|
|
من دفتر الهجرة، لماذا؟
محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 07:14
المحور:
سيرة ذاتية
لماذا تهاجر الطيور والأسماك وحيوانات الغابة؟ وما يجعل سمك الثعبان يترك نهر النيل، بعد أن يصوم عن الزاد ويتغير لونه إلى اللون الفضي؟ يسبح قريبا من قاع نهر النيل، تاركا حابي، ويذهب إلى البحر المتوسط ليعبره بالطول، بهدف الوصول إلى الأطلسي.
يظل سابحا في الأطلسي لا يلوي على شئ. ليس له هدف آخر يغريه عن قصده أو يثنيه عن عزمه. حتى لو وفرت له الغذاء الوفير في الطريق، فإنه يرفضه بإيباء، إلى أن يصل هو ورفاقة، القادمين من كل أنهار الدنيا، في نفس الوقت، إلى مكان بالقرب من جزر "بهامز".
ليست هناك إجابة واحدة على هذا السؤال. كل الإجابات صحيحة ومتنوعة. هناك من يهاجر هربا من الصقيع وزمهرير الشتاء، أو لشح الماء وندرة الغذاء، أو للتناسل وإنجاب الأبناء، أو هربا من مستبد وأعين البوليس، أو لأي سبب آخر.
عظيم، لكن ما يمنع سمك الثعبان من التناسل في المياه العذبة الدافئة في عقر داره، في وطنه بين أقرانه ومحبيه وخلانه؟ بدلا من هذه البهدلة والشحططة، والسفر خلال هذه الرحلة المضنية التي تهدر الطاقة وتهد الحيل، والتي يظل فيها المسكين عائما صائما مسافة تصل إلى أكثر من 7000 فرسخ؟
لا أحد يعلم بالتأكيد. ربما يكون السبب هو اختلاط الأنساب ومزج الجينات والصفات. التهجين واختلاط الجينات ينتج عنه سلالات، هي أقوى وأقدر على مواصلة الحياة ومقاومة الأمراض. هكذا تقول نظرية التطور.
في أوائل الستينيات، زار الأستاذ أنيس منصور، الكاتب المصري الراحل، أندونيسيا. رجع منها ومعه حكاية تحضير الأرواح بالسلة وبالفنجان المقلوب. سرعان ما أصبحت هوجة وموضة لم يخل منها بيت، ولم تسلم منها أسرة.
الكل قد انتابته نوبة تحضير الأرواح هذه. بهدف استحضار أرواح أمواتنا وسؤالهم: هل هم فى الجنة أم فى جهنم؟ أو السؤال عن حال الحبيب والمستقبل والمخبي والمكتوب.
كنت في ذلك الوقت طالبا أدرس في الجامعة، أسكن في المدينة الجامعية. أصابتنا أيضا هوجة تحضير الأرواح تلك، فقمت أنا ورفاقي بتحضيرها بالسلة تارة وبالفنجان أخرى. شقاوة وحب استطلاع.
في البداية، أعتقدت فى صحة تحضير الأرواح هذه. عندما كنا نحمل السلة أو نضع أصابعنا على قاعدة الفنجان المقلوب ونحضر روح أحد الموتى، ثم نسألها عن أشياء لا يعرف إجابتها غيرنا، لاحظت أنها كانت تجيب بدقة وصواب مذهلين. الفنجال كان يتحرك وسط دائرة من الحروف الأبجدية. الحروف التي يلامسها الفنجان هي الكلمات، ومن الكلمات تتكون الجمل.
لكن، عندما نسأل الروح عن أشياء لا يعرفها أحد من الحاضرين، كانت تخفق فى الإجابة. وبما أنني من النوع الذي لا يقبل شيئا غير منطقي بسهولة، حاولت ربط الإجابات الصحيحة التى أعرفها وحدي بحركة الفنجان.
وجدت عندها أنني من حيث لا أدري، أقوم بتحريك الفنجال وقيادة حركته نحو حروف الإجابة الصحيحة لا شعوريا. لقد اكتشفت أن عقلي الباطن هو الذي يحرك الفنجان.
العقل الباطن هو الذي يحرك الفنجان أو السلة، وليست الأرواح. ليست هناك أرواح ولا يحزنون. الموضوع لا يزيد عن كونه قراءة للعقل الباطن لمستخدمي الفنجان أو السلة، مثل قراءة الطالع بالنظر في قعر فنجان القهوة والكف، أو عن طريق المندل والودع، إلخ.
لكن، ما علاقة هذا بموضوع الهجرة؟ أيوه أنا جاي لحضرتك. عندما سألنا أحد الأرواح عن حالة مصر والعالم العربي في ذلك الوقت، أجابت الروح: "اهربوا، سوف تقوم في المنطقة حروب كثيرة وقلاقل وثورات عنيفة، يموت فيها الكثير من الناس، وستكون الدماء للركب. أي والله.
