أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميلود بنباقي - قصة قصيرة














المزيد.....

قصة قصيرة


ميلود بنباقي

الحوار المتمدن-العدد: 1905 - 2007 / 5 / 4 - 11:42
المحور: الادب والفن
    



شـــــــــــــــــــيء.

ماتت الجدات في يوم واحد, كل الجدات. يا للخسارة! انتهت الحكايات و انتهى وقت السمر. انتهى دفء الكانون في ليالي الشتاء الباردة الطويلة. حتى لون الغروب تبدل, حتى طعم النوم تبدل. نفد الحجر و لم ينفد هذا الصهيل في أذنيه, يصمه و يصيبه بالجنون و الدوخة و الغثيان و يعمي بصره. المنزل يصهل و الشارع يصهل و جاره يصهل و بطنه تصهل و الأولاد يصهلون و نشرات الأخبار تصهل... العالم كله يصهل. العالم يكبر, يكبر و يضيق. يتمدد و يضيق. الضيقة تجثم على صدره اللاهث, تخنق أنفاسه فيلهث و يسعل كالمسلول. الضيقة و الصهيل و ليالي الشتاء الباردة و لون الغروب المتبدل. الدوخة و الجنون و الغثيان و العالم حوله يضيق, يكبر و يضيق...و طعم الحياة باهت, مر.
يخلع نعله و يتمدد على السرير فتعلق عيناه بسقف غرفة صغيرة معتمة. حاصرته خرائط بؤس قديمة يعرف تفاصيلها و تضاريسها. شقوق و تصدعات و أشكال غريبة, متاهات سوداء موحشة لا بداية لها ولا نهاية. منعرجات و دروب وسخة كأنها دروب الحارة الضيقة التي يحتلها المعتوهون والمتحرشون و المخمورون و تجار المخدرات و اللصوص المبتدئون. شقوق على السقف و الجدران, شقوق على قدميه المتعبتين و يديه الغليظتين, شقوق في القلب و الذاكرة, ذاكرته و ذاكرة الأيام المتشابهة.
سقف بليد متداع يحجب عنه صفحة السماء البعيدة الزرقاء الفسيحة, يحجب ضوء الشمس
و الهواء. يحجب رحمة الله الواسعة. رحمة الله عليك يا منصور يا جدي, يا ابن عمران بن الحاج الواحدي, عشت طول عمرك في خيمة و مت في خيمة و لم تفرط في حقك و نصيبك من الهواء و الشمس و الاتساع. الاتساع ربيع كنت تقول دائما, و نحن عندما ضاق بنا الحال و ضاقت بنا الجدران و المسافات صرنا نقول: الاتساع في الخاطر و القلب. و الحق أن الخاطر و القلب أضيق من هذا المكان.
ماتت الجدات, كل الجدات. يا للخسارة! في لحظة كالصبح تذكر ظله. كان له ظل و شارب ككل الرجال المزهوين بخلقتهم و خشونتهم. كان له ظهر معقوف كالمنجل و حفنة أحلام. الآن لم يعد له سوى الظهر المعقوف. اختفى ظله لأنه صار يزحف على الأرض كالحشرات الوضيعة و ما عاد قادرا على الوقوف منتصبا دون انحناء. تهاوت شعيرات شاربه و خط الشيب حاجبيه و صار جسمه رخوا. تبددت الأحلام التي ملأت قلبه في غفلة من الزمن الغدار. تنهد و أطفأ المصباح فتاه في ظلام حالك. ظلام أمامه و ظلام خلفه و جنبه, و لا شيء فوقه. السماء نفسها لم تعد فوقه, السطح المتشقق نفسه لم يعد فوقه, و لا صارت الأرض تحته. أصبح ذرة غبار صغيرة في فضاء لا نهاية له, يسبح و عندما يتعب يستسلم لتيارات الهواء العنيفة. يسبح من جديد فيتعب من جديد و يسلم للريح قدره و أنفاسه.
