أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرار جمعة الامارة - قراءة وتحليل في الادب البلزاكي / رواية الجلد المسحور ( جلد الرغبة)















المزيد.....



قراءة وتحليل في الادب البلزاكي / رواية الجلد المسحور ( جلد الرغبة)


كرار جمعة الامارة

الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 23:11
المحور: الادب والفن
    


سنحاول اليوم أن نواصل دراستنا حول الأدب الواقعي عند Honoré de Balzac (أونوريه دو بالزاك)، وذلك من خلال هذه المرّة دراسة إحدى رواياته الفلسفية الأولى، وهي رواية La Peau de chagrin (جلد الرغبة). وننقل عنوانها إلى اللغة العربية على النحو الآتي: جلد الرغبة.
وبالطبع، اخترنا هذا العنوان عوضًا عن بعض العناوين الشائعة عربيًا، والتي تُترجم عادة عنوان La Peau de chagrin إلى: جلد الحزن، أو الجلد المسحور، أو جلد السحر.
ذلك أن كلمة chagrin في هذا العنوان لا تعني الحزن فقط في اللغة الفرنسية القديمة، بل تشير أيضًا إلى نوع من الجلد المأخوذ من حيوان الحمار، والذي كان يُستعمل في الأحمال الثقيلة. وفي هذه الرواية، لا يكون الجلد مجرد مادة، بل هو عبارة عن تعويذة سحرية تُجسِّد الرغبة والحياة، ويتناقص هذا الجلد كلما حقّق البطل، أو مالك هذا الجلد — وهو في هذه الرواية Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان) — رغبةً معيّنة. ولهذا السبب اخترنا ترجمة عنوان La Peau de chagrin بـ جلد الرغبة.
هذه الرواية، التي كتبها بلزاك سنة 1831، تُعدّ بمثابة ذلك المختبر الفكري الذي سيتمكّن من خلاله بلزاك من الشروع في بناء منظوره الفلسفي والنظري بخصوص مفاهيم الرغبة والإرادة، وبخصوص نقده للحداثة الباريسية، أي الحداثة الرأسمالية، كما تُعدّ أيضًا مختبرًا فيما يخص تفكيره في العلاقات المعقّدة والكامنة بين الفرد والمجتمع والقوى اللاشخصية.
في الدراسة السابقة، لاحظنا أن أعمال Honoré de Balzac تُعدّ واحدة من الأعمال الأدبية التي تتخذ من الحداثة البرجوازية موضوعًا لها. ففي رواية Illusions perdues (الأوهام المفقودة) رأينا كيف كشف بلزاك عن العملية التدريجية، أو التاريخية، التي تتحطّم من خلالها الذوات، عبر عملية رسملة الثقافة، أي الأدب والصحافة، وهيمنة رأس المال الرمزي. وعلى هذا النحو، كانت الشخصيات في هذه الرواية، أي في Illusions perdues، مثل شخصية Lucien de Rubempré (لوسيان دو روبمبري)، ليست مجرد تمثيل لأفراد أحرار يواجهون عالمًا محايدًا، بل كانت هذه الشخصيات تعبيرًا عن أشكال اجتماعية للوعي الذاتي، منتَجة من خلال عملية عنيفة، هي عملية الانتقال من النظام القديم إلى الرأسمالية، حيث يصبح العمل والإنتاج الأدبي خاضعين لمنطق السوق.
سنة 1831، وبالضبط مع رواية La Peau de chagrin (جلد الرغبة)، نكون أمام رواية تمهّد لهذا النقد الذي سبق لنا أن وجدناه في Illusions perdues، ولكن ضمن مجال آخر، هو مجال الحياة نفسها. فإذا كانت رواية Illusions perdues قد حلّلت وأبرزت اغتراب الأفكار والذوات في عالم التشييء ووثنية السلعة، فإن رواية La Peau de chagrin تضعنا مباشرة أمام موضوع اغتراب قوة حياة الذات في المجتمع الحديث.
هنا، في هذه الرواية، نجد أن الأمر يتعلّق بنمط آخر من الاغتراب، هو الاغتراب الجسدي والوجداني والوجودي الذي يعيشه الإنسان في الوسط الذي تمثّله مدينة باريس، والتي تعبّر عن الحداثة الرأسمالية. وفي هذه الرواية، ومن هنا، إذا كانت الموضوعات الأساسية تتمحور أساسًا حول العلاقة بين الرغبة والإرادة والاستهلاك والهدم في مدينة باريس، فإن هذه المدينة تظهر بوصفها فضاءً تتكثّف فيه العلاقات الرأسمالية الحديثة.
وفي قلب هذه الحكاية نجد التعويذة، أو الطلسم، أو التميمة، وهي La Peau de chagrin (جلد الرغبة)، التي تعمل داخل الرواية بوصفها استعارة محكمة. فهذا الجلد، بقدر ما يحقّق الرغبات لمن يملكه، بقدر ما يقوم بتقليص حياة الإنسان الذي يملكه. وهذا الشكل المادي الذي تتخذه الرغبة في هذه الرواية يمكّن بلزاك من تحليل ما ستعتبره لاحقًا النظرية النقدية المنطق الأساسي للنظام الرأسمالي، ونقصد هنا تحويل الحياة إلى مورد نادر، أي إلى كمّية (quantité) قابلة للاستغلال وقابلة للحساب الدقيق والمستمر.
إن Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان)، وهو الشخصية الأساسية في هذه الرواية، يموت في الرواية بسبب إشباع رغباته من خلال La Peau de chagrin. ولهذا كان مساره، في حد ذاته، مسارًا يجسّد التناقض المميّز للحداثة الباريسية كما يصفها بلزاك. فالرغبة، التي كانت تقوم بدور المحرّك الاجتماعي والاقتصادي، تتحوّل هنا إلى مبدأ للهدم والإنهاك الذاتي.
وأطروحتنا هنا بخصوص رواية La Peau de chagrin هي أن هذه الرواية تعبّر أدبيًا عن الكيفية التي تُدمَّر بها حياة الأفراد، ومن خلالها، عندما يخضعون لمنطق الرغبة كما يتصوّره المجتمع الرأسمالي. فالرأسمالية هنا لا تظهر فقط باعتبارها نظامًا يعمل على استغلال عمل الآخرين وذكائهم، أي البشر، بل تظهر تحديدًا بوصفها نظامًا يُخضع النشاط والوجود الذاتيَّين لنمط اقتصادي قائم على المتعة والأداء والاستهلاك.
