|
|
المشاعية البدائية واليوتوبيا
صلاح السروى
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 18:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ينطلق الدارسون للمشاعية البدائية من القول بأن اثبات وجود تلك المرحلة الأولى في تاريخ البشرية الاجتماعي انما هو أبلغ رد على الزعم الذي روج له الاقتصاديون البرجوازيون كثيرا وعلى نحو جازم، مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو، وليبرت، وبوخر، وشتراسه، وويستر مارك.. الخ. بأن الملكية الخاصة هي وحدها ما يتفق مع الفطرة الإنسانية، وأن الحالة المشاعية لم تظهر على مدار التاريخ، ولا يمكن تصور وجودها، لاختلافها مع الطبيعة الإنسانية المجبولة على التملك. باختلاف بين مع الحقائق التي أثبتها علم الانثروبولوجيا. وذلك في محاولتهم للحكم بالاستحالة على أية محاولة لاقامة الاشتراكية في المستقبل.أو حسب قول ل. سيجال: "يزعم أعداء الشيوعية أن مجتمع المشاعية البدائية لم يوجد قط، على دعواهم، وأن الملكية الخاصة وانقسام المجتمع الى طبقات كانا موجودين منذ وجد المجتمع. ويسعى هؤلاء جهدهم ليظهروا أن الملكية الخاصة لا تنفصل عن طبيعة الانسان ذاتها، وأنه لا يمكن لملكية من نوع آخر أن توجد، وأن المجتمع كان دائما منقسما الى طبقات، وأن مجتمعا دون طبقات هو فرضية لا يمكن تصورها. ان انكار وجود المشاعية البدائية هو من مصلحة البرجوازية وعملائها، في نضالهم ضد الشيوعية الحديثة". (ل. سيجال، لمحة عن تكون المجتمع منذ بدء التاريخ - المشاعية البدائية - الرق - الاقطاعية - الرأسمالية، دار دمشق، دمشق، ط 6، 1978، ص 15) وكان ماركس وانجلز قد أوردا في كتابهما المعنون ب "الأيديولوجية الألمانية" (1845) حديثا مقتضبا عن النظام المشاعي البدائي، بوصفه المجتمع البشري الأول، وكان هذا النظام يقوم على شيوع الملكية، فيقولان: "ان أول شكل للملكية هو ملكية القبيلة، (...)، حيث يعيش شعب من القنص والصيد وتربية الماشية، أو الزراعة في المرحلة الأعلى، (...) وشكل الملكية الثاني هو الملكية المشاعية وملكية الدولة الذي نصادفه في الأزمان القديمة والذي ينشأ على الأخص من اتحاد عدة قبائل في مدينة واحدة". (كارل ماركس وفريدريك انجلز، الأيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق، دمشق، د. ت، ص29) فأول شكل هو ملكية القبيلة، وبدهي أن تلك الملكية كانت لأعضاء القبيلة ككل، وليست مقصورة على أفراد دون آخرين، أي أنها كانت ملكية مشاعية بين جميع أفراد القبيلة، بدليل قول ماركس وانجلز في الاقتباس السابق أن شكل الملكية الثاني هو ملكية مشاعية نشأ عن اتحاد عدد من القبائل وكونوا دولة في مدينة واحدة. وبذلك يصبح الشكل الأول للملكية، من الناحية الفعلية هو الملكية المشاعية وان كان قد تطور من وحدة القبيلة الى وحدة الدولة. ولقد حظي هذا الطرح بدعم علمي حاسم عندما توصل الباحث الانثروبولوجي الأمريكي لويس ه. مورجان الى النتيجة ذاتها، بعد أن درس على نحو مطول القبائل البدائية وشبه البدائية في أمريكا والمحيط الهادي. حيث أورد في كتابه: "المجتمع القديم، أو