"اهربوا وهاجروا." هكذا جاءت النصيحة. في ذلك الوقت كان عبد الناصر في قمة مجده. لم يكن هناك أي شئ يشير من قريب أو بعيد إلى حروب وقلاقل في الأفق أو في المستقبل.
كانت مصر في وحدة مع سوريا. المستقبل وردي مشرق والأمل مرتفع وكله تمام. أحمد سعيد، مدير صوت العرب، صوته يجلجل في الفضاء الفسيح وعبر الأثير مناديا "يا عرب".
قبل حدوث الانفصال وفشل وحدة مصر وسوريا، وقبل حرب اليمن، وحرب 67 وحرب 73 ،وحرب الاستنزاف، والحرب الأهلية في لبنان، وثورات الربيع العربي في كل مكان. كيف تسني للعقل الباطن، ولا أقول الأرواح، معرفة الحروب والقلاقل القادمة، مما جعلها تنصحنا بالهجرة من بلادنا إلى غيرها من بلاد الله لخلق الله؟
لقد تذكرت هذه القصة وأنا أكتب عن الهجرة. ولا أعتقد أنها السبب الرئيسي أو الدافع لقرار الاغتراب وترك الأوطان والابتعاد عن الأهل والخلان.
حقا الهجرة تنتقي المهاجر كما يقول رجال الإحصاء. بمعنى أن معظم المهاجرين هم من الشباب والأصحاء والقادرين على العمل والكفاءات والطموحين والمغامرين، أكثر من غيرهم من القابعين الصابرين المستكينين الراضين الحامدين. المرضى والعاجزون والكسالى وكبار السن لا يهاجرون.
إلا أنها قاسية صعبة، مرة مرارة العلقم في بدايتها، بسبب ألم الفراق. هي نصف موت أو أكثر بالنسبة للأب والأم والأهل والأحباب. لا أنسى ما حييت بكاء والدتي وأخواتي الصغار يوم مغادرة منزل العائلة للذهاب للطائرة.
سبب هجرتي الحقيقي لا أعرفه. هل هو الفشل في الحب؟ لا أعتقد ذلك، فالبعاد يزيد الألم والشجن، ولا يمحوه أو يخفف من ألمه. لم يكن لدي مشكلة مالية. أكملت تعليمي الجامعي. وظيفتي كمساعد خبير إكتواري في التأمين كان لها مستقبل باهر ومرتب مجزي.
أسكن بمفردي في شقة وسط القاهرة، مركز الثقافة والفنون في ذلك الوقت. على بعد خطوات من دور السينما ومسارح العاصمة. لا زوجة ولا ولد، أعيش بحرية الشباب بالطول والعرض، بالقرب من الوالد والوالدة والإخوة والأخوات، والصحبة والخلان، أي في عزوة. فلماذا أهاجر إلى المجهول؟
لست كسمك الثعبان مبرمجا بالجينات. ولست من الطيور التي تهاجر بالليل وهي تهتدي في الظلام الدامس بالنجوم، هربا من برد الشتاء وصقيع الشمال. ولا من الفراشات التي تعبر الأطلسي. ولا الأسود والنمور التي تتبع الفرائس وهي تهاجر طلبا للكلأ والماء. ماذا إذن؟
إنها الحاسة السادسة يا سادة. العقل الباطن، يأمرنا ونحن له مطيعون. وكما يقول "كارل يونج"، مؤسس علم النفس التحليلي: "العقل الباطن يعرف المستقبل".
قرار الهجرة اتخذ بعد هزيمة 67 مباشرة، بعد أن وجدت أن أهل الثقة، ونفس الوجوه الكئيبة التي تسببت في الهزيمة، مستمرة في حكم البلد. زوار الفجر، ونفس السياسة، ونفس أسلوب كبت الحريات والاعتقالات، والتأميمات ومصادرة الممتلكات، واهل الثقة لا أهل الكفاءات.
كان أمامي الهجرة إلى كندا أو أمريكا الشمالية أو البرازيل. لم أفكر في الهجرة إلى أستراليا. قدمت طلب هجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لماذا أمريكا وولاية نيويورك بالتحديد، لأنها الأقرب في المسافة لمصر، وفرص العمل هناك أفضل.
كانت أمريكا في ذلك الوقت تقبل هجرة المؤهلات العالية من الكليات العملية، مثل الهندسة والطب والعلوم والزراعة والتجارة. الطالب حتى يتخرج من الجامعة، يكلف أمريكا مئات ألوف الدولارات. لكنها تأخذه ببلاش من الدول الطاردة للكفاءات.
تأخذه بمؤهله وخبرته الوظيفية. تبلعه وتشرب عليه كباية مية، علشان تهضمه ويصير جزءا من جسدها وكيانها. تعطيه الجنسية وتساوية بشعبها وناسها. منتهى الذكاء وحسن الإدارة.