وهنا، في هذه الرواية الأولى، يواجه بلزاك — أو يحاول أن يواجه — وهمًا آخر، وهمًا من نوع مختلف. فهذا الوهم هو وهمٌ يتعلّق بتصوّر الحياة نفسها، أي ذلك الوهم الذي يظن أن إخضاع الحياة لمنطق إشباع الرغبات يمكن أن يؤسّس لحياة سليمة. وكذلك الوهم النقيض، الذي يقرّ بضرورة كبت الرغبات، كما تعبّر عن ذلك شخصية العجوز بائع التحف (Le vieil antiquaire) (لونتيكييه) في هذه الرواية، وهي نقطة سنصل إليها لاحقًا.
وأول نقطة، أو أول مسألة، تثير الانتباه في هذه الرواية هي مدينة باريس. فباريس تظهر في رواية La Peau de chagrin باعتبارها Machine du désir (آلة الرغبة)، أي بوصفها آله الرغبات،
وبالتالي …
هنا، في باريس، في رواية La Peau de chagrin (جلد الرغبة)، لا تظهر المدينة فقط بوصفها فضاءً حضريًا أو خلفيةً للأحداث، بل بوصفها بنية فاعلة، أي آلة اجتماعية حقيقية تُنتج الرغبة، أو تكثّفها، ثم تُنهكها وتستهلكها. فبلزاك يصوّر العاصمة الباريسية باعتبارها فضاءً كليًا تتقاطع فيه جميع قوى الحداثة، أي المال، والمعرفة، والعلم، والمقامرة، والحياة الصالونية، والاستهلاك، والمنافسة. وهذه العناصر التي تميّز الحياة في باريس يصفها بلزاك بدقّة، منذ الصفحات الأولى للرواية إلى نهايتها.
فباريس ليست المكان الذي تتحقّق فيه الرغبات فحسب — وهذا ما ندركه منذ البداية — بل هي المكان الذي تُصنع فيه الرغبات، وتُحفَّز، وتُقاس، ثم تُستنزف في النهاية. ولهذا تظهر الشخصية الرئيسة في الرواية، Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان)، منذ الصفحات الأولى، بوصفها ذاتًا مشكَّلة سلفًا من خلال هذه الآلة الباريسية. فنكتشف رافايل دو فالنتان في البداية بوصفه شخصًا مفلسًا، يائسًا، هائمًا في المدينة، ويجسّد ذاتيةً مستنفَدة بفعل التوتر الدائم بين الطموح والاستحالة والصدفة.
وهذه الصدفة هي التي تقوده إلى دكان التحف العتيقة، أي إلى فضاء يبيع الأشياء والموضوعات التي خرجت عن التداول الحي، بقايا الحضارات القديمة، والموضوعات التي يمكن اعتبارها منتمية إلى التراث الإنساني الكوني، لكنها خرجت من التداول المباشر والحاضر. وهذه الصدفة التي تقوده إلى دكان التحف العتيقة ليست، في رواية La Peau de chagrin، مجرد حيلة سردية، بل ترمز إلى تيه الذات الحديثة داخل فضاء مشبع بالوعود والسلع والعلامات، حيث يبدو كل شيء حاملًا لإمكانية الخلاص، دون أن يكون أي موضوع أو أي شيء قادرًا على منح إشباع دائم.
ففي باريس، كما قلنا، تتركّز مجموعة من الآليات المنتِجة للرغبة. أولًا، المقامرة، التي تحتل موقعًا مركزيًا منذ الصفحات الأولى، من خلال Salon de jeu (صالون اللعب)، لأنها تمثّل فضاء المضاربة الخالصة، حيث تتكثّف منطقية الرأسمالية في أكثر أشكالها تجريدًا. ففي لعبة الحظ، لا تعود الرغبة مرتبطة بالعمل، بل بالصدفة والمراهنة، وهو ما يستبق ما سيصفه Karl Marx (كارل ماركس) لاحقًا بـ تشييء القيمة وافتتانها بذاتها.
ثم هناك الصالون الاجتماعي، الذي يعمل بوصفه سوقًا رمزيًا تُوزَّع فيه الشهرة، والهيبة، والسلطة الاجتماعية. وهنا تخضع مجموعة من القيم — ومن بينها قيمة الحب — إلى اقتصاد التمييز، وتتحوّل العلاقات الإنسانية داخل هذا الوسط إلى استثمارات استراتيجية من أجل النجاح الفردي أو الخاص. وهكذا يصبح إنتاج الرغبة، في سياق مدينة باريس، مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بـ Temporalité accélérée (زمنية متسارعة).
فباريس تفرض إيقاعًا لا يترك أي مجال للديمومة، أو للتأمل، أو للتجربة العميقة. كل شيء يجب أن يُستهلك، ويُجرَّب، ويُستعمل، ثم يُستبدل. وهنا يصف بلزاك باريس بوصفها مدينة يهيمن فيها الحاضر عبر سحقه لكل بعد زمني آخر، ولا يُتصوَّر المستقبل فيها إلا بوصفه وعدًا بمزيد من اللذة. وهذا التسارع يشكّل منذ ذلك الحين ما سيصفه W-alter-Benjamin (فالتر بنيامين) لاحقًا بـ أزمة التجربة – Erfahrungskrise (أزمة الخبرة)، حيث تُستبدل التجربة بسلسلة من الصدمات اللحظية، المتقطّعة، والخالية من الذاكرة.
أما العلم والمعرفة في باريس، فبعيدًا عن أن يشكّلا طريقًا للخلاص، فإنهما يندمجان بدورهما في هذه آلة الرغبة. فالعلماء الذين يلتقيهم رافايل، والمنغلقون داخل عقلانية مجردة، يعرضون بدورهم تصورًا للسيطرة التقنية على الحياة، وهو تصور ينفي بعدها الكيفي. وهكذا يصبح الجسد موضوعًا قابلًا للقياس، وتتحوّل الحرية إلى كمية محدودة، ويغدو طول العمر مسألة حساب.
وهذا الخطاب، الذي قد يبدو في ظاهره خطابًا محايدًا، يشارك في الواقع في عقلنة الوجود الرأسمالي ذاته، حيث لا تُعاش الحياة، بل تُدار، وتُسيَّر، وتُستثمر.
