أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرار جمعة الامارة - قراءة في رواية الأوهام المفقودة لبلزاك: رصد تحوّلات المجتمع الباريسي من النظام القديم إلى الرأسمالية بعد الثورة الفرنسية.















المزيد.....



قراءة في رواية الأوهام المفقودة لبلزاك: رصد تحوّلات المجتمع الباريسي من النظام القديم إلى الرأسمالية بعد الثورة الفرنسية.


كرار جمعة الامارة

الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 22:07
المحور: الادب والفن
    


موضوع اليوم يتمحور أساسًا حول عمل روائي أدبي، وهذه الرواية التي سندرسها اليوم ونقوم بتحليلها هي رواية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) لـ Honoré de Balzac (أونوريه دي بلزاك).

هذا العمل أولًا اخترته لأنه يمثل عندي مكانة خاصة، وكذلك له مكانة محورية وأساسية في L’ensemble des œuvres de Balzac (مجمل أعمال بلزاك)، وأقصد هنا La Comédie humaine (الملهاة الإنسانية).

كتب بلزاك La Comédie humaine (الملهاة الإنسانية) على امتداد عشرين سنة، منذ سنة 1828 إلى غاية سنة 1848، وعلى امتداد نصف هذه الفترة، أي منذ سنة 1830 إلى غاية سنة 1843، كانت رواية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) حاضرة في ذهن بلزاك.
والشخصية الرئيسية المحورية لهذه الرواية، Lucien Chardon (لوسيان شاردون)، الذي هو Lucien de Rubempré (لوسيان دو روبامبريه)، نجدها كذلك في رواية أخرى تشكل الجزء الأخير لـ Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة)، وهي Splendeurs et misères des courtisanes (مظاهر البؤس والبهاء عند الغواني).هذه الرواية، كما قلت، تمثل تتمة لرواية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة)، والتي لن يُنشر جزؤها الأخير إلا مع بداية سنة 1847.

كل هذه المعطيات التاريخية تشير بوضوح إلى أهمية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة)، وكذلك إلى محورية شخصية Lucien de Rubempré (لوسيان دو روبامبريه) في تكوين العالم الروائي الخاص ببلزاك.
وهناك كذلك مؤشر آخر على أهمية هذا العمل الروائي، ويتعلق بالفترة والوقت الذي أعلن فيه بلزاك عن Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) لأول مرة، أي نهاية سنة 1833.

هذه الفترة تُعد من أكثر الفترات حسمًا وأهمية في تاريخ بلزاك، لأنه ستأتيه فيها فكرة إعطاء وحدة لكل ما يكتبه ولكل ما كتبه، أي تلك الوحدة التي عبّر عنها Victor Hugo (فيكتور هوغو) بعبارته الشهيرة في L’Avant-propos (المقدمة / التصدير)، أي تلك الوحدة التي سيعيش من خلالها مجتمع واحد عبر أشكاله وأوجهه المتعددة، وحيث إن الشخصيات نفسها ستعيد الظهور من رواية إلى أخرى.

إن عنوان رواية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) يحيل إلى موضوع واحد، إلى thématique (ثيمة / موضوعية) ستبدأ عند بلزاك في الواقع مع رواية Le Père Goriot (الأب غوريو)، التي ستظهر سنتي 1834–1835.

هذه الثيمة، أي La perte des illusions (فقدان الوهم)، تبدأ أولًا هنا، لأن الأب Goriot (غوريو) سيفقد أوهامه عن العالم وعن بناته، ثم سيموت.
وكذلك في هذه الرواية نجد أن Rastignac (راستينياك)، وهو أحد الشخصيات التي ستتكرر في مجموعة من الروايات، من بينها La Peau de chagrin (جلد الحمار / جلد الشَّغْرَن) وLe Père Goriot (الأب غوريو)، نلاحظ أنه بدوره سيفقد أوهامه عن الحياة، عن المجتمع، وعن نفسه، وسيتأسس مساره اللاحق في الرواية على أساس هذا الفقدان.

وهذه الثيمة، أي La perte des illusions (فقدان الوهم) أو الخيبة ، هي ثيمة محورية في العديد من الأعمال الروائية الأخرى لدى كتاب فرنسيين آخرين، من قبيل Stendhal (ستندال)، وكذلك Flaubert (فلوبير)، وأيضًا عند Diderot (ديدرو)، الذي هو أقرب إلى مضمون وتوجه بلزاك، وسنشرح لماذا، في روايته Le Neveu de Rameau (ابن أخ رامو)، التي نعتبرها الأقرب من حيث المضمون والتوجه إلى بلزاك.
هنا ننتقل إلى ملاحظة سجلها Georg Lukács (جورج لوكاش) في كتابه Études sur le réalisme européen (دراسات في الواقعية الأوروبية)، في المقدمة التي كتبها Alfred Kazin (ألفريد كازن)، الصادرة عن Bibliothèque mondiale – New York (المكتبة العالمية – نيويورك)، الصفحة 47. يرى جورج لوكاش أن رواية بلزاك Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) تؤسس لنوع أدبي جديد، هو le roman de la désillusion (رواية الخيبة / رواية فقدان الوهم).ولكي نميز هذا النوع الأدبي الجديد، فإنه يتميز أولًا بإظهاره الكيفية التي يتعرض من خلالها تصور الحياة الذي يتبناه المجتمع البرجوازي للتدمير من قبل الرأسمالية: تصور الحياة، تصور النجاح، تصور الفرد، إلى آخره.
بمعنى أن بلزاك يسير هنا على خطى Cervantès (ثيربانتس) في Don Quichotte (دون كيخوتة)، إذ إن هذه الرواية كذلك تتمحور أساسًا حول فقدان الوهم، حول désillusion (الخيبة / فقدان الوهم)، لكن الفرق بين سيرفانتس وبلزاك يكمن تحديدًا في أن العالم البرجوازي الصاعد هو الذي كان، في Don Quichotte، يحطم الأوهام الإقطاعية القديمة ( الفيودالية ) والفروسية تحديدًا، في حين نجد أن رواية بلزاك تتعرض للأوهام البرجوازية نفسها، أي التصورات التي تبنتها تلك الطبقة الصاعدة بخصوص الحياة، المجتمع، الفن، والثقافة، باعتبار أن هذه الأوهام نفسها هي التي يحطمها منطق الواقع الاجتماعي، وهنا يكمن تميز بلزاك في الأدب.
هذه الثيمة، كما قلنا، كانت سائدة في الأدب الفرنسي، وكانت بمثابة topos (طوبوس: ثيمة متكررة أو موضع أدبي مشترك) نجده في مجموعة من الأعمال، كما سبق لنا أن ذكرنا.
فهل يمكننا القول إن هذه الثيمة كانت مجرد موضة في الأدب الفرنسي، أم أنها كانت انعكاسًا لعمليات اجتماعية معقدة ميزت التاريخ الاجتماعي والسياسي الفرنسي؟

