أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يونس متي - رواية (ألوان العار) ومرارة التحوّلات الاجتماعية















المزيد.....

رواية (ألوان العار) ومرارة التحوّلات الاجتماعية


يونس متي

الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 00:32
المحور: الادب والفن
    




(ألوان العار) هي من أشهر روايات الروائي (ألبير قصيرى) (*) صدرت بالفرنسية في البداية ثم تُرجمت الى العربية. في روايته ، يرسم قصيرى لوحة اجتماعية قاسية عن القاهرة: المدينة التي تنهار تحت وطأة الفساد و الانفتاح الاقتصادي ،حيث تآكل الطبقات، وانحطاط الأخلاق . لكنه لا يكتفي بنقل البؤس فقط، بل يقدّم شخصياته كـ (كائنات هامشية) فهم [نشّالون ، فقراء ، فلاسفة شارع] يعيدون الحياة بروح السخرية والتفكك و الدعابة، والمقاومة الهادئة.
أسلوب الرواية يمزج بين الواقعية القاسية والسخرية السوداء، بين الهزل والمأساة ، ما يجعل “ألوان العار” تعبّر عن تجربة مدينة في انهيار، لكنها تحتضن أيضاً بشر لهم قدرة على الضحك والمقاومة في أقسى الظروف.
شخصيات الرواية قليلة نحاول استعراض كل منها :
معاذ / شخصية مستعارة بدقة شديدة ، لظاهرة مجتمعية قائمة على الركون للأدعية بدلاً من الفعل ، حيث تقبل الجموع المنومة بالعار بوصفه قدراً لا يمكن الأعتراض عليه ، فـ (معاذ) الرجل الذي فقد بصره بضربة هراوة من شرطي أثناء تظاهرة تطالب بالغذاء، يعيش واهما حالة سلام داخلي و انسجام ممزوج بنشوة من يفتخر بتقديم تضحية كبيرة [ساعدت - بأعتقاده - على الاقل في اقامة مجتمع اكثر عدلا ازاء العاملين] وهو بالحقيقة يرسخ قناعة مترسخة اصلا لدى الجموع في كل بقعة من منطقتنا ، بديمومة الوضع المزري غير المعقول ، الا لو كانت هذه الجموع منومة و فاقدة لوعيها ولارادتها ... ... ومقتنعة انها بدعواتها للسماء - من اجل الستر والامان - التي لربما سيُستجاب لها يوما ، فأنها ستمضي بأمان في دروب الحياة ، ومعاذ هذا [... يعيش منزويا في شقة بالطابق الاول لمنزل آيل للسقوط وان كان لم يزل واقفا بفضل دعوات المستأجرين المتكررة] .
معاذ في رمزيته، لا يمثّل فقط الضحية بل يعبّر عن حالة جماهيرية شائعة في المنطقة العربية ، هي التماهي مع الظلم ، وتصوير العجز كفضيلة.
أسامة / ابن معاذ يمثل كل من يحاول النجاة وسط الغرق الجماعي وكل من يستطيع (من الجموع الجائعة) ركوب الموجه والحصول على استنشاقة هواء قبل الغرق ... وهو فرد من شريحة اجتماعية تعرف الحقيقة، وترى الانهيار، لكنها تختار الصمت.
كرم الله / صورة للمثقف المحبط المهزوم الباحث عن مأوى في المقابر، نزيل السجون والمنفي من كل الأنظمة، يقدمه قصيرى لنا وحيدا كأنه مقطوع من شجرة ، لا يمثل صوت التمرد بقدر ما يجسد المثقف العبثي، الذي استسلم لوحدته، ولم يعد يمتلك سوى السخرية. هو نموذج للمثقف العربي بعد النكسة، وبعد انهيار اليوتوبيا. لا يملك مشروعاً، بل حنيناً مشوشاً وانكساراً دائماً.
النساء الثلاث / نساء هامشيات يمثلن القاع الاجتماعي الذي يزداد اتساعا (العاهرة المستجدة، الطالبة القبيحة، والخادمة المرعبة). الرواية لا تنصفهن ، بل تمعن في تعريتهن وتكثيف صور البؤس عليهن. فهن بلا مؤهلات، يركضن مثل أسامة ، بلا ادنى مؤهلات ، خلف فرصة ضائعة في مدينة تحولت إلى مكب للضياع.
نمر/ يمثل كل ماضٍ ، التاريخ بقيمه وبصوره الجميلة الذي تمت مصادرته بوقاحة. هو الحنين المهزوم إلى الماضي ، الشقاوة، الأباضاي، الممثل للمروءة والتقاليد والرجولة الشعبية القديمة، ليس أكثر من شبح لماضٍ لم يعد له مكان. يمثل انهيار الصور الجميلة، حين تصبح بطولاته مجرّد نوادر تُروى . هو الماضي الذي هزمته الحداثة الفاسدة.
يصعب مقارنة مجتمع اليوم بما كان عليه قبل سنوات قليلة . فالماضي كان افضل من الحاضر ، دون الجرأة للحديث عن المستقبل .
لالاف السنين والمجتمع يراكم تجارب وقيم ومنظومات اخلاق ، ما الذي قدمته تلك السنوات للمجتمع وهو يوفرها ويخزنها ... هل يمكن الرجوع الى الوراء بعد كل هذه التجارب ... وما الذي قدمته الاخلاق ؟ فقد تحول الشرف والنزاهة والمحبة والتضحية - على حين غرة - الى كلمات جوفاء تثير السخرية لدى من يستخدمها ، والطامة الكبرى ان الاكثرية لم تسمع بها من قبل .
الخوف عامل مشترك لدى جميع شخوص الرواية ، والمفارقة ان الخوف من تغيير الواقع ، لا يتملك الفاسدين فقط ، بل نراه طاغيا لدى جموع المقهورين انفسهم ، الذين يفترض انهم لن يفقدوا شيئا نتيجة اي تغيير سوى اسباب بؤسهم ، الا انهم راضون بما قسّم لهم ، لدرجة اعتبارهم ان تحدي هذه القسمة ، يعتبر خروجا على الدين والمنطق .