وفي هذا السياق، تتجلّى الفكرة الأساسية، إذ غالبًا ما تُقرأ La Peau de chagrin بوصفها رواية رومانسية، أو رواية Fantastique (عجائبية/فنتاستيكية)، بسبب دخول العنصر العجائبي في البعد الواقعي للأدب عند بلزاك. غير أنه، إذا تتبّعنا الطريقة التي يصف بها بلزاك مدينة باريس، والطريقة التي يصوّر بها باريس بوصفها آلة لإنتاج الرغبات، وعقلنة الرغبات، والهيمنة على الحياة، نصل إلى أن La Peau de chagrin — أي ذلك الجلد الذي يحقق الرغبات ويلتهم العمر في الوقت نفسه — لا يمثّل قطيعة خارقة للطبيعة.
فهذا الجلد، في سياق الرواية، لا يشكّل قطيعة مع منطق الواقع، بل يمثّل التبلور الأقصى للمنطق السائد في مدينة باريس نفسها. فجلد الرغبة يجسّد، بصورة مادية وملموسة، ما تفرضه باريس بشكل منتشر وغير مرئي: كل إشباع له ثمن، وكل رغبة محققة تنقص من رأس المال الحيوي للذات.
هذه القاعدة كانت قائمة قبل أن يمتلك Raphaël de Valentin الجلد المسحور، أو التعويذة، أو الطلسم، أي La Peau de chagrin، لكنها كانت غير مرئية. أما حين يمتلكها، فإنها تصبح مرئية. وهكذا فإن هذا العنصر العجائبي الذي يدخل إلى الرواية لا يفعل سوى كشف ما كان يعمل بالفعل داخل بنية الحياة الباريسية الحديثة.
إن بلزاك، في هذه الرواية، لا يقوم إلا بجعل آلية اجتماعية قائمة مرئية وملموسة. وبالتالي، فإن Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان)، في قراءتنا هذه، لا يصير ضحية La Peau de chagrin (جلد الرغبة)، ولا ضحية هذا الجلد في حد ذاته، بل كان، قبل أن يمتلكه، ضحية مدينة باريس نفسها، وضحية العلاقات الاجتماعية القائمة داخلها، والتي يصفها بلزاك من خلال ما سبق أن عرضناه.
فباريس، في La Peau de chagrin، تعمل بوصفها آلة للرغبات، لأنها تنظّم بصورة منهجية عملية تحويل الحياة إلى قيمة. فالرغبة، داخل هذا الفضاء، لا تعود توجّهًا نحو تحقّق إنساني، بل تصبح انخراطًا في دورة إنتاج واستهلاك واستنزاف للذات. أي إن الرغبة، في باريس، تُستحوذ عليها البُنى الاجتماعية الرأسمالية، وتكفّ عن أن تكون قوة حياة لتصير قوة تدمير.
وهذا المنطق موجود في القصة قبل أن يمتلك Raphaël de Valentin La Peau de chagrin، وهذه هي النقطة الأساسية التي أركّز عليها في هذه القراءة. ولذلك، يمكن القول إن جلد الرغبة لا يروي مجرد المأساة الفردية لرافايل دو فالنتان، بل يقدّم بنية تحليلية، أو تحليلًا بنيويًا، للحداثة الباريسية. فباريس ليست مكانًا يُعاش فيه، بل جهازًا تُستغل فيه الحياة، وتُسرَّع، ثم تُستهلك.
غير أن هذه الديناميكية كانت غير مرئية في بداية الرواية. فجاء La Peau de chagrin بوصفه تكثيفًا لتلك الآلية، أو لذلك القانون الذي كان غير مرئي، ليجعلَه مرئيًا. وهذه آلة الرغبة تشكّل الأرضية الاجتماعية التي يكتسب من خلالها الجلد معناه. وهذه هي النقطة الأهم في الرواية.
ومن هنا، لا ينبغي فهم لحظة امتلاك Raphaël de Valentin لـ La Peau de chagrin بوصفها لحظة يُدخل فيها بلزاك عنصرًا عجائبيًا على عالم واقعي، بل هي، على العكس، لحظة شديدة الواقعية، إذ إن هذا الجلد يكشف لنا القانون غير المرئي الذي يتحكّم في العلاقات الاجتماعية داخل مدينة باريس. وهذا هو الأساس الذي تُبنى عليه أحداث الرواية.
تبدأ أحداث الرواية في باريس سنة 1830، في شهر أكتوبر، حين يقتحم شاب إحدى صالات المقامرة الموجودة في حدائق Palais-Royal (القصر الملكي). يحاول هذا الشاب عبثًا أن يربح في المقامرة، فيراهن بكل ما يملك، لكنه يخرج من تلك الصالة فاشلًا. وبعد ذلك يقرّر أن يُنهي حياته، أي أن ينتحر.
وتقوده الصدفة — التي يتّضح من الظاهر أنها تلعب دورًا مركزيًا — بعد ذلك إلى دكان التحف العتيقة في Rue Voltaire (شارع فولتير)، فيقرّر أن يقوم بزيارة أخيرة لهذا الدكان قبل أن ينهي حياته. والشخصية التي نتحدث عنها هنا هي، بالطبع، Raphaël de Valentin.
في هذا المكان، سيجد رافايل دو فالنتان عددًا كبيرًا من الأشياء والموضوعات المرتبطة بـ التراث الإنساني الكوني: لوحات فنية، وآثار حضارات قديمة، وغيرها. كما سيُعجب بشخصية الشيخ العجوز، تاجر التحف العتيقة وصاحب الدكان، إلى درجة أنه سيُخبره بنيّته في الانتحار.
وعندما يستمع تاجر التحف العتيقة إلى هذا الاعتراف، ويستوعب أن هذا الشاب مقبل على الموت، وأنه قد اتخذ قراره، يشير له إلى جلدٍ معلّق على أحد جدران الدكان. وهذا الجلد — كما يشرح صاحب الدكان — منتزع من جلد حمار، وقد عثر عليه أثناء إحدى رحلاته إلى المشرق.
ويحمل هذا الجلد كتابة تقول:
«لو ملكتني ملكتَ الكل،
ولكن عمرك ملكي،
وقد أراد الله ذلك.
اطلب، وستنال مطالبك،
ولكن قصِّر مطالبك على عمرك،
فهي ها هنا.
فبكل مراميك تُنقِص أيّامك.
أتشتهيني؟
Désir sur moi, je… (الرغبة فوقي، أنا…)»
وهذا هو La Peau de chagrin (جلد الرغبة)، الجلد الذي يحقق الرغبات، ويلتهم العمر في الوقت نفسه.