هذه الإشكالية كانت مطروحة بقوة بفعل التطور الاجتماعي الخاص بفرنسا، البلد الذي كان يُقدَّم ويُعتَبَر النموذج الكلاسيكي لتطور البرجوازية السياسية في كل مكان.فإذا كانت العهود والفترات البطولية الأولى للثورة الفرنسية والإمبراطورية الأولى قد أيقظت وطوّرت كل الطاقات الكامنة في البرجوازية الفرنسية، فإن هذه المرحلة قد أتاحت كذلك لأفضل عناصر البرجوازية إمكانية الترجمة الفورية لمُثُلهم البطولية إلى واقع ملموس وعياني، وإمكانية أن يعيشوا ويموتوا عيشة بطولية منسجمة مع تلك المُثُل.

نحن هنا نتحدث عن الفترة الأولى من الثورة الفرنسية. غير أن هذا العصر البطولي سينتهي مع عودة البوربون ومع ثورة يوليو/تموز (La Révolution de Juillet – ثورة يوليو).وفي هذا السياق، ستتحول تلك المُثُل إلى مجرد زينة زائدة أو فائض شكلي يُضاف إلى واقع روتيني للحياة اليومية.هذه الظروف الجديدة ستدفع، أو ستُجبر، الرواد البطوليين على الاختفاء، ليفسحوا المجال أمام مستغلين أدنى إنسانيًا في مسار هذا التطور الجديد؛ إذ سيفتح المجال للمضاربين، والانتهازيين، ومحتالي الصفقات، وهؤلاء هم الذين سيغدون السادة في ظل هذا التطور الجديد.

وبما أن شخصيات بلزاك هي أبناء هذه المرحلة الجديدة، المرحلة اللاحقة على المرحلة البطولية، فإنهم كانوا يعيشون أساسًا في عالم لا يُمجِّد البطولة ولا المُثُل.

من هنا، كانت الشخصية التي تبحث عن البطولة في عالم لا يريدها تُدمَّر، كما هو حال Lucien de Rubempré (لوسيان دو روبامبريه)، وكانت الشخصية التي تتخلى عن البطولة تنجح، كما هو حال Rastignac (راستينياك)، وكانت أيضًا الشخصية التي تعيش وفق قيم قديمة في عالم جديد تموت، كما هو الحال مع Le Père Goriot (الأب غوريو).

وعليه، فإن Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) ليست مجرد عنوان روائي، بل هي عنوان مرحلة تاريخية مميزة في التطور الاجتماعي الفرنسي.وهي لا تشير فقط إلى أوهام ذاتية فردية؛ صحيح أنها تتخذ شكل قصص فردية لأشخاص معينين، مثل David Séchard (دافيد سيشار) وغيرِه، لكن مضمون هذه الأوهام هو مضمون اجتماعي في جوهره.
فهنا نجد:
١ وهم الثقافة الحرة،
٢ وهم الصحافة الحرة الأخلاقية،
٣ وهم المجد الأدبي،
٤ وأخيرًا وهم الصعود الاجتماعي النقي.

وهذه الأوهام هي الأوهام البرجوازية نفسها بخصوص الحياة والمجتمع، وهي التي تتعرض للتحطيم بحكم الضرورة الاجتماعية والتاريخية للمجتمع الفرنسي.
وهنا تكمن، أساسًا، أهمية بلزاك.

وقبل أن ندخل في الإشكال أو في مضمون المسار الشخصي لشخصيات الرواية، يجب أن نفهم معنى فقدان الوهم (La désillusion – الخيبة/فقدان الوهم).

فهذه الموضوعية تشير إلى اللحظة التي يكتشف فيها الوعي أن العالم الاجتماعي لا يخضع للقيم التي كان يظنها هذا الوعي طبيعية، بل يخضع لقوانين غير مرئية ذات طابع اجتماعي وتاريخي محدد.
إن رواية Le Père Goriot (الأب غوريو) تهيئ للموضوعية الأساسية لرواية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة).
فمأساة غوريو، كما رأينا، ليست مأساة نفسية بل مأساة اجتماعية؛ لأن الأب غوريو كان مؤمنًا بطبيعة الحب الأبوي، غير أنه سيكتشف أن المجتمع الباريسي البرجوازي يقوم بإذابة العلاقات العائلية في منطق المال والجاه، مما يؤدي إلى تدمير علاقته ببناته بسبب المنطق الطبقي الذي يحتجزهن داخله. فلسفيًا، يرمز الأب غوريو إلى شكل من التضحية التي تميز نظامًا قديمًا سيتعرض للموت بفعل هيمنة منطق السلعة.
ومن هنا، فإن موت هذه الشخصية في الرواية يرمز كذلك إلى موت الوهم القائل بأن القيم الأخلاقية الخاصة بالنظام القديم، أي ما قبل الرأسمالي، يمكن أن تتعايش وتستمر في ظل منطق المال والسلعة.