أبحاث في خطوط التقدم الإنساني"، الصادر في لندن عام 1877، أبحاثا علمية موثقة عن عمليات تطور المجتمع البشري، خلال المرحلتين اللتين أطلق عليهما اسمي: "الوحشية"، و"البربرية"، وحتى بداية عصر ظهور المدينة. وهو الأمر الذي أكد، حقيقة وجود مثل هذا المجتمع الشيوعي الأول، على نحو محايد، وبعيدا عن التأثر بأي من الأيديولوجيات السياسية، حيث تم ذلك بعد صدور كتاب ماركس وانجلز باثنين وثلاثين عاما، وبصورة مستقلة تماما عن أبحاثهما. ويرى ل. سيجال أنه لاتزال بقايا المشاعية البدائية موجودة حتى أيامنا هذه لدى عدد من الشعوب في شكل مشاعية زراعية تتملك فيها جماعات بشرية الأرض الزراعية على نحو مشترك، وتقوم بتوزيع حصص منها على أعضائها. (انظر: ل. سيجال، لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ، دار دمشق، دمشق، ط6، 1978، ص 15) فلقد كان هذا النمط من الملكية المشاعية للأرض هو النمط التقليدي السائد لدى معظم شعوب الأرض، سواء لدى الجرمانيين أو الروس (السلافيين) أو الهنود أو الشمال الأفريقي، أو سكان أمريكا اللاتينية.. الخ. حتى أن السلطات الانجليزية المستعمرة للهند لم تستطع ايجاد نوع من الملكية الخاصة للأرض، كما أنهم لم يعثروا على أي شخص قادر على التصريح بأن قطعة الأرض التي يزرعها انما هي ملك له. كذلك لم يكن بوسع هذا الشخص أن يبيع تلك الأرض، أو يرهنها، لكي يدفع الضرائب المتأخرة، أو غير ذلك. وهذا ما تؤكده روزا لكسمبورج بقولها: "لقد كان كافة أعضاء تلك الجماعات (التي تضم أحيانا عائلات كبيرة بأسرها، وأحيانا بعض العائلات الصغيرة المنحدرة من عائلة كبيرة) مرتبطين ببعضهم البعض بإخلاص لا يتزعزع، نتيجة لروابط الدم والقرابة ووحدة الحاضر والمصير التي كانت كل شيء بالنسبة لهم. ومقابل هذا لم تكن الملكية الفردية تعني شيئا بالنسبة لهم". (انظر روزا لكسمبورج، المجتمع البدائي وانحلاله، ترجمة إبراهيم العريس، دار ابن خلدون، بيروت، 1976، ص 17 - 18) من نا حية أخرى، فقد تجاوز النظام المشاعي مجرد كونه نظاما اجتماعيا واقتصاديا، بل أصبح نظاما أخلاقيا شاملا في هذه المناطق. وهو ما يعني تجذره وتحوله الى حالة ثقافية شاملة. بحيث بات يفوق مثيله في أوربا. وهذا ما دعا روزا لكسمبورج الى القول بأن: "ما اكتشفه الانجليز على ضفاف نهري: الجانج والاندوس، من أنماط وقيم أخلاقية تولدت عن الشيوعية الزراعية، كان يفوق بقوة الأخلاق الشيوعية القروية الجرمانية أو المشاعيات القروية السلافية". (روزا لكسمبورج، مرجع سابق، ص18) بيد أن الملكية المشاعية لم تكن مقصورة على الأرض الزراعية وحدها، بل امتدت الى كونها شكلت شاملا من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الذي يعتمد على تجميع المحاصيل في شون ضخمة وتوزيع مكوناتها على أفراد الجماعة، ورعاية شئون هؤلاء الأفراد من قبل مجلس قبلي يرأسه شخص منتخب من قبل أعضاء الجماعة. ويبدو أن ما تم العثور عليه من آثار حية لدى الهنود الحمر في أمريكا اللاتينية يشير الى حالة شيوعية متفردة ومختلفة عن باقي المشاعيات التي تم اكتشافها، حيث تفوقت على