يمسك Raphaël de Valentin بهذا الجلد، مُظهرًا إعجابًا وشغفًا شديدين، ثم يسأل تاجر التحف: لماذا لم يجرّب بنفسه قوى هذا الجلد الخارقة؟ ولماذا لم يستخدمه؟ فيجيبه تاجر التحف العتيقة قائلًا إن هذا الجلد يمثّل الرغبة والسلطة متحدتين؛ فالرغبة تُحرِّك، لكن السلطة تُدمّرنا. ويضيف أنه اكتشف، مع مرور العمر والزمن، أن طريق السعادة هو طريق المعرفة، وأن الفكر هو مفتاح جميع الكنوز.
وهذا القول، الذي يوجّهه تاجر التحف العتيقة إلى رافايل دو فالنتان، يفرض علينا أن ننتبه جيدًا إلى الكيفية التي يقدّم بها بلزاك هذه الشخصية. فغالبًا ما يُساء تأويل تاجر التحف العتيقة بوصفه مجرد صوت للحكمة الأخلاقية، أو للحكمة الرواقية داخل الرواية.
فهل ينبغي علينا أن ننظر إلى هذا التاجر باعتباره حكيمًا رواقـيًا، أو شخصية تقدّم أحكامًا أخلاقية لرافايل دو فالنتان؟ أم أنه شخصية أخطر من جلد الرغبة نفسه؟
صحيح أن التاجر يتحدّث بلغة تشبه اللغة الرواقية، من خلال دعوته إلى كبح الرغبات وتمجيد السيطرة على الذات، وهو الوضع الذي يعرفه رافايل جيدًا، كما سنرى في بقية الأحداث. فهذا الوضع، القائم على كبت الرغبة، سبق لرافايل دو فالنتان أن عاشه وجوديًا ووجدانيًا. كما يدعو التاجر إلى الحذر من اللذة، وضمنيًا إلى احتقار العالم الاجتماعي، بمعنى أن…

إن هذا التاجر لا يقترح، في الحقيقة، سوى نمط من الإدارة الذاتية الفردية لمنطق الرغبة. وبالتالي، فإن هذا التاجر يعبّر عن حكمة أيديولوجية لا تقول إن في العالم خللًا بنيويًا أو خطأً ما، بل تكتفي بالتأكيد على ضرورة تعلّم النجاة الفردية داخل هذا العالم كما هو. وهنا نصل إلى النقطة الأساسية التي لم ينتبه إليها كثير من قرّاء هذه الرواية ودارسيها.
فإذا كان La Peau de chagrin (جلد الرغبة) — أي الجلد المسحور أو التعويذة — يؤكّد أن كل رغبة هي استهلاك للحياة، فإن حكمة التاجر، وهي حكمة أيديولوجية بدورها، تقول: لا ترغب، كي تحافظ على حياتك. وفي الحالتين معًا، سواء في حالة حكمة التاجر، أو في حالة جلد الرغبة، يتم اختزال الحياة إلى مخزون، وإلى موضوع للإدارة والحساب. أي إننا، في كلتا الحالتين، أمام اختزال للحياة الإنسانية.
وهنا يطرح تساؤل آخر: لماذا هو تاجر تحف عتيقة تحديدًا؟
وهل اختيار Honoré de Balzac (أونوريه دو بالزاك) لهذا الدور كان اختيارًا بريئًا؟
فالتحف العتيقة هي، في جوهرها، أشياء وموضوعات خرجت من التداول الحي. لها قيمة، لكنها بلا وظيفة. هي أشياء محفوظة، متراكمة، وصامتة. وهذا التاجر يعيش بين هذه الأشياء التي نجت من الاستهلاك، لكنه، من الناحية الاجتماعية، إنسان ميت؛ إنسان يعيش، نعم، لكنه يعيش خارج الزمن، وخارج الصراع، وخارج الحياة.
وبالتالي، فهو في هذه الرواية لا يمثّل الحكمة الفلسفية التي يدافع عنها بلزاك، كما يظن البعض، بل يمثّل أيديولوجية النجاة عبر الانسحاب. وحين يقدّم الجلد إلى Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان)، ويشرح له شروطه بدقّة، فإنه يتصرّف كما لو كان خبيرًا اقتصاديًا أو مستشارًا عقلانيًا؛ كأنه يقول له: اعرف القواعد، ثم تصرّف كما تشاء. أي إنه يمنحه حرية داخل القيد، وهذه هي بالضبط الوظيفة الأيديولوجية التي يؤدّيها هذا التاجر.
ويمكننا هنا تشبيه هذه الحالة بحالة الإنسان الذي يعيش ظروفًا قاسية، كأزمة اقتصادية خانقة، أو مرض يستهلك طاقته المادية والمالية، فيلجأ إلى البنك ويطلب Crédit (قرضًا). فهذا القرض يمكن تشبيهه، في هذه الحالة، بـ La Peau de chagrin، وذلك المصرفي الذي يشرح لك شروط القرض وقواعده يشبه تمامًا تاجر التحف العتيقة، أي شخصية العجوز بائع التحف (Le vieil antiquaire) (لونتيكييه) في الرواية. فالأمر هنا ليس عجائبيًا على الإطلاق، بل هو استعاري.
ومن خلال هذه الاستعارات، يُظهر بلزاك ما هو غير مرئي داخل الرأسمالية الباريسية. وهذه هي النقطة الحاسمة هنا. ولذلك، لا ينبغي النظر إلى هذا الأمر بوصفه إدخالًا للعجائبي، أو بوصفه أثرًا من آثار الرومانسية عند بلزاك. فالعنصر العجائبي هنا ليس غاية في ذاته، بل أداة كشف.
ومن جهته، فإن Raphaël de Valentin لم يقتنع بالحكمة الرواقية التي قدّمها له تاجر التحف العتيقة. وبحكم أنه كان قد قرّر مسبقًا الانتحار، أي إنه كان قد حسم أمره بإنهاء حياته قبل دخوله إلى دكان التحف العتيقة، فقد رأى أن من الأفضل أن تتحقّق نهايته بعد أن يحقّق رغباته الدنيوية. ومن هنا سيتّخذ رافايل دو فالنتان قرار امتلاك هذا الجلد.
وهنا ينبغي علينا أن ننظر إلى هذه التعويذة، أو إلى هذا الجلد، لا بوصفه عنصرًا عجائبيًا معزولًا عن البنية الواقعية للرواية، بل بوصفه تكثيفًا اجتماعيًا، أو تكثيفًا لمنطق اجتماعي–تاريخي موجود أصلًا في بنية المجتمع الباريسي، أي منطق القيمة في طور تشكّله الرأسمالي الحديث.
