محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1939 - 2007 / 6 / 7 - 11:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تدرك الولايات المتحدة الاميريكية تمام الإدراك جل ما يحدث على الساحة الدولية من متغيرات على الصعيدين الجيواستراتيجي والجيوبوليتيكي , وخصوصا تلك التي قد تؤثر في مساعيها الراهنة لترسيخ هيمنتها على العالم , والمستقبلية الهادفة للبقاء على قمة الهرم القيادي خلال السنوات المقبلة , وبالطبع فان تلك الرؤية المستقبلية لما قد يترتب على تلك المتغيرات من تحولات في بناء ميزان القوى , والتوازن الاستراتيجي العالمي , وخصوصا في ظل تسارع الأحداث الدولية , والتحولات الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكيه على الخارطة العالمية , كانتشار الفوضى والإرهاب , وسعي بعض الدول الى امتلاك الأسلحة النووية , وزيادة العنف , وتوسع طرق الرد والرد المضاد للدول والجماعات والأفراد , وصعوبة استنفار رد منسق على أي عدوان محتمل موجه الى الولايات المتحدة الاميريكة او أي من حلفائها , وما ترتب على ذلك من تضخم بيئة الفلتان الأمني والعسكري والسياسي , والذي أدى بدوره الى الحد من اتساع الفلك الاميريكي خلال السنوات الأخيرة , دفع هذه الإمبراطورية الى البحث عن خيارات جديدة ومناسبة لاحتواء تلك البيئة الشرسة والمارقة من وجهة نظرها 0
هذا من جهة , أما من جهة أخرى فتعلم الولايات المتحدة الاميريكة بان هناك العديد من الحلفاء " الأصدقاء الأعداء " , الذين ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض عليها , وذلك بهدف الحد من هيمنتها وتوسعها الامبريالي في العالم , والذي اثر كثيرا بأهدافهم وطموحاتهم التي لا تختلف كثيرا عن أهدافها , من حيث الرغبة في التوسع ونيل النصيب الأكبر من ثروات العالم , وخصوصا في ظل سرعة تقلب الصداقات والعداوات الدولية في عالم السياسة , وعليه فانه بات من الضروري اتخاذ الاحتياطات اللازمة للتصدي لأي خروج عن ذلك الفلك الاميريكي , الذي قد يؤثر كثيرا في برامجها المعلنة والسرية لتغيير الخارطة الدولية , او التعدي على مناطق نفوذها المنتشرة في كل أنحاء الأرض , وعلى وجه التحديد في المناطق ذات الحساسية الجيواستراتيجية او الجيوبوليتيكة , كونها ذات قابلية لقلب موازين القوة في أي لحظة 0
وبالطبع فان دروس الماضي , وما يحدث في الوقت الراهن , ومخاوف تغير المكانة المستقبلية للإمبراطورية الاميريكة , كانت دائما حاضرة في كل وقت وحين في أذهان القيادات الاميريكة المتوالية , والتي لم تخفي قلقها وتخوفها مما قد ينشا من تحديات ومتغيرات وتحولات عالمية لابد من تداركها , وبأسرع وقت ممكن , ومن ابرز المخاوف الاميريكة الحاضرة دائما , حدوث ما سنطلق عليه بــ الانقلاب العالمي في موازين القوة العسكرية خلال القرن الحادي والعشرون , ولا نقصد هنا أن يحدث ذلك التغير على مستوى الدول الكبرى فقط , بل من خلال بروز تلك التهديدات من قبل بعض الدول او الأفراد او المنظمات الإرهابية , او الجماعات الحانقة على السياسات الاميريكة , وتأكيد لهذه المخاوف فقد تحدث الرئيس الاميريكي جورج بوش في يونيو من العام 2002 م , أمام خريجي الأكاديمية العسكرية الاميريكة قائلا :- على امتداد جزء كبير من القرن الماضي - أي - القرن العشرون , ظل دفاع أمريكا معتمدا على عقيدتي الحرب الباردة المتمثلتين بالردع والاحتواء , وهاتين الإستراتيجيتين ما زالتا مطبقتين في بعض الحالات , غير أن هناك تهديدات جديدة تتطلب تفكيرا جديدا , إن الردع - الوعد بفرض عقاب انتقامي كبير على دول معينة - لا يعني شيئا ضد الشبكات الإرهابية الهلامية , التي لا تملك دول تدافع عنها او مواطنين تدافع عنهم , أما الاحتواء فليس ممكنا حين يكون حكام مستبدين معتوهين يملكون أسلحة تدمير شامل قادرين على إيصال تلك الأسلحة بالصواريخ او تزويد حلفائهم الإرهابيين بها سر 0