في المقابل، نجد Rastignac (راستينياك)، الذي يقترب مما يمكن تسميته بـ الوعي الشقي؛ فبعد أن يفقد أوهامه عن الحياة، وعن الفرد، وعن النجاح، وعن نفسه، أي بعد أن يكتشف حقيقة النظام الاجتماعي بوصفه نظامًا لا يتطابق مع مُثُله المُعلنة، فإنه يقبل بهذا النظام لكي يحقق النجاح الفردي. لاحظوا كيف يبيّن لنا بلزاك أن الشخصيات كلها هي نتاج وضعية تاريخية محددة. وما يظهر بوجه عام هو أن موضوعية فقدان الوهم مرتبطة بضرورة الكشف عن الطابع التاريخي، لا الطبيعي، للمجتمع البرجوازي. فمع بلزاك، حين نقرأ رواياته، نتلمس الطابع التاريخي للمجتمع البرجوازي، لا طابعه الطبيعي. ولهذا الأمر ارتباط بما سماه ماركس ظاهرة التشيؤ أو وثنية السلعة، وهو ما سيتضح لنا حين ندرس رواية Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة).

لكن قبل ذلك، علينا أن ندرس واحدة من الإشكالات الأساسية التي كانت تعيشها الثورة البرجوازية الفرنسية آنذاك، وهي مشكلة La petite production (الإنتاج الصغير).

فإشكالية الإنتاج الصغير مثلت في الثورة الفرنسية قضية بنيوية؛ إذ لم يكن هذا الإنتاج مجرد بقايا بسيطة لنمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي قابلة للزوال الميكانيكي مع الثورة الفرنسية، بل كان يمثل شكلًا اجتماعيًا متناقضًا.
لقد كان، في الوقت نفسه، عائقًا وشرطًا للثورة البرجوازية نفسها، وهذا ما أوضحه Nicos Poulantzas (نيكوس بولانتزاس) في كتابه Pouvoir politique et classes sociales – Tome I: Les formes de la révolution bourgeoise, le cas français
(السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية – الكتاب الأول: نماذج الثورة البرجوازية، الحالة الفرنسية)، الصفحة 184، منشورات Maspero (ماسپيرو)، سنة 1971.

يبين نيكوس بولانتزاس أن الثورة الفرنسية، وعلى خلاف ما كان يعتقده آنذاك أغلب الكتّاب الماركسيين، لم تستطع فرض هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي على الكلّ الاجتماعي بشكل مباشر، بل ظلت محكومة ببنية متناقضة تتعايش داخلها علاقات الإنتاج الرأسمالية التي كانت في طور التوسع، مع علاقات الإنتاج الصغير المستقل (الصنّاع، الفلاحون الصغار، الملاّك الصغار، إلخ).
وإذا كان هذا الإنتاج الصغير يطرح إشكالية محورية أمام البرجوازية الثورية، فلأنه لم يكن إقطاعيًا ولا رأسماليًا خالصًا: كان يدافع عن الملكية الخاصة، لكنه يرفض تمركز رأس المال، يمجّد استقلالية المنتج، ويقاوم تعميم العمل المأجور.وهذه كانت واحدة من القضايا البنيوية الأساسية للثورة البرجوازية الفرنسية.
وفي Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) يلتقط بلزاك هذا التناقض بدقة. وبالضبط حين يشير بلزاك إلى سنة 1793، وهي سنة يعتبرها سنة كارثية، سنة زواج Nicolas Séchard (نيكولا سيشار)، والد David Séchard (دافيد سيشار)، فإنه يعبر أيديولوجيًا عن الصدمة المعاشة التي كان يعيشها آنذاك المنتجون الصغار.غير أن بلزاك، خلف هذا النقد ذي الطابع الرجعي، يكشف عن حقيقة موضوعية بالغة الأهمية:
فبالنسبة لوحدات الإنتاج الصغير، لم تكن الثورة سوى هدم عنيف للتنظيم الاجتماعي القائم.ولهذا ينبغي أن ننتبه جيدًا إلى الصفحات الأولى من الرواية، حيث يصف بلزاك Nicolas Séchard (نيكولا سيشار)، الذي كان يعمل في مطبعة Angoulême (أنغوليم)، وهي مطبعة متأخرة تقنيًا مقارنة بالمطابع الباريسية.فهو يصف:

١الاستدعاءات للمشاركة في الحرب،

٢عدم الاستقرار المالي والتجاري،

٣هدم الأطر التعاونية القديمة،

٤وكلها أخطار كانت تهدد الإنتاج الصغير.

وفي هذا السياق، يصبح زواج نيكولا سيشار محاولة للبقاء حيًّا في مواجهة دولة ثورية تطالب بالعمل المتواصل، دون أن تضمن أي اندماج اقتصادي حقيقي.
ومن هنا تتضح أهمية الوصف الذي يقدمه بلزاك لمطبعة أنغوليم ذات المستوى التقني المتأخر مقارنة بالمطابع الباريسية؛ فهذه المطبعة لا تعبّر فقط عن التأخر القائم بين الهامش وباريس، بل ترمز كذلك إلى شكل تاريخي محدد للإنتاج الصغير، يتميز بـ:

١ضعف مستوى La capitalisation (الرسملة)،

٢الارتباط المباشر بالعمل اليدوي المنتج،

٣الارتباط بسوق محلية محدودة وضيقة،

٤ العجز عن تحمّل المنافسة الرأسمالية الحديثة.