مثيلاتها في أوربا. لدرجة أن المقر الرئيسي لملوك الانكا (مدينة كوزكو) كان يتألف بشكل خاص من مساكن جماعية على النحو السابق ايراده، وكان كل منها يحمل اسم عائلة من العائلات. وهو الأمر ذاته الذي ينطبق، أيضا على سكان مناطق الجانج والاندوس، من حيث التفوق على النموذج الأوربي. حيث تأكد أن الاكتشافات الخاصة بالمشاعيات الأوربية انما كانت أضعف بكثير مما تم اكتشافه في كل من أمريكا اللاتينية والهند: "فكانت ثمة منازل جماعية هائلة تعيش فيها عائلات بكاملها عيشة مشتركة، ويدفن فيها الأموات بصورة مشتركة. وثمة من يتحدث عن وجود مساكن جماعية يضم كل منها ما لا يقل عن أربعة آلاف رجل وامرأة". (انظر: روزا لكسمبورج، مرجع سابق، ص 26 - 27) بينما يورد ف. جوردون تشايلد حديثا عن وضع مشابه لوضعية مملكة الانكا، فيما يتعلق بمشاعية التملك، في أوربا، وبخاصة في إنجلترا، بدون التطرق لفكرة التفوق، تلك، فيقول: "ويبدو أن القرى المعروفة كانت تتكون من كفور تشمل الواحدة منها ثلاثة عشر منزلا (أو ربما ضعف ذلك العدد، والكلام لا يزال لجوردون تشايلد) وبعضها متسع 90 x 20 قدما - لدرجة أنه يسع عشيرة كاملة لا عائلة طبيعية واحدة. وكانت الحبوب تخزن في صوامع ولكن علاقة هذه بالمساكن لا تسمح بأي فروض فيما يتعلق بحقوق ملكية أصحاب هذه المنازل للغلال المخزونة. ولا يبرز بين المساكن مسكن خاص بالزعيم كما لا تشير أثاثات المقابر الى فروق في المراتب. ووجدت تماثيل للنساء من الصلصال أو مرسومة على الأواني الفخارية. ولم توجد أي مبان يمكن اعتبارها معابد. وتنعدم أسلحة الحرب بشكل واضح". (ف. جوردون تشايلد، التطور الاجتماعي، ترجمة لطفي فطيم، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1966، ص109) ومن الواضح أن مملكة الانكا الشيوعية في البيرو، لم تكن النموذج الاستثنائي في هذا المقام، فقد كان يوجد ما يشابهها في المكسيك وباقي مناطق أمريكا اللاتينية البكر، قبل الغزو الأسباني، في القرنين: الخامس عشر والسادس عشر. ففي عام 1840 ظهرت الترجمة الفرنسية لتقرير أصلي كان قد وضعه آلونزو زوزيتا الأمين السابق للمجلس الملكي في المكسيك، متحدثا فيه عن الإدارة والعلاقات الزراعية في المستعمرات الاسبانية الواقعة في العالم الجديد، مثبتا فيه تلك الحالة "المشاعية"، الغريبة بالنسبة الى هذه الادارة. وفي حوالي منتصف القرن التاسع عشر أخرجت الحكومة الاسبانية من أرشيفها عددا كبيرا من الوثائق، مما أكد على نحو قاطع صحة الكتابات التي وردت عن الوضع الاجتماعي "المشاعي" الذي ساد الحضارات القديمة في تلك البلدان، قبل الغزو الغربي الاستعماري الرأسمالي. وهو ما ساعد العالم الروسي مكسيم كوفالفسكي، في سبعينيات القرن التاسع عشر، على استنتاج أن "امبراطورية الانكا الخرافية في البيرو، كانت مجرد بلد تهيمن عليه تلك الشيوعية الزراعية البدائية التي كان فون مورر قد اكتشف وجودها، قبل ذلك لدى الجرمانيين القدامى. وأن هذه الشيوعية كانت مهيمنة، ليس فقط في البيرو، بل كذلك في المكسيك، وفي طول وعرض أمريكا اللاتينية التي غزاها الاسبان. (لكسمبورج، مرجع