وعليه، لا يتعلّق الأمر هنا بإدخال الخارق إلى الواقع، بل إن جلد الرغبة يدخل أساسًا ليكشف، عبر التكثيف المجازي، عن آلية واقعية غير مرئية تعمل في الأصل داخل المجتمع الباريسي.
وما يزيد هذا الأمر وضوحًا هو حياة Raphaël de Valentin في بداية الرواية. فنحن لا نعرف، في البداية، سوى مجموعة محدودة من الأمور: نعرف أنه دخل صالة قمار، وخسر آخر ما يملك، وقرّر الانتحار، ثم دخل دكان التحف العتيقة. لكن لاحقًا، وفي إحدى سهراته مع أصدقائه، وبعد أن بدأ جلد الرغبة في تحقيق أمنياته ورغباته — إذ أصبح رافايل الآن مالكًا لهذا الجلد، وكلما رغب في شيء تحقّق، وفي الوقت نفسه تقلّص الجلد، رمزًا لتقلّص حياته — سيحكي قصته، أي قصة حياته، لصديقه Émile (إميل).
وسيشرح له الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قرار الانتحار قبل دخوله دكان التحف العتيقة. فماذا نستنتج مما رواه رافايل لصديقه؟
نستنتج، أولًا، أن طفولة رافايل دو فالنتان لم تكن طفولة سعيدة. فقد توفيت والدته وهو في سنّ العاشرة، فتولّى والده — الذي كان ذا طبع بارد ومتسلّط — تربيته. وكان طموح الأب ورغبته القصوى أن يدرس ابنه القانون، لكي يتمكّن من الدفاع عن مصالح العائلة التجارية والمالية، المهدَّدة آنذاك من قبل Restauration (الاستعادة الملكية)، أي عودة البوربون.
غير أن هذه الآمال ستتحطّم بفعل مرسوم إمبراطوري، ستفقد العائلة بسببه جميع ممتلكاتها. وبعد مرور أشهر…

بعد فترة قصيرة، سيموت الأب، وسيبقى Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان) وحيدًا ومفلسًا. وبالرغم من هذه الظروف، لم يفقد رافايل الأمل، بل قرّر أن يعيش حياة فقيرة، مكرّسة كليًا لكتابة كتابين مهمّين، كان يعتقد أنهما سيغيّران حياته تغييرًا جذريًا.
الكتاب الأول كان عبارة عن كوميديا، وكان رافايل يظن أنه من خلال كتابتها سيصير مشهورًا، وسيحقّق النجاح الاجتماعي والنجاح الأدبي، وغير ذلك. أما الكتاب الثاني فكان بعنوان Théorie de la volonté (نظرية الإرادة). وفي هذه الظروف، وفي هذا السياق، استقرّ رافايل في غرفة صغيرة في الحي اللاتيني، كانت تديرها السيدة Vaudan (فودان) وابنتها Pauline (بولين).
وفي هذه المرحلة من حياة رافايل، كان يعيش بالفعل وفق ذلك المنطق الذي دعا إليه تاجر التحف العتيقة، كما رأينا سابقًا، أي منطق قمع الرغبات وكبت الشهوات، وتكريس الحياة للفكر. فهذا المنطق كان يعرفه رافايل معرفةً جيدة. ففي هذه الفترة من حياته نجده ممتنعًا عن جميع الملذّات والشهوات والرغبات الحسية التي يمكن لباريس أن تقدّمها له، ونراه يعيش فقط من أجل الفكر.
وكانت عائلة السيدة فودان وابنتها بولين تعيش في فقر شديد، خاصة بعد اختفاء الأب، الذي كان قد شارك في الحرب ضمن الجيوش النابليونية. وبالرغم من كل المودّة والحب اللذين كانا يربطان بين بولين ورافايل، فإن رافايل لم يكن يمتلك الإمكانية المادية لدفع أجرة الغرفة التي تسيرها السيدة فودان. وفي المقابل، كان يقدّم لبولين دروسًا خصوصية. ومن خلال هذه الدروس ستنشأ علاقة حب ومودّة بين Raphaël de Valentin وPauline.
غير أن رافايل لم يكن قادرًا على تصوّر الحب في ظل البؤس الذي كانا يعيشان فيه معًا. وهكذا استمرّت هذه الحياة الزاهدة ثلاث سنوات كاملة.
بعد ثلاث سنوات من هذه الحياة، سيلتقي رافايل بشخصية Eugène de Rastignac (أوجين دو راستينياك)، وهي الشخصية التي نجدها أيضًا في La Peau de chagrin، كما نجدها في Le Père Goriot (الأب غوريو). وراستينياك هو تلك الشخصية التي استوعبت أن النجاح داخل المجتمع الرأسمالي الباريسي لا يمكن أن يتحقّق دون الانتهازية، ودون البحث عن الحماية الأرستقراطية، والاندماج في المجتمع الراقي.
ومن هنا، سيحاول راستينياك إقناع رافايل بأن الطريق الذي يسلكه ليس طريق النجاح في باريس، وسيشرح له أنه لا يمكنه تحقيق النجاح إلا من خلال إيجاد الدعم والحماية من قبل الأوساط الأرستقراطية الغنية. وفي هذا السياق، سيقدّم راستينياك رافايل إلى La comtesse Foedora (الكونتيسة فيودورا).
كانت فيودورا امرأة لا تضاهيها أي امرأة أخرى في باريس من حيث المال، والثروة، والجاه، والجمال. وسيقع Raphaël de Valentin في حبّ فيودورا، وسيحاول جاهدًا أن يتصرّف كما لو كان ينتمي إلى الطبقة الاجتماعية نفسها التي تنتمي إليها. غير أن هذه العلاقة لن تدوم طويلًا، وستنتهي بإحباط شديد لرافايل دو فالنتان.
وهذا هو المسار الذي أدّى إلى انهيار رافايل، قبل أن يدخل صالة الألعاب، أو صالة المقامرة، ليقامر بآخر ما يملك، وقبل أن يتّخذ قرار الانتحار، وقبل أن يدخل دكان التحف العتيقة حيث سيقرّر امتلاك La Peau de chagrin (جلد الرغبة).
ويمكن تلخيص هذا المسار على النحو الآتي:
طفولة تعيسة، أب متسلّط، حياة زاهدة مكرّسة للفكر، الاقتناع بانتهازية راستينياك بوصفها الطريق الأخير الممكن للنجاح في باريس عبر فيودورا، ثم الفشل في صالة المقامرة.