حفزني مقال للصديق عبدالمطلب البلجاني بعنوان (ألوان العار) في موقع الناس ، لاعادة قراءة الرواية ، وما لا شك فيه قدم المقال ، استعراضا قيما للرواية والى رمزية شخوصها ضمن الحالة الاجتماعية لمصر بُعيد مرحلة الانفتاح خلال سبعينيات القرن الماضي ، و ركز المقال على ربط التدهور الاخلاقي والفساد الذي عم المجتمع المصري كما قدمته الرواية ، بالحالة الاجتماعية في عراق ما بعد الدكتاتورية ....
ورغم اتفاقي الكامل مع ما توصل اليه الصديق البلجاني في قراءته الدقيقة للرواية و بعد نظره في تحليل احداثها ، وربط الواقع الذي تدور من خلاله بالواقع في عراق ما بعد 2003 ، الا اني اجد ابعادا اخرى لا تقل اهمية عما جاء في مقالته . بقراءة متأنية للرواية ، تابعت حركة شخوص الرواية و من يمكن ان يمثلوا ضمن الحالة الاجتماعية ، وما الذي اراد قصيرى ايصاله بمشهد لقاء المقهى .
جوهر الرواية يكمن في لقاء المقهى اذ تقدم مشهداً يجمع ثلاثة من الشخوص الذين يمكن اعتبارهم (بتحفظ) معسكراً رافضاً للواقع، إلا أن هذا المعسكر بدا منذ البداية مترهلاً، منهار الأعمدة، في مواجهة واقع جديد متخم بالفساد والوقاحة، لا يتردد في الصعود على جثث القيم .
مشهد هذا اللقاء يمثل أحد المفاصل الدلالية الجوهرية في رواية ألوان العار؛ إذ يتجاوز وظيفته السردية المباشرة ليغدو بنية رمزية مكثّفة لتشكّل عالمين متواجهين:
عالم قديم ينهار ببطء، وعالم اخر جديد يصعد بعنف ، محمولاً على رياح الفساد والانهيار الأخلاقي.
ومن خلال ثلاث شخصيات متداعية (أسامة ، نمر ، كرم الله) وشخص واحد (عاطف سليمان / المقاول الفاسد) ممثّل لـ (النجاح) في زمن الخراب ، تُعلن الرواية عن تحوّل بنيوي في المجتمع، حيث تتراجع قيم النقاء والمبدئية، وتبرز مكانها منظومة النفوذ والصفقات والريع الاجتماعي.
في رواية "ألوان العار"، كل شيء متعفن: الضحية، والجلاد، والمتفرج. و تعلن ان غالبية البشر في منطقتنا لا تصبو إلا إلى العبودية وهي مرآة لواقعنا ، نعود إليها كلما أردنا اختبار مقدار ما تبقى لنا من وعي، أو من أمل. لتعلمنا (ان اردنا التعلم) ان مشكلتنا اجتماعية بالاساس ، حيث الانحطاط في القيم وفي الوعي ، مدعوما بالامية .
الشخصيات الثلاث ، رغم اعتراضها ووعيها النسبي ، تقع أسيرة مجموعة قيم وثوابت لم تعد صالحة في وسط اجتماعي تغيّر جذرياً. من هنا يتحول (المقهى) الى فضاء لعرض مأساة العجز، حيث يسود الكلام مكان الفعل، والذاكرة مكان المبادرة.
في مقابل هذا الثلاثي المتداعي ، تقف شخصية واحدة تمثّل النمط الجديد من السلطة الاجتماعية ، شخصية متحرّكة ، متكيّفة ، ماهرة في استثمار التشوّه الاقتصادي والأخلاقي و تمتلك شبكة مصالح ونفوذ، لا تقوم على القيمة أو الكفاءة ، بل على قواعد ما بعد الأخلاق المتمثلة بالرشوة، والعلاقات الزبائنية، والاستفادة من هشاشة الدولة، واستغلال حاجة الآخرين. حيث تتفكّك البنى الأخلاقية والاجتماعية، وتظهر مكانها منظومة هلامية من العلاقات قصيرة المدى ، النفعية ، المتحرّرة من أي التزام قيمي.
الشخصية الجديدة لا تعترض على الواقع الجديد لأنه من صنعها ، بل هي أكثر انسجاماً معه من الشخصيات الثلاث التي فقدت القدرة على قراءة قواعد اللعبة.
و لا يغدو المقهى مكان اجتماعي محايد ، بل فضاء انتقالي بين عالمين ، فهو من جهة ، حاضنة لذكريات قديمة و محطّة لمرور الجديد الطاغي من جهة اخرى ، انه حيّز بيني من سقوط زمن الى صعود زمن آخر.
بهذا المعنى ، يصبح المقهى استعارة سردية لانكسار الطبقة الوسطى وانطفاء رموزها ، و اشهار لتحوّل المجتمع نحو اقتصاد الفساد . إنه فضاء يعكس انهيار المجال العام ، حيث يتحوّل النقاش السياسي إلى طقوس شفهية بلا أثر، ويغدو الفساد لغة مشتركة مفروضة على الجميع.
كما تعكس مقابلة ثلاث شخصيات مقابل شخصية واحدة ، تناقض بنيوي قبل ان يكون تناقض عددي ، اذ ان الثلاثة يمثّلون إرثاً ثقافياً وأخلاقياً بات يتداعى ، في حين يمثل الواحد سلطة جديدة تتضخّم لأنها جزء عضوي من نظام الانهيار. أما (العفن) الذي يحيط بالشخصية الصاعدة، فهو ليس ابرز صفاتها الفردية فحسب ، بل هو طبيعة المرحلة نفسها ، مرحلة تفكّك الدولة ، وانهيار شبكات التضامن الاجتماعي ، وتحوّل الأخلاق إلى أدوات للتبرير لا للمساءلة.
لقاء المقهى يقدّم لنا رؤية شديدة المرارة حول التحوّل الاجتماعي ، فالجديد لا ينتصر لأنه أفضل ، بل لأنه أكثر ملاءمة لزمن الانهيار. ولا القديم يسقط لأنه سيء ، بل لأنه أصبح عاجزاً عن إنتاج بديل.
وهكذا تضع الرواية ، المجتمع أمام مرآة تكشف ، أن التغيير الذي يجري ليس انتقالاً نحو المستقبل ، بل انحدار نحو منظومة جديدة من الانحطاط المشرعن.