سابق، ص 25) وعلى ذكر مملكة الانكا ومناطق أمريكا اللاتينية، وما ذكر عن قرى البنجاب، فمن الواضح أن هذا النظام المشاعي قد عاش طويلا في كثير من تلك الأماكن المكتشفة حديثا، حيث واصل وجوده منذ فجر التاريخ، حتى تم اكتشافه على أيدي المستعمرين الاسبان، في أمريكا اللاتينية، ابان القرن السادس عشر. وعلى أيدي البريطانيين في الهند، ابان القرن التاسع عشر. وللتدليل، أكثر، على حقيقية وجود ذلك النظام، تورد روزا لكسمبورج خطابا أرسله مفوض جمع الضرائب الإنجليزي ويدعى (جيمس) من الهند الى رؤسائه في الإدارة الحكومية عام 1852، حيث يقول: "ليس بوسعي الغاء عادة تقليدية فريدة من نوعها حافظت على بقائها حتى الآن (يقصد عام1852) في مناطق معينة: وأعني بها التبادل الدوري للأراضي بين القرى وتوابعها. وفي بعض الأماكن لا يتبادل السكان سوى الحقول، أما في مناطق أخرى فانهم يتبادلون المساكن أيضا". (روزا لكسمبورج، المرجع السابق، ص 19 - 18) وهو ما يعني أن النظام المشاعي كان راسخا وقويا في نفوس ووعي شعوبه على نحو جعل هذا الموظف في موقف صعب ولا يقوى على الغائه. الديمقراطية في النظام المشاعيى البدائي يعتبر فردريك انجلز في كتابه التأسيسي "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" أن مشاعية زادروجا zadruga السلافية الجنوبية (في روسيا) أفضل مثال على نظام الوحدات العائلية المشاعية، ويبرر ذلك بقوله: "فهي تتضمن عدة أجيال من المنحدرين من أب واحد وزوجاته يعيشون معا في وحدة عائلية، والأرض الزراعية مملوكة للجميع على المشاع، وتأكل العائلة وتلبس من المخزن العام للعائلة ويعتبر الفائض عن حاجتهم في المخزن مملوكا للجميع. ويدير الوحدة العائلية رب البيت المسمى domecin والذي يمثلها في الأعمال الخارجية. (..) وينتخب رب البيت من بين أعضاء الأسرة وليس ضروريا أن يكون أكبرهم سنا." (فردريك انجلز، أصل نظام الأسرة والدولة والملكية الفردية، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2018، ص 38) وبعيدا عن فكرة من الأفضل والأقوى في هذه المشاعيات، فان ما يفيد في كلام انجلز، هو أن هذه الوحدة العائلية كانت تدار على نحو ديمقراطي، ففضلا عن انتخاب رب العائلة فان السلطة الكاملة لم تكن متركزة في يده، بل في "مجلس العائلة"، الذي هو عبارة عن: (يواصل انجلز..) "اجتماع لكل أعضائها البالغين من الرجال والنساء، ويقدم الرئيس لهذا المجلس حسابه، ويقوم المجلس باتخاذ القرارات الهامة". (انجلز، مرجع سابق، ص 39). وهو الأمر ذاته الذي اكتشفه مورجان لدى قبيلة الايروكيوس وهي من قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، والتي اعتبرها انجلز الشكل الكلاسيكي للسلالة الأصلية، بيد أنه خص بالذكر قبيلة السينيكا من بين هذه القبائل. وكان لهذه القبيلة (الأخيرة) ثمانية فروع رئيسية. وقد ساد بينهم نمط انتخاب الجماعة لزعيمها وقائدها الحربي في وقت السلم. ولم يكن لابن الزعيم الحق في وراثة أبيه في الزعامة (فقد كان الايروكيوس يعتمدون قاعدة الانتساب الى الأم والتي كان من الضروري أن تكون منتسبة، بدورها، الى