والآن، سأبرهن على أن منطق جلد الرغبة كان يعمل فعليًا داخل حياة رافايل، حتى قبل أن يقرّر امتلاك الجلد. فمنذ الطفولة، نلاحظ أن رافايل لا يعيش علاقة طبيعية مع الحياة. فالعلاقة بالحياة، لديه، ليست علاقة مباشرة أو طبيعية، بل علاقة دين ومديونية وجودية. فوجوده، في نظره، لا قيمة له في ذاته، بل يجب أن يُعوَّض، وأن يُثمِر، وأن يُبرَّر.
وهذه العلاقة هي الشرط الأول لتحويل الحياة، لاحقًا، إلى رأسمال قابل للاستهلاك. ففي خضم هذه الطفولة، كان الأب يمثّل العقل القامع للرغبة، لأنه كان يحوّل السيطرة على الحياة إلى فضيلة، والزهد إلى قانون، والكبت إلى عقل. غير أن بلزاك يُظهر لنا بوضوح أن هذه العقلنة — عقلنة الحياة، وعقلنة الرغبة — لا تلغي الرغبة، بل تراكمها، وتؤجّلها، وتُفضي إلى ظهورها لاحقًا في أشكال أكثر تطرّفًا.
وبمعنى آخر، فإن بلزاك لا يدافع عن هذه الحكمة، بل على العكس، يكشف وهمها. فلا حكمة التاجر، ولا حكمة الجلد، تمثّلان خلاصًا حقيقيًا؛ إنهما يقدّمان وهمين يمكن اعتبارهما وجهين لعملة واحدة. ففي الحالتين، لا تختفي الرغبة، بل تتحوّل إلى طاقة مؤجَّلة ستنفجر لاحقًا بشكل تدميري.
فالأب المتسلّط كان، بهذا المعنى، الشرط التاريخي السابق على تسلّط العلاقات الاجتماعية في باريس. وفي الحي اللاتيني، ماذا يحدث؟ يضحّي رافايل بحياته من أجل فكرة مستقبلية: المجد، والاعتراف، والخلود الفكري. وهنا أيضًا تعمل الآلية نفسها بوضوح: تُستهلك الحياة باسم غاية مؤجَّلة.
في الحاضر، في سبيل وعد مؤجَّل بلا أي ضمان للتحقّق، ومع فيودورا تبلغ هذه الآلية مرحلة نضجها القصوى قبل امتلاك الجلد. فهنا يبدأ Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان) في النظر إلى الحب لا باعتباره علاقة إنسانية، بل باعتباره رهانًا اجتماعيًا. كانت فيودورا، بالنسبة إليه، رهانًا اجتماعيًا خالصًا؛ فهو لا يحبّها لذاتها، بل لقيمتها الرمزية. وهنا يتحوّل رافايل إلى مضارب بكيانه ووجوده كله.
ولهذا السبب نقول إن La Peau de chagrin (جلد الرغبة) لا تدخل الرواية لتغيير مصير رافايل، بل لتكشف له، ولنا بوصفنا قرّاء، أن مصيره كان قد حُسِم سلفًا. فالآلية الخفيّة التي تعمل على تحويل الحياة إلى مخزون، والرغبة إلى أداة، والمستقبل إلى مبرّر لاستهلاك الحاضر، هي الآلية الاجتماعية نفسها التي يقوم عليها جلد الرغبة، والتي يجعلها بلزاك مرئية، قاسية، ومباشرة.
وهذا الأمر يرتبط، بطبيعة الحال، بمفهوم الاغتراب، وبحالة الاغتراب التي كان يعيشها رافايل دو فالنتان. فالاغتراب لا يتعلّق فقط بفقدان السيطرة على العمل، بل يتعلّق أيضًا بانفصال الإنسان عن حياته بوصفها قوة حيّة. وهذه المسألة يتحدّث عنها Karl Marx (كارل ماركس): فالاغتراب ليس مجرد فقدان السيطرة على العمل أو على منتَج العمل، بل هو أيضًا فقدان السيطرة على الحياة نفسها.
وهذا ما نلاحظه منذ البداية في حياة رافايل. فحياته كانت محكومة بهذا المنطق منذ مراحلها الأولى. فشخصية رافايل دو فالنتان لم تتمكّن، في أي مرحلة من مراحل تطوّرها، من أن تحيا حياة تكون فيها الحياة غاية في ذاتها. بل كانت حياته دائمًا وسيلة:
كانت حياته في الطفولة عبئًا ينبغي تحمّله، بعد وفاة والدته وتربيته على يد أب متسلّط وبارد. وكانت حياته مع أبيه موردًا ينبغي ضبطه وعقلنته. وكانت حياته في الحي اللاتيني تضحيةً من أجل فكرة. ومع فيودورا، صارت حياته رهانًا اجتماعيًا.
وبالتالي، تظهر حياة رافايل بوصفها حياة سلعية. وبلزاك هو الروائي الذي سيصف لنا مظاهر التشييء التي تبدأ في الظهور مع المجتمع الرأسمالي الحديث. وهنا، فإن حياة رافايل تمثّل نموذجًا للحياة وقد تحوّلت إلى سلعة: حياة مُشيَّأة، قابلة للاستثمار والمقايضة. وعلى هذا النحو، تغترب الحياة عن ذاتها، وتغترب الرغبة عن ذاتها، ويغترب الحاضر عن ذاته، ويكتمل الاغتراب باغتراب الإنسان عن الآخر.
ولكي نُبرز بصورة أوضح القوة الفلسفية لهذه الرواية، سننتقل إلى الصفحات الأولى منها، وسنقوم بنقلها إلى اللغة العربية، من أجل وضع القارئ العربي بصورة أوضح أمام مضمون التأويل الذي نقدّمه لهذا العمل الروائي. سأقرأ مشهدًا أعدّه هنا مشهدًا مفصليًا.
لقد قرأت هذه الرواية، كما أذكر، سنة 2017، وبقيت أقرأها وأعيد قراءتها على مدى سنوات. وفي كل مرة كنت أعيد قراءة هذه الرواية، كنت أصحّح الفهم الذي خرجتُ به في القراءة السابقة. ففي أول قراءة، ظننت أن الحكمة التي تقدّمها الرواية هي حكمة العجوز بائع التحف (Le vieil antiquaire) (لونتيكييه) ، وأن بلزاك يعبّر هنا عن نمط أدبي سيتخلّى عنه لاحقًا، أي نمط أدبي محكوم بالـ Fantastique (العجائبي). غير أن إعادة القراءة بيّنت أن هذا الفهم كان متسرّعًا.