عندما أجبر المسلمون شعب الأرمن على المغادرة أو الدخول في الإسلام، اعتقادا منهم أن هؤلاء الكفار يلوثون البلاد، جعلهم هذا الإضطهاد يفرون إلى الهند الشرقية. مما حرم البلاد من شعب جاد نشيط. هذا هو الغباء بعينه، والتعصب الأعمى الذي يتسبب في تدمير الصناعة والزراعة والاقتصاد، ومن ثم باقي البلاد والعباد.
بلادنا السعيدة كانت ترحب بمغادرة هؤلاء المهاجرين المشمئزين المتزمرين غير الراضين. لسان حالها يقول، "في ستين خرارة، لو موش عاجبنكم، تفضلوا بدون مطرود". كانت بلادنا السعيدة لا تسمح للمهاجر إلا بمبلغ 200 دولار فقط لا غير.
مرت سنة كاملة على تقديم طلب الهجرة. جاء الرد بالموافقة من ولاية نيويورك. كان لا بد من موافقة القنصل بالسفارة الأمريكية بالقاهرة بعد مقابلة شخصية.
سألتني السيدة مارجريت، متوسطة السن، بجسمها الممتلئ، وبياض بشرتها الناصع، وشعرها الأصفر الذهبي، وعينيها الخضراوتين:
هل تعرف أحدا بمدينة نيويورك؟ لا. كم معك من النقود؟ 200 دولار. "هل تعرف كم تكفيك هذه النقود في نيويورك؟ لا أعرف.
إذا بوجه السيدة مارجريت، يمتقع من الغضب، ويتغير من اللون الأحمر الوردي إلى البمبي الفاقع إلى الأصفر الصافي ثم الأبيض الناصع. كأن وجهها كان على سطح صفيح ساخن. ثم ألقت بالملف الخاص بي في وجهي، وهي تطردني من الغرفة بعصبية وقرف..
أخذت الملف بيد مرتعشة وذهبت للسيدة عايدة الإبراشي مسؤولة الهجرة في السفارة وأنا أقول لها: "لماذا رفضت السيدة مارجريت طلبي؟ أريد معرفة السبب". نظرت عايدة إلى تأشيرة القنصلة، ثم لي شذرا وهي تتعجب: "تقول إن طلبك قد رفض؟ مبروك. لقد وافقت القنصلة على هجرتك".
أعطتني عايدة تأشيرة الدخول للولايات المتحدة، وأخبرتني أنهم هناك في مطار نيويورك، سوف يعطونني الكارت الأخضر الذي يسمح لي بالعمل والإقامة الدائمة. ثم طلبت مني استوفاء باقي أوراق الهجرة اللازمة من المصالح والدواووين الحكومية المصرية.
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أين أتينا؟
-
قصة الانفجار العظيم ومولد النجوم
-
الاعتداء على معلمة مسيحية
-
ضرورة الحكم الديموقراطي
-
-توماس بين- - من رواد التنوير
-
جان جاك روسو - من رواد التنوير
-
إصلاح التعليم في مصر
-
مشكلة الأقباط في مصر
-
رجل لكل العصور
-
أنا كلوديوس، الحلقة (13/13) – قصة تروى
-
أنا كلوديوس، الحلقة (12/13) – كلوديوس الإله
-
أنا كلوديوس، الحلقة (11/13) – لا تثق في أحد
-
أنا كلوديوس، الحلقة (10/13) – مقتل كاليجولا
-
أنا كلوديوس، الحلقة (9/13) – مولد إله
-
أنا كلوديوس، الحلقة (8/13) – عهد الإرهاب
-
أنا كلوديوس، الحلقة (7/13) – ملكة السماء
-
أنا كلوديوس، الحلقة (6/13) – بعض العدل
-
أنا كلوديوس، الحلقة (5/13) – الملكة السامة
-
أنا كلوديوس، الحلقة (4/13) – الفخ
-
أنا كلوديوس، الحلقة (3/13) – ابنة قيصر
المزيد.....
-
شاهد استقبال ترامب لمكالمات هاتفية من أطفال عشية عيد الميلاد
...
-
رواد فضاء يبعثون رسالة إلى الأرض بمناسبة عيد الميلاد.. شاهد
...
-
الجزائر تشرع قانوناً يجرّم الاستعمار الفرنسي
-
نتنياهو يهدد حماس مجددًا.. وواشنطن تكشف موعد بدء المرحلة الث
...
-
في قداس عيد الميلاد الأول له... البابا ليون الرابع عشر يدعو
...
-
كأس الأمم الأفريقية: السماح بالدخول المجاني في بعض المقابلات
...
-
العدل الأميركية: مليون وثيقة إضافية قد تكون مرتبطة بإبستين
-
تقرير:حركة الشباب تمثل أكبر تهديد للسلام في الصومال والمنطقة
...
-
التوازن السياسي يعيد رسم ملامح العلاقة السورية الروسية
-
تحالفات الظل تربك معركة اليمن
المزيد.....
-
كراسات شيوعية (مذكرات شيوعى ناجٍ من الفاشية.أسباب هزيمة البر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة
/ تاج السر عثمان
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
المزيد.....
|