وبهذا المعنى، يقدّم لنا بلزاك، أدبيًا وسرديًا، ما كان أحد الأشكال الأساسية للثورة البرجوازية الفرنسية، كما حلّلها بولانتزاس نظريًا.
وبهذه الطريقة يكشف لنا بلزاك عن التناقض الجوهري الذي يميز حياة Nicolas Séchard (نيكولا سيشار):
فهو من جهة مالك لوسائل إنتاجه،لكن من جهة أخرى خاضع لهيمنة العلاقات السلعية التي تتجاوزه،هو مستقل قانونيًا، لكنه تابع اقتصاديًا.
وهنا نجد بلزاك يصف بدقة حادة الطريقة التي مهّدت بها الثورة لهيمنة البرجوازية، فالخطاب الثوري كان يمجّد أيديولوجيًا:

١الإنتاج الصغير،
٢المواطن المالك،
٣الفضيلة،
٤الاستقلالية
لكنه كان في الواقع يضحّي بهذه الفئات ماديًا لصالح تطور رأس المال.

وتكمن عظمة Les Illusions perdues (الأوهام المفقودة) في كونها تكشف هذا التناقض، وتعبّر عنه أدبيًا من خلال إبراز انهيار المطبعة التقليدية لعائلة Séchard (سيشار)، وكذلك من خلال أوهام الشاعرين.
فـ الشاعر الأول هو Lucien Chardon / Lucien de Rubempré (لوسيان شاردون / دو روبامبريه)، شاعر الكلمة
والشاعر الثاني هو David Séchard (دافيد سيشار)، شاعر الصناعة والعمل.

غير أن هناك مسألة أساسية أخرى عند بلزاك، تتعلق بسنة 1793 بوصفها:
سنة الثورة،
سنة الوضع الثوري،
سنة حالة الاستثناء الثوري في فرنسا.

في هذه السنة يشرح لنا بلزاك تحولًا حاسمًا في حياة Nicolas Séchard (نيكولا سيشار)، وهو تحول يصفه بهذه العبارات:
تحوّله من ours (الدب) إلى ساذج .وسنقف عند دلالة هذا الوصف.
يحاول بلزاك منذ الصفحات الأولى أن يكشف السياق الذي تحوّل فيه نيكولا سيشار من: منتج محض، يعمل يدويًا داخل الورشة، دون وساطة أيديولوجية أو لغة سياسية أو وعي اجتماعي، إلى موقع جديد هو:موقع السيد، مالك المطبعة.
وقد استعمل بلزاك وصف ours (الدب) لأنه كان يمثل العامل اليدوي الغارق في العمل، في حين أن وصف singe يحيل عند بلزاك إلى المالك الساذج؛ ففي عالم بلزاك، كل مالك هو ساذج.
يمنح بلزاك هذا الوصف الساذج: فعند بلزاك كلُّ مالكٍ ساذجُ . فهناك المسؤول عن الطباعة، أي عن آلة الطباعة، ويكون عمله قائمًا على الانتقال من l’encrier (المِحبرة) إلى آلة الطباعة، وهي حركة بطيئة داخل الورشة. ويصف بلزاك هذه الحركة البطيئة بحركة الدب حين يكون محبوسًا في القفص. هكذا يصف عمل نيكولا سيشار في المطبعة القديمة، إذ يُشبَّه بالدب لأن حركته بطيئة، ينتقل من المِحبرة إلى آلة الطباعة. هذا العمل الذي يقوم به نيكولا سيشار في الأصل هو عمل يدوي لا يتطلب إتقان القراءة والكتابة، لأنه لا يستلزم مهارات ثقافية أو معرفية. في المقابل، نجد فئة أخرى هي les typographes (التيبوغرافيون، جامعو الحروف)، وهؤلاء كان يُشبَّهُون بالقرود، لأن حركتهم كانت أسرع داخل ورشة العمل، بحكم طبيعة عملهم القائم على التجميع السريع للحروف والإعداد.
في هذا الإطار، يشرح لنا بلزاك، من خلال شخصية نيكولا سيشار، وفي le contexte (السياق) التاريخي لسنة 1793، كيف سيتحوّل هذا الأخير إلى الساذج، أي إلى مالك المطبعة.

وهذا التحوّل لا يعني انتقاله إلى موقع القرد، أي التيبوغرافي، لأن هذا الموقع يفترض إتقان القراءة والكتابة، وهو ما لم يكن نيكولا يجيده. بل يعني انتقاله من موقع العامل اليدوي المرتبط مباشرة بآلة الطباعة—الدب—إلى موقع الملكية، أي موقع المالك، الذي يصفه بلزاك بالساذج.

في البداية، وقبل سنة 1793، كان عمل نيكولا يتمحور حول تسيير آلة الطباعة، وكانت حركته البطيئة داخل الورشة تقوم على الانتقال المتكرر بين المِحبرة وآلة الطباعة، وهو ما برّر تشبيه حركته بحركة الدب المحتجز. أما التيبوغرافيون، المسؤولون عن تجميع الحروف في المطابع التقليدية—وكانت مطبعة أنغوليم نموذجًا من هذه المطابع—فقد شُبِّهوا بالقرود بسبب سرعة حركتهم.
هنا تتشكّل هرمية واضحة تميّز la petite production (الإنتاج الصغير):

الدب: العامل المسؤول عن سير آلة الطباعة،
القرود: التيبوغرافيون، جامعو الحروف،
الساذج: مالك المطبعة.

