دوافعنا، فالمتدين المرتكز على اسس القمع، لا يستطيع الوصول إلى النشوة، و ذلك لشعوره الدائم و اللاواعي بارتكاب الإثم الأعظم المحرم من إلهه.
ليس الهدف هو ممارسة الجنس، بل الهدف هو تطابق أفكارنا مع غرائزنا، لنستطيع دفع عملية التفكير و الخروج من متاهات التصعيد، ربما نستطيع يوماً ما، الوصول إلى أعمق درجات الانسجام مع الطبيعة، لنتمكن من لمس كل ما يحيط بنا فنبحر مع موجاته، و لننتصر، يوماً ما، على كل مخاوفنا المترسبة لنرحل بعدها إلى اللامكان و اللازمان، إلى اللاشيئ، حيث الحرية الكاملة لجزيئاتنا.