وسأقرأ الآن الصفحات الأولى، ثم نقوم بتحليلها بعد ذلك. الصفحة الأولى والثانية من الرواية، حين يصف بلزاك مشهد دخول Raphaël de Valentin إلى صالون المقامرة. وهذه ترجمة قمنا بها بشكل شخصي
" في أواخر شهر أكتوبر الماضي دخل شاب Palais-Royal (قصر باليه رويال) في اللحظة التي كانت فيها دور القمار تفتح أبوابها، امتثالًا للقانون الذي يحمي شغفًا هو في جوهره قابل للضريبة.»
وسأقف عند هذه الجملة: «امتثالًا للقانون الذي يحمي شغفًا هو في جوهره قابل للضريبة».
فهنا يشرح لنا بلزاك أن القوانين الحديثة لا تنظر إلى الرغبة بوصفها خطيئة، ولا بوصفها موضوعًا للقمع، بل تحاول استثمارها. أي إن الرغبة تتحوّل إلى رغبة مواطنين، ورغبة المواطنين تصبح موردًا استثماريًا للقانون.
«ومن دون تردّد كبير، صعد درج الصالة، درج صالة القمار المعروفة بالرقم 36.
– سيدي قبعتك، من فضلك!
صاح صوت أجشّ، قاسٍ، شيخ صغير شاحب كان قابِعًا في الظلّ، محتميًا خلف متراس، ثم نهض فجأة كاشفًا عن وجه مصبوب على هيئة نموذج خسيس.»
هنا، حين يُطلب من الداخل إلى دار القمار أن يسلّم قبعته، يتحدّث بلزاك عن لحظة تبدأ فيها القوانين بالعمل عبر تجريدك أولًا من قبعك. فهل هي استعارة إنجيلية ذات طابع قدري؟ أم هي، بالأحرى، طريقة لعقد ميثاق جهنّمي معك، عبر المطالبة بضمان لا ندري ماهيته؟
هل الهدف هو إجبارك على الحفاظ على هيئة محترمة أمام أولئك الذين سيغنمون أموالك؟ أم هي الشرطة المتربّصة في كل مجاري المجتمع، التي تريد معرفة اسم صانع قبعتك، أو اسمك أنت إن كنت قد دوّنته على بطانتها؟ أم هو، أخيرًا، من أجل قياس جمجمتك، وإعداد إحصاء مفيد عن القدرات الدماغية للاعبين؟
في هذا الشأن، تلتزم الإدارة صمتًا تامًا. لكن اعلم جيدًا أنك ما إن تخطو خطوة واحدة نحو البساط الأخضر،
"حتى لاتعود قبعتك ملكًا لك، تمامًا كما لا تعود أنت ملكًا لنفسك".
هذه هي الجملة الأهم هنا، وهي الجملة التي تَرِد في بداية الرواية.
فبمجرّد أن تخطو خطوة واحدة نحو البساط الأخضر، لا تعود قبعتك ملكًا لك، تمامًا كما لا تعود أنت ملكًا لنفسك. أنت داخل اللعبة، أنت وثروتك، وقبعتك، وعصاك، ومعطفك. وعند خروجك، سيبرهن لك اللاعب، عبر مفارقة جارحة تُمارَس بالفعل، أنه ما يزال يترك لك شيئًا ما، حين يعيد إليك أمتعتك. وإذا كنت قد دخلت بقبعة جديدة، فستتعلّم، على نفقتك الخاصة، أنه ينبغي للمرء أن يفصّل لنفسه زيًّا خاصًا باللاعبين.
إن الدهشة التي ارتسمت على وجه الغريب حين تسلّم رقعةً مرقّمة بدل قبعته — وهو هنا Raphaël de Valentin (رافايل دو فالنتان) — كانت، لحسن الحظ، ذات حوافّ متآكلة قليلًا، ما كان يدلّ بوضوح على روح لا تزال بريئة.
منذ الصفحات الأولى، نفهم لماذا أصرّ بلزاك على اعتبار هذه الرواية رواية فلسفية. فنحن هنا أمام مشهد تأسيسي لنزع التملّك (dispossession / dépossession)، حيث تُجرَّد الذات الإنسانية من ملكيتها على نفسها، قبل أن تعيش الاغتراب لاحقًا بصورة كاملة.
هذا المشهد يتخذ شكل وصف يقوم به بلزاك لشاب — هو رافايل دو فالنتان — وهو بصدد الدخول إلى قاعة الألعاب، أو قاعة القمار، لكنه في الواقع يصف اللحظة التي ينتقل فيها الإنسان من وضع إنساني إلى وضع مُشيَّأ. يبدو بلزاك هنا وكأنه يصف لنا كيف دخل رافايل دو فالنتان، وكيف نُزِعت قبّعته — التي ترمز إلى هيئته الاجتماعية — وأُعطي، بدلًا منها، رقمًا.
ومن الناحية الظاهرية، نرى بلزاك يصف دخول رافايل إلى قاعة الألعاب، لكن في العمق هو يصف لحظة تشييء الإنسان. فأول ما يُفرَض على الداخل إلى صالة القمار — كما عبّر بلزاك بوضوح — هو أن «القانون يبدأ أولًا بتجريدك من قبعتك». والقبعة، في القرن التاسع عشر، كانت ترمز إلى الهوية والانتماء الطبقي للفرد. وبالتالي، فإن نزعها يعني إلغاء واجهته الطبقية والاجتماعية.
ويُعمّق بلزاك هذا المعنى حين يتساءل: هل هو عقد جهنّمي؟ هل هو رهان؟ هل هو علامة خضوع؟
إن هذا التردّد، الذي يعبّر عنه بلزاك عبر هذه الأسئلة، هو الدليل القاطع على أن هذا الطقس الذي يُمارَس عند الدخول إلى قاعة المقامرة هو طقس سلطة، لا يخضع لتفسير عقلاني مباشر.
واللحظة الحاسمة في هذا المشهد ينقلها بلزاك بالكلمات الآتية:
«قبعتك لا تعود ملكًا لك، كما أنك لا تعود ملكًا لنفسك».
هنا ينتقل النص من وصف عملية نزع ملكية جزئية — أي نزع القبعة — إلى وصف نزع ملكية كلية، أي نزع الذات نفسها. وهذا هو المسار الذي تتشيّأ فيه الذات الإنسانية حين تفقد سيادتها على ذاتها، فتصير، عندئذ، موضوعًا داخل اللعبة.