هذه الثلاثية أو la triade (الثلاثية) تسمح لبلزاك بأن يشرح أحد تجليات العمل الإنساني داخل وحدات الإنتاج الصغيرة. فالهرمية في هذه المطبعة التقليدية قائمة على هذا التقسيم الذي لا يعبّر فقط عن وظائف تقنية، بل عن مواقع اجتماعية. ومن خلال هذا الوصف القوي، نستنتج أن بلزاك يقدّم تحليلًا لاغتراب العمل الإنساني داخل الوحدات الإنتاجية التقليدية الصغيرة، من خلال إبرازها كما لو كانت وظائف حيوانية.
كما يتجه هذا الوصف مباشرة إلى إبراز أن الإنتاج الصغير، أي la petite production، هو شكل اجتماعي محكوم عليه بالموت التاريخي، لا بالزوال الفوري. ففي هذه المطبعة يتحقق العمل الثقافي دون استقلالية، ويتحقق العمل اليدوي دون اعتراف. وسنرى لاحقًا كيف ستُعاد صياغة هذه الثلاثية داخل عالم الحداثة الباريسية، أو داخل عالم مدينة باريس.

ننتقل الآن إلى تحوّل نيكولا سيشار من مسؤول عن الطباعة (الدب) إلى مالك للمطبعة (الساذج). ستشهد سنة 1793 وفاة مالك مطبعة أنغوليم، ما خلق حالة من vacance de propriété (فراغ الملكية). في هذه الحالة، تصبح الملكية بلا مالك فعلي، لأن الآليات الوراثية القديمة لتوريث la propriété (الملكية) كانت قد تفككت بفعل التحولات الثورية. ونتيجة لذلك، أصبحت المطبعة مهددة بالانهيار.

لم يكن ممكنًا لنيكولا أن يتحوّل إلى تيبوغرافي، أي إلى قرد، لأنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة. في هذا السياق، سيلتقي بأحد représentants du peuple (ممثلي الشعب)، الذي كان محكومًا بمنطق التسريع في سنّ القوانين وتعديلات الجمعية التأسيسية. هذا المندوب سيمنح نيكولا brevet (رخصة) بصفته معلمًا طبّاعًا، مع وضع التيبوغرافيا الخاصة بالمطبعة تحت تصرف الثورة.
وبموجب هذا الاتفاق، يصبح نيكولا مالكًا قانونيًا للمطبعة، لكن التيبوغرافيا تُصادَر لصالح الثورة. أي أن كل ما تنتجه المطبعة يجب أن يكون في خدمة الثورة سياسيًا وأيديولوجيًا وقانونيًا. وهكذا تتحول المطبعة إلى أداة للثورة، ويصبح نيكولا مطالبًا بطباعة ونشر الوثائق المتعلقة بالسيادة والسلطة الجديدتين.

هنا لا يتعلق الأمر، كما ذهب بعض المترجمين، بقانون تجاري، بل بـ loi d’exception révolutionnaire (قانون الاستثناء الثوري). فهذا القانون لا يهدف إلى القضاء على الملكية الخاصة، بل إلى إخضاع النشاط الخاص للغايات السياسية والأيديولوجية للدولة الفتية. وهو يحوّل المالك (le propriétaire) بشكل مؤقت إلى ما يشبه الموظف لدى الدولة، إلى أن تنتهي الوضعية الاستثنائية.

تميزت الوضعية الاجتماعية لنيكولا سيشار بالتناقض: فمن جهة، أصبح معلمًا طبّاعًا بوضع قانوني شبه برجوازي، ومن جهة أخرى، لم يكن يمارس هيمنة اقتصادية رأسمالية مستقلة، لأنه ظل تابعًا للدولة. صحيح أنه حقق تراكمًا رأسماليًا، لكنه كان تراكمًا محدودًا. ومن هنا يبدأ بلزاك في إبراز سمة البخل (l’avarice – الشح)، باعتبارها نتاجًا لوضعية اجتماعية معقّدة، لا مجرد خاصية نفسية فردية. ويظهر هذا البخل أيضًا في علاقته الأداتية بعائلته، ولا سيما بابنه دافيد.فالطبائع النفسية، في واقعية بلزاك، هي دائمًا نتاج وضعيات اجتماعية معقّدة.

وبما أن نيكولا لم يكن يجيد القراءة والكتابة، فقد احتاج إلى من يساعده في عمله. في البداية وجد المساعدة لدى نبيل مارسيلي يُدعى دي بلاستوك، كان يتفادى الهجرة حتى لا يفقد أراضيه، ويتفادى الظهور في الفضاء العام حتى لا يفقد حياته. ثم وجد المساعدة لاحقًا لدى قسّ كاثوليكي رافض للثورة.
تعكس هذه الوضعية ما كانت تعيشه l’Église (الكنيسة) وطبقة النبلاء خلال الحقبة الثورية. غير أن هذا الوضع سيتغير سنة 1802، التي تمثل نهاية الاستثناء الثوري وبداية النظام البرجوازي النابليوني. في هذا السياق، يستعيد النبيل شرعيته، ويعود القسّ إلى العلن، ويصبح نيكولا سيشار، المتحرر من التجنيد والمصادرات، سيدًا فعليًا لمطبعته.
إذا كانت سنة 1793 قد قيّدت النبلاء ورجال الدين، فإن سنة 1802 تؤسس لظهور الرأسمالي الصغير في الأقاليم. إنها اللحظة التي تلتحم فيها سيرة نيكولا سيشار بالتاريخ الكبير للرأسمالية الفرنسية.