مما دفعها لتبني عدد من الخيارات العسكرية التكتيكية والإستراتيجية على وجه الخصوص , وذلك من خلال استغلال الثورة في الشؤون العسكرية التي من شانها تعزيز تلك المكانة في العالم - من وجهة نظرها , وتثبيت جذور هيمنتها الموغلة في الأعماق البعيدة , ومن أهم تلك الخيارات التي وجدت فيها الولايات المتحدة الاميريكة وسيلة مناسبة لحفظ مكانتها تلك , هو التغيير العسكري الجذري الاستراتيجي في قدراتها العسكرية , وذلك بتطوير أسلحتها التقليدية وغير التقليدية , وبناء عدد من المنظومات الدفاعية والهجومية ونشرها في مختلف أنحاء العالم , وإعداد قوات مسلحة اميريكية مجهزة بأجهزة عالية الدقة والتطور, ومدعومة بكل ما من شانه إدخال العالم الى شبكتها الاستخباراتية , المكونة من عشرات الأقمار الصناعية وأجهزة الحواسيب العملاقة , وملايين الأجهزة المعلوماتية الدقيقة , وغيرها من الآلات التي باتت قادرة على حساب أدق التفاصيل في حركة الإنسان وحياته الشخصية , كما أشار الى ذلك الرئيس الاميريكي جورج بوش في قوله :- ( يبقى الدفاع عن الوطن والدفاع الصاروخي جزء من امن أقوى , وهما من الأولويات الأساسية عند أميريكا , 000 سيتطلب أمننا تغيير الجيش الذي ستتولون قيادته , وهو جيش يجب أن يكون مستعدا للضرب بعد لحظة من تلقى الأمر في أي زاوية مظلمة من العالم ) - راجع وثيقة الإدارة الاميريكة الخاصة بإستراتجية الأمن القومي للولايات المتحدة , البيت الأبيض للعام 2002 0
حيث أدت ( القدرات الجديدة بالفعل الى السماح- بتوجيه - العمل العسكري بدقة لخدمة الأغراض السياسية , وإذا صارت الأسلحة العسكرية الاميريكة قابلة للإطلاق من منصات او قواعد بعيدة وللتوجيه الدقيق الى أهدافها , وصار الاعتماد على الحلفاء اقل قي مجال إدارة العمليات العسكرية الاميريكة ,000 وإذا أصبح كبار قادة الحكم مقتنعين بان ثورة في الشؤون العسكرية قد حدثت , فان ذلك سيزيد من نزوعهم الى التهديد باستخدام القوة كأداة للدبلوماسية - كما يحدث هذه الأيام مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية - وإذا لم ينجح التهديد نفسه وأصبح التنفيذ واجبا , فمن المحتمل لمدى الاشتباك العسكري اللاحق أن يبدو قابلا تماما للتحكم بنظر القائد الأعلى ومستشاريه , وبهذه الطريقة , نرى أن انتشار تحديات نظام حكم الكثرة الى الحشد الموسع من المصالح الأمنية للولايات المتحدة الاميريكة , يتقاطع مع الابتكارات في التكنولوجيا العسكرية , وصولا الى نشوء قدر اكبر من القبول في الأواسط السياسية الاميريكة لفكرة استخدام القوة كأداة من أدوات السياسة الخارجية الاميريكة ) 0
ومن هذا المنطلق على وجه التحديد , - أي - منطلق السيطرة المبكرة على أي خطر محتمل , وموجه الى المصالح القومية والإستراتيجية الاميريكية المنتشرة في كل أنحاء العالم , هذا بالإضافة الى ابرز أهدافها الواضحة وشبه المعلنة ومنذ فترة زمنية طويلة , وهي احتواء القوى الكبرى او المؤهلة لمنافستها على مكانتها الدولية خلال السنوات القادمة من القرن الحادي والعشرون , وخصوصا في الجانب العسكري , والذي اشرنا إليه بأنه سيكون قرن متعدد الأقطاب , في ظل إحساسها بالتراجع الجيوبوليتيكي على وجه الخصوص , وزيادة كراهيتها من قبل شعوب الأرض , وعلمها بإمكانية خروج لاعبين أقوياء خلال السنوات القادمة , كالصين وروسيا , اللتين أصبحتا بمثابة الأرق الذي بات يقلق كبار القادة الاميريكين السياسيين والعسكريين , وان صرحوا بخلاف ذلك , وبالطبع فان هذه المخاوف ليست بجديدة , فالصين على سبيل المثال ليست بحاجة الى تعريف بجبروتها الاقتصادي وان كانت في طور إعادة بناء وتسريع هيكلها العسكري , الشاسع الفرق بينها وبين الإمبراطورية الاميريكة الى الآن , وروسيا القادمة بقوة في ظل ارتفاع أسعار النفط , حيث أننا نستطيع أن نشبه هذه القوة بالطائر الكاسر الذي باتت الظروف العالمية أكثر ملائمة لإعادة الريش الى جناحية الضعيفين 0
