أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميلود بنباقي - البغل الذي فقد عقله














المزيد.....

البغل الذي فقد عقله


ميلود بنباقي

الحوار المتمدن-العدد: 1211 - 2005 / 5 / 28 - 11:48
المحور: الادب والفن
    



كان الهم باديا على وجه البغل "بوركبة" في ذلك اليومي الجميل من أيام الربيع الأولى . لم ينهض لتناول العشب كعادته , و أقعى عوض ذلك تحت شجرة هرمة طالت أغصانها و قلت أوراقها و شحبت . تبدو عيناه ذابلتين بفعل الخيبة و الإحباط , و أذناه لا تتحركان رغم أن الناموس و الذباب اتخذهما مرتعا . كان ساهما تحمله هواجسه و خواطره إلى عوالم غير عالم المرج و القرية و صاحبه الفظ الذي يتفنن في انتقاء العصي و السياط لجلده كلما امتطى ظهره أو حمل أثقاله فوقه .لم يستسغ هذه العادة لحد الآن . هؤلاء الفلاحون لا يقودون البغل إلا و العصى في أيديهم الخشنة , و بدل أن يشكروه و يقبلوا قوائمه الأربع , يجلدونه كأنه زان يقام عليه الحد. لو كان فرسا , هل كان سيتعرض للمهانة التي يتجرعها و هو بغل ؟ ا
للبغال حلم قديم لم يتحقق بعد . فقد كانت منذ عهد جدها الأول تحلم بأن تصبح البغولية رياضة الطبقة الميسورة مثل الفروسية . فتطأ حوافرها العشب الأخضر المدلل المسقي بالماء الزلال المنساب من صنابير الشرب بدل عشب البادية الذي لا يتعهده أحد . و تظهر وجوهها ليلا على الشاشة بعد نشرة الأخبار , بدل أن يغشاها الغبار المتطاير من الطرقات المتربة و البيادر.
تنهد "بوركبة" عميقا و نفخ طويلا بمنخريه , حرك أذنيه منتفضا و نهض . ضرب الأرض بقوائمه و صاح : الفرس اللعين يمنح الأسبوع بعد الأسبوع حتى صارت أيام الله كلها أيامه . لاينقضي أسبوع الفرس حتى يعقبه أسبوع فرس آخر . أ لا يوجد في هذه البلاد سوى الفرس ؟ا يقفز و ينط و يستحم و تداعبه الأصابع و تنتقى له الأسماء الآدمية , فهذا السعادة و ذاك بدر زمانه و ذاك الناصر و المستنصر ...و البغل المسكين يحمل عوض الأسفار أحجارا . إننا ضحايا ميز طبقي أيها الرفاق . ننوء بالأحمال الثقيلة و تلهب مؤخراتنا بالسياط منذ نعومة حوافرنا إلى يوم مماتنا حيث تلقى جثتنا في حفرة أو واد و ننتهي نهاية الجيف الخنزة .
لن يطول هذا الحيف , سيأتي يوم يصبح فيه للبغل بدل الأسبوع شهر, و يصبح شهر البغل أشهر من شهر العسل المزعوم . و يألف الناس أسماءنا فيسمون بها أبناءهم : بودبرة و الكيدار و الركال و بوركبة ...آن لنا أن نتوحد أيتها البغال,و نؤسس حزبا سياسيا يصون حقوقنا و يدافع عن مصالح البغال و يرفع الضرر عنها و يصون كرامتها و حقها في الوجود و العيش الكريم و يمثلها في المحافل و المنتديات...و لكن كيف السبيل إلى ذلك و نحن أميون جاهلون ؟ من منا يملك وعيا سياسيا أو حقوقيا ؟ من منا تجرأ يوما فرفع صوته و قطب جبينه ؟
تضاءلت سمات الغضب على وجهه و عاوده الإحباط و الانكسار .واقع البغال أعاده إلى حالته الأولى . عمل بالنهار و نوم بالليل, رؤوس مهمومة و أجساد مرهقة أضناها الجلد و الضرب , و ظهور أتعبتها الأثقال ...لا وقت للسياسة و الأحزاب إذن . تهاوى البغل على الأرض , تمرغ و حك ظهره . تثاءب و أغمض عينيه قليلا . مرت أمامه صورة أبيه : كهل خط الشيب رأسه , بطيء الحركة , ضخم الجثة , صبور لا يشتكي و لا يعصى أمرا . يتحدى الألم و المرض إن ألم به , و ينقاد بسلاسة للكبير و الصغير . يقتصد في أكله و شربه و لا يقحم نفسه فيما لا يعنيه . و ما أكثر ما لا يعنيه . لا يعنيه ما يحمله على ظهره , و لا يعنيه إن كان وقت العمل ليلا أو نهارا . و لا يعنيه إن كان راكبه طفلا أو راشدا , و لا يعنيه إن كان السوط الذي يدميه من جلد أو مطاط , أو الشوكة التي تغرز في لحمه قطعت من نخلة أو صنعت من حديد ... ما أكثر ما لا يعنيه . كان ـ رحمه الله ـ نموذج البغل المفضل لدى عامة الفلاحين .
انتفض "بوركبة"و وقف من جديد .
ذلك عهد قد مضى . انتهى زمن البغل المثالي .سأقود البغال رغم جهلها و بلادتها و أوحدها و أبني لها مجدا لا يدرس . نفض الغبار عن جسده و انطلق مسرعا . توغل في الغابة و طاف على الحقول لينادي على البغال و يدعوها للإصغاء إليه , فلما اصطفت أمامه و أرهفت أسماعها و علامات التعجب و الحيرة على وجوهها , خاطبها : الآن سأرفع المذلة عنكم يا معشر البغال....
قاطعه بغل عجوز:
ـ هل تعاني من مرض ما يا بوركبة ؟
ـ لست مريضا .
ـ و هل حرارتك عادية ؟
ـ يا عمي ، نحن في اجتماع تأسيسي مسؤول, لست محموما . أنا لا أهذي , هذه سياسة , ثورة , تمرد , تحرر, انعتاق وعي من أسره ....
قال العجوز : البغل جن إذن .
أحاطت البغال بالبغل "بوركبة" , كبلته و أودعته مستشفى المجانين .
كتب الباحثون كثيرا عن هذا الحدث, سماه بعضهم : ثورة البغال الموؤودة . و سماه آخرون : الحلم الذي لم يكتمل . أما البغال فسمته : البغل الذي فقد عقله .







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقد الأدبي
- أرى نجمة في الأفق
- لا أحد يقتل أحدا


المزيد.....




- -عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
- الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر ...
- بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا ...
- قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
- الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
- رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...
- خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب ...
- موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية ...
- -ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في ...
- 10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميلود بنباقي - البغل الذي فقد عقله