نصل الآن إلى الشخصيتين المحوريتين: لوسيان شاردون، أو Lucien de Rubempré، ودافيد سيشار. كانت تجمعهما علاقة صداقة قوية رغم اختلاف طبائعهما. لوسيان كان وسيمًا، موهوبًا في الشعر، ويحلم بالمجد الأدبي والارتقاء الاجتماعي. وكان هوسه الأكبر استعادة الاسم العائلي الأرستقراطي لأمه. موهبته كانت حقيقية، لكن شخصيته كانت قابلة للتلاعب، غير ثابتة، وتميل إلى البروز ونيل الاعتراف.
أما دافيد سيشار، ابن نيكولا، فكان روحًا علمية مبدعة، يعمل على اكتشاف نوع جديد من الورق من شأنه إحداث ثورة صناعية. يجسّد دافيد عند بلزاك le travail, la patience (العمل، الصبر، والبصيرة. ويصف بلزاك لوسيان بأنه le poète des mots (شاعر الكلمات)، وهو أقرب إلى l’épicurisme (الأبيقورية)، بينما يصف دافيد بأنه le poète de l’industrie (شاعر الصناعة)، الأقرب إلى le stoïcisme (الرواقية).

تمثل هاتان الشخصيتان طريقتين متعارضتين في الاستجابة الذاتية للانتقال إلى الرأسمالية. فهما معًا يعكسان الآثار الذاتية لعملية تاريخية واحدة. وهكذا فإن الأوهام المفقودة لا تقدّم أفرادًا أحرارًا في عالم محايد، بل ذواتًا منتَجة اجتماعيًا بفعل انتقال تاريخي عنيف.

نيكولا، الدب الذي تحوّل إلى ساذج، يمثل التسوية القسرية مع عالم سيطرة المال. دافيد يمثل العقلانية الزهدية الصارمة، أما لوسيان فيجسّد الرد الأبيقوري، وفي الوقت نفسه التراجيدي. لا أحد منهم مذنب؛ الجميع مصابون بهذا التحول العنيف.
كان لوسيان يحلم بالارتقاء الاجتماعي واستعادة الأصل الأرستقراطي لأمه. هذا الطموح كان أقوى من أن يبقيه في أنغوليم، فشدّ الرحال إلى باريس ، بدعمٍ من السيّدة دو بارجتون، إلى باريس ليجرّب حظّه، معتقدًا أن الموهبة الشعرية وحدها كافية لصناعة المجد. وستظهر باريس في الرواية بوصفها ذلك الفضاء الذي تتجسّد فيه العلاقات الرأسمالية، وآليات التمييز، والقوى المادية التي تحدّد المسارات الفردية. ولوسيان هنا ليس مجرد فرد، بل هو نموذج يشير إلى وضعية تاريخية كانت تعيشها البرجوازية الصغيرة المثقفة في القرن التاسع عشر، وهي في خضمّ البحث عن الاعتراف الاجتماعي وعن المجد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا سيكتشف لوسيان في باريس؟ ماذا سيغيّر فيه هذا الفضاء؟ وماذا سيواجه هناك؟ سيكتشف لوسيان عالمًا اجتماعيًا جديدًا تحكمه قوانين غير مرئية، لكنها كفيلة بتحطيم أوهامه. أول ما سيكتشفه هو أن الموهبة وحدها لا تكفي. وسيتصادم مع واقع هيمنة réification (التشييء) وfétichisme de la marchandise (وثنية السلعة) على الحياة الأدبية والثقافية في باريس. وقد عبّر لوكاتش عن هذا الواقع بمفهوم la capitalisation de la littérature (رسملة الأدب).
كما سيكتشف أن الصحافة ليست مجالًا حرًا للتعبير، بل آلة للهدم والاستغلال. وهنا بالضبط، في مقاطع بلزاك حول الصحافة الباريسية، يستبق هذا الأخير النقد الماركسي اللاحق للأيديولوجيا الإعلامية. فذلك الوصف الثلاثي البلزاكي الذي أشرنا إليه في البداية، والمتعلق باغتراب العمل الإنساني والاجتماعي في المطبعة التقليدية في أنغوليم (الساذج، الدب، القرود)، سيُعاد إنتاجه في باريس بشكل مختلف: فالرأسماليون الأيديولوجيون سيجسّدون موقع «الساذج»، والصحفيون سيجسّدون «القرود»، أي journalistes-gourmets (صحفيي القوت اليومي)، لأنهم يكتبون من أجل العيش لا من أجل القناعات، في حين ستقوم الآلة التجارية بدور «الدب» الجديد. غير أن الدب هنا لم يعد إنسانًا، بل تحوّل إلى آلة، أي إلى الآلة الإعلامية الأيديولوجية البرجوازية.
ومن هنا يمكن القول إن بلزاك يستبق في هذا النقد التحليل الماركسي اللاحق للأجهزة الأيديولوجية، ولا سيما الأيديولوجيا الإعلامية. وهناك أمر آخر سيكتشفه لوسيان في باريس، وهو عنف النظام التراتبي الباريسي، وعملية تسليع وتشييء الأنا. ففي أحد المشاهد، يُنبَّه لوسيان إلى أن حذاءه الأسود لا يليق بمكانته الاجتماعية المفترضة، وأن عليه أن يغيّره ليظهر بمظهر لائق. وهذه الواقعة تجسّد عملية اختزال الشخصية الإنسانية في مظهرها الخارجي، ونسبها العائلي، أي في قيمة تبادلية خالصة. وباختصار، يكتشف لوسيان شاردون في باريس التناقض الأساسي لوجوده الفردي والاجتماعي؛ يكتشف أنه سجين طبقته الاجتماعية. فهو فقير، رغم أن أمه ذات أصل أرستقراطي، وهذا ما له علاقة وثيقة بسيرة بلزاك نفسه، الذي لم يحمل في البداية اسم «دو بلزاك». يكتشف لوسيان أن فقره كان حاجزًا أمام تحوّله إلى أرستقراطي، وأن طموحه كان حاجزًا أمام بقائه في أنغوليم، كما أن عدم استقلاله المادي منعه من أن يصبح مثقفًا مستقلًا. وهذه هي الملامح الكبرى لمأساة لوسيان، التي ليست مأساة فردية فقط، بل مأساة البرجوازية الصغيرة المحصورة بين الرأسمال والأرستقراطية، والعاجزة عن إيجاد موقع ثابت داخل النظام الاجتماعي.
إن ما واجهه لوسيان في باريس هو وثنية السلعة ورسملة الثقافة، أي تحويل الثقافة إلى شيء وإلى سلعة. وهذا ما حطّم أوهامه حول كفاية الموهبة الشعرية وحدها. وفي اللحظة التي ارتمى فيها لوسيان شاردون في أحضان الحداثة الباريسية، كان دافيد سيشار يعيش خيبة مشابهة، لكنها مرتبطة بآليات اقتصادية واجتماعية مختلفة. فبينما وقعت خيبة لوسيان في باريس، وقعت خيبة دافيد في أنغوليم.
ففي الوقت الذي كان فيه لوسيان يواجه وثنية السلعة والتشييء في هيمنتهما على الصحافة والأدب والإنتاج الثقافي عمومًا، كان دافيد سيشار يواجه العلاقات الرأسمالية الجديدة داخل المطبعة. وعلى عكس لوسيان، قرّر دافيد البقاء في أنغوليم، وحاول إنجاز اختراع تقني جديد يتعلق بإنتاج ورق منخفض الثمن من أجل تطوير عمل المطابع، معتقدًا أن العمل والعلم والصبر كافية لتحقيق المجد.