سلالة أخرى. فلم يكن الايروكيوس وغيرهم في "المرحلة البربرية" يتزوجون من سلالتهم نفسها بل من سلالة مغايرة) لأن ابن الزعيم، بمقتضى هذا التقليد، لا ينتمي الى السلالة. بل كان الأخ أو ابن الأخت هو الذي يتم اختياره غالبا للزعامة. وكان الرجال والنساء على السواء يدلون بأصواتهم في الانتخاب، وكان يجب أن توافق الفروع السبعة الأخرى للقبيلة على اختيار زعيم كل سلالة. ويجب كذلك أن يقر المجلس العام لاتحاد "الايروكيوس" هذا الانتخاب. وعندئذ فقط يتم تنصيبه. وعلى الرغم من أن الزعيم كان يتمتع بسلطة (أبوية)، فان تلك السلطة كانت خلوا من أية وسيلة من وسائل الارغام. وكانت من حق أبناء السلالة عزل الزعيم والقائد الحربي. وكان على أعضاء السلالة أن يتبادلوا العون والحماية. (انظر: انجلز، أصل نظام الأسرة، مرجع سابق، ص 58 - 59) وعلى هذا، يمكن أن يمثل مجلس العائلة، هنا، نوعا من الديمقراطية الأولية أو البسيطة، والتي على الرغم من بساطتها، فقد تعد أكثر تقدما مما تلاها من الديمقراطية الأثينية، التي حرم على المرأة والعبيد حضور مجالسها. ولقد تعدت هذه الجماعة (العائلية) القرية الواحدة الى عدة قرى يقوم سكانها بالتبادل الطوعي للحقول والمساكن على نحو دوري (كل خمس سنوات) لكي يستفيد الجميع، وهو الأمر الذي تم اكتشافه لدى قرى البنجاب الهندية، دون اقتصار الملكية والانتفاع على شخص واحد أو حتى قرية واحدة. بل ان هذا النظام شمل، في بعض المناطق، شعوبا بأكملها مثلما ذكر المكتشفون عن مملكة الانكا (البيرو، حاليا) حيث كان الشعب يعيش "مشاعية شاملة"، خاضعة لسلطة ثيوقراطية وأبوية. على نحو فريد من نوعه في تاريخ البشرية، بحسب روزا لكسمبورج: "اذ تحقق فيها عمليا، الجزء الأكبر مما يحلم الاشتراكيون بشكل مثالي في زمننا الراهن، انما دون أن يتمكنوا من التوصل اليه على الاطلاق". (روزا لكسمبورج، مرجع سابق، ص24) لقد ساعدت هذه الاكتشافات في توجيه ضربة قاضية لهذا الزعم الأيديولوجي الرأسمالي بأزلية الملكية الخاصة، ومن ثم أبديتها. حسبما ورد في كتب الاقتصاد السياسي البرجوازي. (انظر: روزا لكسمبورج، مرجع سابق، ص45) وأنه في تلك المرحلة "المشاعية البدائية"، التي ظهرت في بداية الوجود الإنساني على الأرض، (واستمرت حتى وقت قريب في بعض مناطق أمريكا اللاتينية والهند كما اتضح قبل قليل) كان جميع الناس يملكون جميع الخيرات المادية، دون أن يستأثر بها أحد منهم على حساب الآخرين. نظرا للحاجة الى الجهد الجماعي، وعدم وجود فائض يمكن الاستئثار به. المشاعية البدائية في مصر أما مصر: فعلى حسب ما تم اكتشافه حتى الآن من برديات ورسومات تحتوي عليها الآثار المصرية القديمة، فهي اختلاف مع معظم المجتمعات السابق ذكرها. حيث يسجل التاريخ المكتشف أن الزراعة قد تزامنت مع الرعي في الظهور، فتم استئناس الحيوان وتربية الدواجن، بالتداخل والتوازي مع باقي ممارسات البحث عن الطعام. فلم يصبح الرعي حرفة ونمطا للمعيشة الا بعد أن تقدمت الزراعة وتقدم التحكم في الري والمجاري المائية. وذلك نظرا لندرة الأمطار وانعدام المراعي الطبيعية. ولذلك اعتمد