في قاعة القمار الباريسية، اللعبة هي الإنسان، والإنسان هو اللعبة. والذي يُسيّر هذه اللعبة هو القانون: قانون المجتمع الحديث الرأسمالي . الإنسان، وثروته، وأشياؤه، جميعها تصبح موضوع اللعب داخل صالة المقامرة.
ويُختَم هذا المشهد بما يزيد من تأكيد علاقة التشييء هذه، حين يُعطى الداخل رقمًا. فالشاب لم يعد له اسم؛ لقد صار رقمًا. وجوده تحوّل إلى شيء قابل للقياس. وهذه الآلية الرقَمية هي نفسها الآلية التي تعمل في La Peau de chagrin: آلية قائمة، وقانون غير مرئي، يعمل داخل العلاقات الاجتماعية في باريس.
وهذه هي الفكرة الأساسية. فهذا المشهد هو لحظة تأسيسية في الرواية، لأنه يبيّن منطق نزع التملّك، وكيف تُجرَّد الشخصية من سيادتها الرمزية، قبل أن تغترب فعليًا داخل نظام الرغبة المُشرعَنة؛ الرغبة التي يحميها القانون، أو يستثمر فيها القانون عبر الضريبة، أو يؤطّرها قانونيًا.
وبالتالي، فإن نزع القبعة هنا ليس إجراءً شكليًا، بل هو طقس عبور، تُعلَّق فيه ملكية الفرد لذاته، ويُختزل الإنسان إلى رقم، أي إلى حامل للرغبة القابلة للتداول.
وبهذا المعنى، لا يبدأ اغتراب رافايل دو فالنتان مع امتلاكه جلد الرغبة، بل يبدأ مع دخوله في بنية النظام الذي يجعل من الإنسان نفسه رهانًا.
وهذا المشهد قريب جدًا من المشهد الذي رأيناه في Illusions perdues (الأوهام المفقودة). فهناك تشابه واضح بين مشهد دخول رافايل دو فالنتان إلى صالة القمار في La Peau de chagrin، ومشهد الصحافة في Illusions perdues، ولا سيما الحوار الذي دار بين Lousteau (لوستو) وLucien de Rubempré (لوسيان دو روبمبري).
فالمشهدان يعملان معًا بوصفهما صورتين متكاملتين لمنطق واحد: منطق الاغتراب ونزع الذات في الحداثة الرأسمالية. ففي القمار، تُجرَّد الذات الإنسانية عبر الرغبة المباشرة والسيطرة عليها؛ وفي الصحافة، يتم ذلك عبر الكلمة المحوَّلة إلى سلعة. ونزع القبعة في La Peau de chagrin يقابله، في Illusions perdues، نزع المعنى عن الكتابة.
وفي الحالتين معًا — نزع المعنى عن الكتابة، ونزع القبعة في صالة المقامرة — يغترب الفرد، ويدخل في لعبة، أو في منظومة، تُحوِّل حياته إلى رهان اقتصادي.
وهكذا، إذا كان المجتمع الرأسمالي يظهر في الأدب البلزاكي بوصفه آلة للتشييء، وآلة لإنتاج الرغبة، وآلة لاستهلاك الذوات الإنسانية، فإننا نكون هنا قد خطونا خطوة أساسية إلى الأمام. ذلك أن الهدف هو قراءة هذه المتون الروائية من خلال منطق جدلي–تاريخي.
فـ Illusions perdues (الأوهام المفقودة) تمثّل نصًا محوريًا في هذا السياق، غير أن هناك عناوين أخرى أساسية في عمل Honoré de Balzac (أونوريه دو بالزاك) تعزّز هذه الأطروحة التي ندافع عنها. من بينها، بالطبع، Illusions perdues، وكذلك La Peau de chagrin (جلد الرغبة)، وأيضًا Les Paysans (الفلاحون). وهذه الأعمال كانت قد حظيت باهتمام كبير وواضح من قبل Georg Lukács (جورج لوكاش) في دراسته حول الواقعية.
غير أن رواية La Peau de chagrin، بحسب علمي، لم تحظَ بدراسة مخصّصة عند لوكاش، إذ لم أجد إشارة مباشرة إليها في تحليلاته. ولهذا يمكننا أن نعتبر — في هذا الإطار — أن Illusions perdues، وLa Peau de chagrin، وLes Paysans، وكذلك رواية Eugénie Grandet (أوجيني غراندي) — التي تُرجمت، على ما أظن، إلى اللغة العربية بعنوان ابنة البخيل — تشكّل معًا مجموعة من الروايات التي تؤكّد هذه الأطروحة بخصوص الواقعية في الأدب عند أونوريه دو بالزاك.
وهذه الواقعية ليست مجرد تقنية وصفية، بل هي واقعية كاشفة، هدفها الأساسي الكشف عن الآليات الخفيّة التي تتحكّم في البنى الاقتصادية، والاجتماعية، والتاريخية، للحداثة الفرنسية.
وهذا، في النهاية، هو الهدف من هذه القراءة.
استاذ الفلسفة : المختار منودي
كتابة وتحرير : كرار جمعة الامارة

رابط المحاضرة
https://youtu.be/nhSAJC4SiVA?si=1QVla8j_3fQqbcE9






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في رواية الأوهام المفقودة لبلزاك: رصد تحوّلات المجتمع ...


المزيد.....




- وفاة الممثل الفلسطيني المعروف محمد بكري عن عمر يناهز 72 عاما ...
- قرار ترامب باستدعاء سفراء واشنطن يفاقم أزمة التمثيل الدبلوما ...
- عرض فيلم وثائقي يكشف تفاصيل 11 يوما من معركة تحرير سوريا
- وفاة الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري عن عمر يناهز 72 عاما ...
- رحيل محمد بكري.. سينمائي حمل فلسطين إلى الشاشة وواجه الملاحق ...
- اللغة البرتغالية.. أداة لتنظيم الأداء الكروي في كأس أمم أفري ...
- بعد توقف قلبه أكثر من مرة.. وفاة الفنان المصري طارق الأمير ع ...
- نجوم يدعمون الممثل الأميركي تايلور تشيس بعد انتشار مقاطع فيد ...
- إقبال متزايد على تعلم اللغة التركية بموريتانيا يعكس متانة ال ...
- غزة غراد للجزيرة الوثائقية يفوز بجائزة أفضل فيلم حقوقي


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرار جمعة الامارة - قراءة وتحليل في الادب البلزاكي / رواية الجلد المسحور ( جلد الرغبة)