هنا نكون أمام تصوّرين مختلفين للمجد والنجاح الاجتماعي: لوسيان كان يعتقد أن الموهبة الشعرية تكفي، ودافيد كان يعتقد أن العمل والعلم والصبر تكفي. غير أن بلزاك يبيّن في الرواية أن هذا النموذج الأخير بدوره غير مضمون في ظل الواقع البرجوازي الصاعد. فالمنافسة بين كبار الرأسماليين الجدد لا تقوم على الكفاءة التقنية ولا على الموهبة ولا على الصبر، بل تقوم على عنصرين أساسيين: manipulation juridique (التلاعب القانوني) وle pillage capitaliste (النهب الرأسمالي).
وهذه السمات تجسّدها في الرواية عائلة الإخوة كوانتي في أنغوليم. فهؤلاء لا يمتلكون معرفة تقنية حقيقية بمجال الطباعة، ولا يملكون خبرة طويلة أو صبرًا صناعيًا، لكنهم يمتلكون رأس المال، وشبكة العلاقات، ومعرفة بالقانون التجاري، إضافة إلى قدرتهم على استغلال عمل الآخرين. ومن خلال هذه الأدوات، سيستحوذون على عمل دافيد واختراعه، أي سينهبونه بشكل قانوني. وهنا يقدّم بلزاك وصفًا دقيقًا لما يمكن تسميته بالنهب القانوني، وهو وصف يذكّر بالإرث النظري الماركسي المتعلق بالتراكم البدائي لرأس المال.
وهكذا يفقد كل من لوسيان ودافيد أوهامهما، لأن المجتمع الذي يعيشان فيه يتحدد كنظام لا تُنتج فيه القيمة من الموهبة، ولا من العمل، ولا من العلم، ولا من البصيرة، بل من رأس المال، ومن ضبط المعاملات، وشبكة العلاقات، والقانون التجاري. فإذا تحطّمت أوهام لوسيان بسبب التشييء ووثنية السلعة في عالم الثقافة، فإن أوهام دافيد تحطّمت بسبب السوق الرأسمالية الصناعية الصاعدة في إقليم بروفانس، ممثّلة في قوة الإخوة كوانتي.

وفي هذا السياق، يورد بلزاك مقطعًا دالًا من الرواية، يسأل فيه الناشر دوريّو: «ما هي الشهرة؟» ثم يجيب: «اثنا عشر ألف فرنك من المقالات الصحفية، وثلاثة آلاف فرنك من الدعوات على العشاء». ويضيف: «ليست لدي أدنى نية للمخاطرة بمائة ألف فرنك من أجل كاتب، فقط لأربح المبلغ نفسه. إن مخطوطًا أشتريه بمائة ألف فرنك أرخص عليّ من مخطوط لكاتب مجهول أحصل عليه بست مئة فرنك فقط». ثم يصرّح بوضوح: «أنا أضارب في الأدب».

ويُظهر هذا المقطع كيف أصبحت العقلية الرأسمالية مهيمنة على النشر الأدبي، حيث لم يعد الناشر راعيًا للفكر، بل مضاربًا ماليًا. أما الكتّاب والصحفيون، فقد صاروا «تجّار كلمات»، يخضعون لمنطق السوق، ويبيعون نصوصًا تُقرأ اليوم وتُنسى غدًا. لقد أصبحت موهبتهم سلعة، شيئًا يُتاجر به، وهم مستغَلّون، بل ويطمحون بدورهم إلى أن يصبحوا مستغِلّين أو مشرفين على استغلال الآخرين.
وقبل أن يصبح لوسيان صحفيًا، يقدّم له لوسطو، مرشده وزميله، شرحًا قاسيًا لوضع الصحافة قائلًا: «في الأدب، سرّ النجاح ليس العمل، بل استغلال عمل الآخرين. أصحاب الصحف مقاولون كبار، ونحن عمّال نكدّس اللبنات. وكلما كان المرء أكثر وقاحة، بلغ هدفه أسرع». ويضيف أن الضمير سيسجد عاجلًا أم آجلًا أمام أولئك القادرين على منح النجاح أو سلبه.