الرعي على زراعة الأرض، التي يتم ريها على نحو فيضي. وهذا ما يؤكده أحمد صادق سعد، الذي يرى أن نمطي الزراعة والرعي ظلا متلازمين ومختلطين لفترة طويلة، مرجعا ذلك الى "بطء تقدم التقسيم الاجتماعي للعمل في المشاعيات المصرية. ثم أخذت تربية المواشي تتراجع شيئا فشيئا مع تحول الزراعة الى أن تصبح أسلوبا معيشيا رئيسيا، وأيضا مع تنامي عمليات استصلاح البراري والمستنقعات التي كانت تستخدم بوصفها مراعي، وبخاصة في الدلتا". (أحمد صادق سعد، في ضوء نمط الإنتاج الأسيوي، نشأة التكوين المصري وتطوره، دار الحداثة، بيروت، 1981، ص 22) ويؤيد هذا الرأي جوردون تشايلد في كتابه: "التطور الاجتماعي" قائلا: "وجمع الغذاء (في المراحل البدائية في مصر القديمة) (كان) يساوي الزراعة في الأهمية، بوصفه مصدرا للغذاء، وذلك في مرميدة والفيوم" (جوردون تشايلد، مرجع سابق، ص 167). فكل من الكاتبين يؤكد، من الناحية المبدأية، مرور مصر القديمة بالنظام المشاعي، ولكن جاء هذا النظام مختلفا، على نحو يتناسب مع الطبيعة النهرية، المحاطة بالصحاري الجافة، في هذا الاقليم. وقد أدى الاستقرار، بفضل الاكتشاف المبكر للزراعة الى إيجاد روابط محلية وإقليمية منافسة للروابط العائلية التي وجد على أساسها التكوين الأول للجماعة البشرية. ولعل هذا، على التحديد، ما جعل سكان مصر يتحولون الى شعب، وليس مجرد قبائل أو عشائر، في فترة مبكرة للغاية من التاريخ. وتوضح الآثار المكتشفة أن تلك النظم المشاعية (التي أرى أنه من الأليق هنا تسميتها ب "المشتركية"، نظرا لوجود نوع من التداخل بين الملكية الخاصة والملكية الجماعية والعمل الجماعي) كانت موجودة وبخاصة فيما يتعلق بأعمال تخزين الحبوب وأعمال تشييد المرافق العامة وإقامة الجسور. حيث يورد تشايلد ما يمكن حسبانه على أنه نوع من الملكية الجماعية لمحتويات مخازن الغلال، فيقول: "أن مخازن الغلال، في الفيوم، كانت توجد في مكان واحد أو مجتمعة بجانب الحقول على مبعدة من المساكن، ولكن في مرميدة كانت مخازن الغلال متجمعة في أفنية الأكواخ، كما لو كان انتاج الحقول تمتلكه عدة عائلات ملكية فردية (أي ملكية تخص الجماعة بأكملها). تشايلد، مرجع سابق، ص 172) كما أن ملكية الأرض لم تكن ثابتة ولا دائمة فيما قبل عصور الأسرات، يقول: "ولكن لما كان الفيضان السنوي يمحو كافة العلامات بين الحقول، كانت أراضي القرى يعاد توزيعها كل عام بين أسر المزارعين". (تشايلد، مرجع سابق، ص 172) بل ان أحمد صادق سعد يذكر أن العمل الجماعي (المشاعي) كان موجودا أيضا في مجال "اعداد الطعام" (أحمد صادق سعد، في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي، مرجع سابق، ص 23) وكانت الملكية العقارية للأرض والمياه والغلال كانت ذات طبيعة مشاعية بين أبناء "المشترك القروي". ولم يظهر التمايز الطبقي بين أبناء هذا المشترك الا مع التقدم التقني وارتفاع مستوى القوى الإنتاجية، مما أدى الى تكوين فائض يمكن تحويله الى سلعة، شأنه في ذلك شأن كل ما مر بنا من تحولات اعترت النظام المشاعي البدائي. ولقد ارتبط بهذا التطور ظهور بدايات التشكل