أرخى جفونه و حاول أن ينام. و نام فعلا. رأى شيئا أو كالشيء يدنو منه, يستل يديه الطويلتين من جيبي معطف أسود و يضغط بهما على رقبته الضامرة. اعترف, يقول له. ماذا تخبئ في هذه الغرفة السرية التي لا يصلها ضوء و لا هواء و لا ساعي البريد و لا سيارة الإسعاف و لا عمال النظافة و لا المشرفون على الإحصاء العام للسكان و السكنى و لا رحمة الله...؟ لا أخفي شيئا سوى جسدي المنهك, يرد متلعثما. و ماذا تخفي في جسدك المنهك؟ لا شيء سوى أمعائي. و ماذا تخفي في أمعائك ؟ لا شيء سوى أمعائي. يضغط على رقبته الضامرة و يصيح بجنون: لا بد أنك تخفي شيئا اعترف. سأعترف قال له...
أزاحت الغطاء عن وجهه الشاحب و أيقظته. اتفل على صدرك و سم الله. جثا على ركبتيه و تفل على صدره حتى جف ريقه و يبس حلقه و سمى الله. بسم الله الرحمان الرحيم , بسم الله الرحمان الرحيم. نظر إليها بارتياب و قال: هل تخفي شيئا في هذه الغرفة يا امرأة؟ اعترفي. سم الله و نم قالت له.
جلبة و ضوضاء على قارعة السرير. سليمان النجار يرغي كالبعير المعتوه و يضرب كفا بكف. شركة الماء و الكهرباء تبحث عنه, شركة الاتصالات تبحث عنه. البقال يقتسم معه سرير النوم, الصبية في الدرب يقذفون الكرة في اتجاهه فترتطم تارة بوجهه و تارة بظهره. روائح التبغ الرديء تزكم أنفه, روائح السمك المقلي و الذرة, رائحة الرطوبة, رائحة البول و الشقوق في السطح ترسم أشياء غريبة
و مخيفة, و هو خائف, بل يرتجف من الخوف فتصطك أسنانه و يغمر العرق البارد وجهه الممتقع...
و ذلك الشيء يدنو منه, يضغط على رقبته الضامرة و يصيح بجنون: اعترف, ماذا تقرأ في هذه الغرفة المعتمة؟ يرد: لا شيء. يضغط أكثر و يغضب أكثر.
مسحت العرق عن جبينه و أزاحت عنه الغطاء و أيقظته. جثا على ركبتيه, سمى الله و تفل على صدره. نظر إليها بارتياب و قال: هل تقرئين شيئا يا امرأة؟ تنهدت و لم ترد. لعن الشيطان و حاول أن ينام.
تاه في الظلام, ظلام أمامه و ظلام خلفه و جنبه, و لا شيء فوقه, حتى الشقوق على السقف لم تعد فوقه. حتى السماء الزرقاء البعيدة لم تعد فوقه, و لا صار السرير القديم تحته. الضيقة في صدره
و الصهيل في أذنيه و الدوخة في رأسه و العالم حوله يضيق. يكبر و يضيق, يتمدد و يضيق و الشيء يدنو من جديد. يضغط على رقبته الضامرة من جديد و يقول له اعترف, و هو لا يدري بأي شيء يعترف.
يستيقظ من تلقاء نفسه هذه المرة, يجثو على ركبتيه و يسمي الله و يمسح العرق عن جبينه. ينظر إليها بارتياب فيراها ترتعد على السرير, يوقظها . اتفلي على صدرك و سمي الله يقول لها, فتجثو على ركبتيها. تسترجع أنفاسها و تقول له: هل تقرأ شيئا في هذه الغرفة المعتمة؟ هل تخفي شيئا؟ يضحك
و يقول لها: العني الشيطان يا امرأة. تدنو منه و تضغط على رقبته و تصيح بجنون: اعترف.
شيء, أو كالشيء, يدنو منه. يستل يديه الطويلتين من جيبي معطف أسود و يضغط على رقبته بدوره. زوجته تضغط و الشيء يضغط و هو يحاول أن يجثو على ركبتيه ليتفل على صدره و يسمي الله, فلا يستطيع.



#ميلود_بنباقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خوصصة بدون طحين
- البغل الذي فقد عقله
- النقد الأدبي
- أرى نجمة في الأفق
- لا أحد يقتل أحدا


المزيد.....




- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميلود بنباقي - قصة قصيرة