ويكشف هذا المقطع التحول الجذري الذي أصاب عالم الأدب مع صعود البرجوازية: لم يعد الكاتب صانعًا مستقلًا للمعنى، بل أصبح عاملًا مأجورًا في سوق الكلمات، تُقاس قيمته بقدرته على توليد الربح. أما الصحافة والأدب، فقد خضعا لمنطق العرض والطلب، وأضحيا إنتاجًا سريع الاستهلاك، بلا دوام ولا ذاكرة.
مع صعود البرجوازية، لم يعد الأدب مجالًا يُنتِج فيه الكاتب المعنى بوصفه فاعلًا مستقلًا، بل تحوّل الكاتب إلى عاملٍ مأجور في سوق الكلمات، تُقاس قيمة كلمته بقدرتها على توليد الربح. فالناشر لم يعد راعيًا للفكر، بل تحوّل إلى مضاربٍ رأسمالي يستثمر في الكتب كما يستثمر في الأسهم، ويُخضع الإنتاج الأدبي لقانون واحد هو قانون القيمة. أمّا الصحفي والكاتب، فهما – كما يقول لوسيان نقلاً عن لوسطو – تجّار كلمات، خاضعون لمنطق العرض والطلب، وينتجون نصوصًا قابلة للاستهلاك السريع، تُقرأ اليوم وتُنسى غدًا.
إن هذا التصوير لوضعية الأدب والثقافة والصحافة في باريس في القرن التاسع عشر يرتبط بما يمكن تسميته اغتراب الثقافة، وكذلك بتحوّل الكاتب إلى مرتزق. وهذا التصوير يعلن، قبل ما يقارب قرنًا من الزمن، عن أفكار ستتبلور لاحقًا لدى مدرسة فرانكفورت، وهي مجموعة من التصورات التي كان بلزاك قد سبق إليها، ولا سيما ما سيطوّره تيودور أدورنو (Theodor Adorno) في نقده لـ الصناعة الثقافية (Culture Industry).
فالنقد الفرنكفورتي، وخصوصًا عند أدورنو، يقوم على تحليل تحويل الثقافة إلى سلعة، واستبدال القيمة الجمالية بـ القيمة التبادلية، أي استبدال القيمة الجمالية (Valeur esthétique) بـ القيمة التبادلية (Valeur d’échange)، واستعباد المبدع ضمن جهازٍ تجاري يتحكم في ذوق الجمهور ويدمّر أي استقلالية للفن. هذا النقد نجده حاضرًا بقوة عند بلزاك، خاصة في الكتاب الثاني من الرواية، حين يحلّل الصدمة التي تصيب عالم الأدب.
وعندما يصف بلزاك مخطوطًا يُشترى بمئة ألف فرنك لأنه «أرخص» من كتاب جيّد لكاتبٍ مجهول، فإن هذا الوصف يمكن اعتباره إرهاصًا أو استباقًا لما سيصوّره لاحقًا فالتر بنيامين (W-alter-Benjamin) في نظريته حول زوال الهالة (L’aura). فهنا يصوّر بلزاك كيف يفقد العمل الأدبي فرادته وقداسته عندما يتحوّل إلى مجرد عنصر في سلسلة الإنتاج، وكيف تفقد الكتابة نفسها مقامها الرفيع حين تُختزل في عملية تجارية هدفها الوحيد هو البيع والتداول.
في هذا السياق، ينتقل الكاتب من كونه مبدعًا إلى عاملٍ حرفي، ثم إلى مرتزق يحلم في نهاية المطاف بأن يصبح مستغِلًّا بدوره. وهذا التحوّل يُعد تمثيلًا مبكرًا لما سيُسميه كارل ماركس (Karl Marx) لاحقًا بـ الاغتراب (Alienation)، إذ يصبح الكاتب مغتربًا عن عمله، وعن ذاته، وعن الآخرين، ويعمل داخل علاقة إنتاج لا يتحكم فيها، بل يخضع فيها لمنطق السوق ومنطق الناشر الرأسمالي.
ولهذا السبب، تُعد رواية بلزاك روايةً غنيّة وعميقة الإشكالات؛ فمن خلال هذه الإشكالية نرى كيف لا يعيد بلزاك سرد تاريخ الثورة الفرنسية فحسب، بل يكشف أيضًا كيف تتحطّم الأوهام البرجوازية نفسها حول الحياة والفن والأدب والثقافة، وحول الارتقاء الاجتماعي والنجاح، تحت وطأة منطق السوق ومنطق السلعة ووثنية السلعة والتشييء.

محاضرة لأستاذ الفلسفة
المختار منودي
El Mokhtar Manoudi


رابط المحاضرة
https://youtu.be/dacNRtl-1mU?si=0amtooNulmdzipQF






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -الست- يوقظ الذاكرة ويشعل الجدل.. هل أنصف الفيلم أم كلثوم أم ...
- بعد 7 سنوات من اللجوء.. قبائل تتقاسم الأرض واللغة في شمال ال ...
- 4 نكهات للضحك.. أفضل الأفلام الكوميدية لعام 2025
- فيلم -القصص- المصري يفوز بالجائزة الذهبية لأيام قرطاج السينم ...
- مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
- -أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت ...
- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...
- رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل ...
- سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرار جمعة الامارة - قراءة في رواية الأوهام المفقودة لبلزاك: رصد تحوّلات المجتمع الباريسي من النظام القديم إلى الرأسمالية بعد الثورة الفرنسية.