"بطل الحرب والسلام"
أحيانا تكفي عبارة واحدة للكشف عن رأي قائلها وضحالة تفكيره. وقد تفوه وزير الدفاع شاؤول موفاز بمثل هذه العبارة، قبل عدة أيام أثناء زيارته لوحدة من وحدات الجيش في قطاع غزة.
"يبدو أنه من غير الممكن التعامل بالطرق المختصرة مع أعدائنا. فقد توجهت مصر إلى السلام مع إسرائيل، فقط بعد سحقها في حرب أكتوبر. هذا ما يحدث أيضا مع الفلسطينيين".
أي ما من حل سياسي. هناك الحرب فقط، وفي هذه الحرب يجب "سحق" الفلسطينيين. هذا اعتقاد بسيط مجرد، أو بالأحرى رجعي.
أما العبارة الحاسمة فهي: "توجهت مصر إلى السلام مع إسرائيل، فقط بعد سحقها في حرب أكتوبر ."
عبارة توقع في الفخ، لأنها تتعارض ورأي أغلبية الخبراء تقريبا في إسرائيل والعالم - مؤرخين، مستشرقين ومحللين عسكريين. فهؤلاء يؤمنون بالعكس تماما: كان يمكن لأنور السادات أن يدفع مصر نحو السلام مع إسرائيل، لأن النظرة إليه كانت بأنه القائد الذي دحر إسرائيل في حرب أكتوبر. بعد أن أعاد الشعب المصري لنفسه كرامته الوطنية، كان باستطاعته التفكير في السلام مع العدو (نحن).
مع اندلاع الحرب قام المصريون بعمل، أثار إعجاب العالم وزعزع إسرائيل: لقد عبروا القنال واحتلوا "خط بار ليف" المُهلل. كان ذلك، حسب كل الآراء، حملة عسكرية لامعة. فإن طيش شعبة المخابرات الإسرائيلية وغطرسة غولدا مئير مكنا المصريين من إحداث مفاجئة لم تخطر على بال، بتدمير عدد كبير من الدبابات وإسكات سلاح الجو الإسرائيلي. وزير الدفاع، موشيه ديان، كان يمشي آنذاك على غير هدى، ينتابه الهلع، وقد تحدث عن "خراب الهيكل الثالث".
خلال الحرب، تبدلت الأمور، واستطاع الجيش الإسرائيلي أخيرا عبور القناة بالاتجاه المعاكس، إلى الغرب. بعد انتهاء الحرب كانت للجيش الإسرائيلي قوات كبيرة غربي القناة، ولكن قوات مصرية كبيرة بقيت في الجهة الشرقية منها. هذا الأسبوع تم تسريب التقييم الإجمالي من قبل الجيش الإسرائيلي، الذي جزم بشكل قاطع بأن إسرائيل"لم تنتصر في الحرب" .
ولكن التحليل العسكري المهني غير مهم في هذا السياق. الأهم من ذلك هو ما بقي في أذهان المصريين، وكيف أثر ذلك على أعمالهم فيما بعد.
لقد نجحت في الوصول إلى القاهرة، غداة زيارة أنور السادات إلى القدس. وجدت نفسي في مدينة مليئة بالفرح، تغوص في مهرجان شعبي ثائر. وكانت ترفرف فوق الشوارع الرئيسية مئات اللافتات التي تشيد فما فعله الرئيس. وكل شركة تجارية معروفة، كانت تجد لزاما عليها أن تعلق لافتة قماش كبيرة وعليها شعارات السلام.
أما الشعار الذي تصدّر كل الشعارات الأخرى، والذي ظهر على مئات اللافتات فقد كان: "أنور السادات: بطل الحرب والسلام " .
لم تكن الجماهير المصرية لتؤيد السلام، لو كان يبدو لها كخنوع لما يمليه العدو المتغطرس. عبور القناة فقط، الذي كان يبدو للمصريين أحد أكبر الانتصارات في تاريخهم الطويل الممتد منذ أكثر من 8000 سنة، وحده اتاح لهم إمكانية قبول الاتفاقيات كحل بين متساويين، لا ينطوي على التقليل من احترامهم. وكما هو الحال لدى العديد من الشعوب، فإن الكرامة الوطنية مهمة للمصريين - وللعرب عامة- بصفتها الدخر السامي .
ربما كان من المجدي لموفاز، أن يزور القاهرة وأن يتوجه إلى مبنى دائري في شمال المدينة، وهو متحف حرب رمضان (الاسم العربي لحرب أكتوبر). كان سيرى هناك شهادة مؤثرة بالصوت والصورة عن عبور القنال. يعج المكان كل يوم, وخاصة بطلاب المدارس .