وهو ما نتصور أن الولايات المتحدة الاميريكة تسعى لتحقيقه من وراء نشرها لدرعها الصاروخي في أوربا , ويقصد بهذه المنظومة تكوين مظلة دفاع من الصواريخ البالستية لأمريكا وحلفائها يستهدف من وراءها رصد وتدمير الصواريخ المعادية , والقادمة من أي مكان من العالم , فالعنصر الأرضي من هذه المنظومة يستهدف الصواريخ الطويلة المدى في منتصف رحلتها , والجزء البحري وغيره يستهدف الأقصر مدى أثناء صعودها او هبوطها , كما تشمل هذه المنظومة عناصر رصد بالأشعة تحت الحمراء , وتعقب برادارات خاصة وحساسة جدا , ومركز إدارة وتحكم بمثابة عقل المنظومة بأكملها , فضلا عن صواريخ اعتراضية كما هو الحال في بولندا على سبيل المثال 0
وقد اثرهذا التغيير في استراتيجيات الرد والرد المضاد للولايات المتحدة الاميريكة على علاقاتها مع بعض حلفائها , كروسيا التي ترى في هذه المنظومة تهديد مباشر لأمنها القومي وسيادتها الإقليمية , ومصالحها الإستراتيجية , حيث اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقفا صلبا ضد الخطط الأمريكية لنشر الدرع الصاروخي في القارة الأوروبية , وحذر الولايات المتحدة الاميريكة من مغبة السير قدما في خططتها لإقامة هذا المشروع قائلا :- أن هذا المشروع يمكن أن يؤدي الى "التدمير المتبادل" , وجاء حديث الرئيس بوتين بعد يوم من تهديده بالانسحاب من معاهدة حظر سباق التسلح التقليدي في أوروبا , ويذكر أن اتفاقية الحد من الأسلحة التقليدية قد تم تبنيها عام 1999 في أعقاب انهيار حلف وارسو ولكن دول حلف شمال الأطلسي الناتو لم تصدق عليها بعد , وربطت هذه الخطوة بانسحاب القوات الروسية من مولدوفا وجورجيا , وصرح بوتين بان "هذا المشروع ليس درعا صاروخيا فقط , بل هو جزء من التسلح النووي الأمريكي , ويرجع أحد أسباب هذا الرفض إلى أن الخطة الأمريكية أثارت حفيظة روسيا التي تعتقد أن مشروع المظلة الدفاعية الصاروخية سوف يخل بتوازن القوة إقليميا , وهو ما أشار إليه كذلك وزير الخارجة الروسي سيرغي لافروف خلال اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة الثماني في بوتسدام في ألمانيا بتاريخ 30 / 5 / 2007 م , من خلال قوله أن أميريكا بنشرها لهذا الدرع الصاروخي ستعيد إطلاق سباق تسلح النووي جديد في العالم 0
وبالفعل فقد أدى هذا التوجه الاستراتيجي الاميريكي الى ما يشبه سباق تسلح عالمي , وحرب باردة تشتعل تحت الكواليس , وان لم تعلن رسميا , بل وأشعلت أميريكا من خلال هذا التوجه الجديد في سياسات الردع والاحتواء , نيران الفوضى العسكرية المشتعلة أصلا في كل أنحاء العالم , فواحدة من ردود الأفعال على نشر هذه المنظومة الدفاعية في أوربا , كان الرد الروسي السريع بإطلاق صاروخ بالستي قادر على حمل عدة رؤوس نووية , والذي برره الرئيس الروسي بكون هذه التجربة النموذجية ردة فعل على الأعمال "الأحادية الجانب" لبعض الدول مضيفاً أنه "لا ينبغي الخوف من تحركات روسيا هذه , فهي ليست تحركات عدوانية , إنها فقط رد على الأعمال الأحادية الجانب التي لا أساس لها , والتي يقوم بها شركاؤنا" , كما انه بات من المؤكد بان المستقبل سيحمل معه عدد من الدلائل والمؤشرات على حتمية عودة الحرب الباردة بشكل معلن , وخصوصا في حال استمرت الولايات المتحدة الاميريكة في السير على نهجها العسكري الأحادي السابق , كما يمكن أن يدخل في ذلك السباق عدد آخر من المتنافسين كبريطانيا وفرنسا , والصين التي استطاعت في الآونة الأخيرة أن تبرز كمؤهل عسكري حقيقي قادم لمنافسة القوى العسكرية الأخرى من خلال إطلاقها لصاروخ مضاد للأقمار الصناعية , او تطويرها لأول مقاتلة صينية الصنع من الجيل الثالث على سبيل المثال , وهكذا سيتحول العالم الى برميل أسلحة مضغوط يتوقع له الانفجار في أي لحظة 0
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