(*) (3 نوفمبر 1913 - 22 يونيو 2008) وُلد في حي الفجالة بالقاهرة ، في أسرة من أصول سورية. كتب بالفرنسية رغم كونه مصريًّا، مما أكسبه لقب (الفيلسوف / الساخر المميز) في الأدب المصري - بعض النقاد أطلقوا عليه لقب (فولتير النيل). غلب على حياته أسلوب (الكسل الهادئ): يُروى أنه اعتاد أن يكتب ببطء شديد، ما منحه أسلوباُ خاصاً ، لكن أيضاً قلّة إنتاج مقارنة بعمره. ومع ذلك فقد أصدر عدة أعمال عبر عقود، منها قصص وروايات، وكان اهتمامه الدائم بـ (البسطاء) - عامة الناس في شوارع القاهرة - ليس كضحايا فقط ، بل كمفكرين أو (أبطال هزليين).



#يونس_متي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شرعية المشاركة والبيئة الانتخابية المختلّة في العراق
- نظام الكوتا بين فرص الإصلاح وحدود التطبيق في التجربة العراقي ...
- مقاومة أم نفوذ ؟ ميليشيات محور إيران وأثرها على السيادة الوط ...


المزيد.....




- -البعض لا يتغيرون مهما حاولت-.. تدوينة للفنان محمد صبحي بعد ...
- زينة زجاجية بلغارية من إبداع فنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة ...
- إطلاق مؤشر الإيسيسكو للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي
- مهرجان كرامة السينمائي يعيد قضية الطفلة هند رجب إلى الواجهة ...
- هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة
- الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي ...
- تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...
- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...
- فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا ...
- -تاريخ العطش- لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يونس متي - رواية (ألوان العار) ومرارة التحوّلات الاجتماعية