أما كما يفعل موفاز محاولا تطبيق التجربة مع المصريين على للفلسطينيين، فالاستنتاج هو: بعد أن يحرز الفلسطينيون نصرا باهرا يرجع لهم كرامتهم الوطنية، يمكنه آنذاك فقط أن يتوجهوا إلى السلام مع إسرائيل. الانتفاضة الأولى، التي بدت للفلسطينيين نصرا ساحقا على قوة الجيش الإسرائيلي الهائلة، مكنتهم من التوقيع على معاهدة أوسلو. ولانتفاضة الثانية فقط، التي برهن الجيش الإسرائيلي فيها عن عدم قدرته على قمع الانتفاضة الفلسطينية الشعبية، هي التي أتاحت إمكانية قبول خارطة الطريق، التي كان من شأنها إحلال السلام بين الدولتين، : إسرائيل وفلسطين .
بالمناسبة، يتم الآن، مع حلول الذكرى الثلاثين لحرب أكتوبر، إغراق الدولة بأنباء كثيرة تكشف عما حدث في هذه الحرب. ومن بين ما تم نشره، هو أنني قد أنقذت حياة موشيه ديان. لقد فاجئني هذا الخبر، وكان سيفاجئ ديان أيضا لو كان على قيد الحياة. ولكن هذا صحيح .
وقد كشف النقاب عن هذه القصة عمير بورات، ضابط الاتصال الشخصي وأمين سر شموئيل غونن("غوروديش" كما يسميه الجميع)الذي كان جنرالا في حرب أكتوبر وقائد اللواء الجنوبي. غداة الحرب، عندما حاول الجمهور العثور على كبش الفداء لهذا الفشل الذريع، في بداية الحرب،وقد لحق الاتهام الأول بغورديش. فتمت تنحيته من منصبه، ولم يأبه أحد ما إلى ادعاءاته. وقد قاطعته وسائل الإعلام كلها.
هذا الرجل الذي سقط بين ليلة وضحاها من أعلى القمم إلى هاوية عميقة، انتابه اليأس. وقد اتهم ديان بالتسبب بالفشل. في النهاية، نجح في تحديد موعد معه، وكان ينوي إطلاق النار عليه، ومن ثم الانتحار .
في اللحظة الأخيرة فقط، قبل يوم من احتماعهما المصيري، عقد مراسل "هعولام هزيه" رينو تسرور لقاء بين وبين غورديش. كنت في ذلك الحين، محرر الأسبوعية الوحيدة في البلاد التي لم تكن تابعة للجوقة المؤسساتية. وقد اعتدنا مساندة الضعفاء الذين أجحف بحقهم، قسوة الأقوياء
تحدثت مع غورديش بإسهاب. وقد كان يلاعب مسدسه طوال المقابلة. لقد كان غورديش بعيد عن آرائي، فهو يميني- عسكري حقيقي. ولكني اقتنعت بأنه قد أجحف بحقه أثناء تقصي حقائق الحرب. أكدت له بأني سأحاول مساعدته وإسماع رأيه بهذا الشأن. سماع وجهة نظره، ووعدي له بنشرها بتوسع في الصحيفة- هدأ من روعه بعض الشيء ومن الضغوطات التي انتابته. وقد أدرك بأن ليست كل أبواب العالم موصودة أمامه، ولذلك تخلى عن فكرة قتل ديان والانتحار. نشرت مقالا مطولا عن "درايفوس الإسرائيلي ".
هناك وجه ساخر لهذه القضية لأنه لم يكن لديان في دولة إسرائيل قاطبة معارض أكثر مني. ديان، أكثر من أي شخص آخر، (فيما عدا دافيد بن غوريون ومساعده شمعون بيرس) هو الذي وجه دولت إسرائيل في الخمسينيات إلى النهج المعارض للعرب, الذي تنتهجه الدولة حتى اليوم. كنت أحاربه من على صفحات "هعولام هزيه" كل أسبوع، كتبت مئات المقالات ضده، كشفت عن تعامله مع الأثريات المسروقة، ومغامراته العاطفية التي كانت تهدد أمن الدولة. ولكن في النهاية يتّضح أني قد أنقذت حياته .
لنعد إلى موضوعنا: لم تؤدي حرب أكتوبر إلى "خراب الهيكل الثالث"، حسب نبوءة ديان، بل إلى السلام مع مصر، بعد إنعاش كرامتها الوطنية. إذا نجح شارون وقيادة الجيش في كسر الهدنة، وتجديد الانتفاضة، فهذا لن يؤدي إلى كسر شوكة الشعب الفلسطيني. فهذا الشعب سيصمد، كما يبدو، وبعد الكثير من سفك الدماء، سيلقي ياسر عرفات خطابا في الكنيست، كما فعل أنور السادات, "بطل الحرب والسلام ".