السياسي والحضاري للحكم والسلطة في مصر القديمة. ويمكن القول بأن المشاعية بمعناها العام والمعروف في كل بلدان العالم، وجدت في مصر القديمة، بوجه خاص للغاية، ويكاد أن يكون استثنائيا. كما أنها كانت قصيرة العمر، على نحو لافت، بحسب ما وصلنا من معلومات تاريخية أثرية، حتى الآن. فنظرا للاكتشاف المبكر للزراعة والإنتاج الكبير الذي يفوق حاجة الأفراد. بدلا من القنص والالتقاط، لم تعمر المشاعية طويلا في مصر. وحل محلها ما يعرف باسم:"المشترك القروي"، والذي لا تزال بعض من بقاياه وآثاره قائمة حتى وقت قريب، في القرى المصرية الحديثة، تحت مسمى شعبي يدعى: "المزاملة". وهو مصطلح يفيد تضافر جهود جميع أبناء القرية في العمليات الزراعية الكبرى، مثل الغرس والحصاد وغيرها من الأعمال الحقلية، على نحو تبادلي. فيذهب كل (أو معظم) أبناء القرية القادرين على العمل، للفلاحة في حقل واحد الى أن يتم انجاز العمل المطلوب، ثم يتم الانتقال الى غيره، وهكذا دواليك. بالإضافة الى التجمع لانجاز الأعمال المشتركة في المرافق العمومية المتعلقة بالنفع العام، مثل تطهير القنوات وشق الخلجان وتمهيد الطرق والمدقات.. الخ. وذلك دون الاخلال بفكرة الملكية التي ترافقت وتوازت مع فكرة المشتركية. ويفرق أحمد صادق سعد في تطور "المشتركية" بين كل من: الدلتا، والصعيد. حيث بقيت قيم ومفاهيم المشتركية، حسب رأيه، أقوى ولفترة أطول في الصعيد، نظرا لطبيعة الأرض الصعبة، والضيقة، والأقرب الى الصحراء، فضلا عن ضعف قبضة مراكز الحكم والسلطة عليه، نظرا لوعورة الأرض وبعد المسافات. مما أدى الى استمرار الروابط العائلية، نتيجة لذلك، بصورة أقوى، واستوجب الحفاظ على استمرار التضامن فيما يتعلق بالأمن والحماية، والعمل الجماعي فيما يتعلق بواجبات الزراعة والري وباقي المرافق، على حد سواء. أما في الدلتا فقد كانت الأرض أكثر خصوبة وأسهل في الاستزراع، مما جعل من الممكن ظهور الملكية الفردية الأسرية على نحو أسبق. كما أن فوائض انتاجها الكبيرة ساعدت على تنشيط أشكال واسعة من التبادل فيما بينها، ومع الخارج. وقد ساعد على هذا التبادل مع خارج البلاد قرب التجمعات القروية في الدلتا من السواحل البحرية. ومن ثم ظهرت فيها المدينة مبكرا. (انظر: أحمد صادق سعد، في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي، مرجع سابق، ص23 - 24) بيد أنه من الضروري الإشارة أن كل أشكال الملكية الخاصة في مصر القديمة، منذ بداية عصر الأسرات، (حوالي 3100 قبل الميلاد، مع توحيد مينا للقطرين الشمالي والجنوبي) كانت تحت سيطرة المؤسسة الحاكمة (الدولة) التي ظهرت مبكرا للغاية عن معظم بلدان العالم وتواصل دون انقطاع، حتى مع تغير القوى الحاكمة (من ملوك مصر القديمة، الى اليونان، والرومان والعرب .. الخ). ويؤكد هذه الوضعية جوردون تشايلد قائلا: "ولكن في العصور التاريخية (التالية، ويقصد بها عصور الأسرات) كانت الأرض الصالحة للزراعة مملوكة لفرعون الذي كان يقطع الاقطاعيات بمن عليها من المزارعين، للأفراد أحياء وأمواتا" (تشايلد، مرجع سابق، ص 172) ويرى أحمد صادق سعد، أيضا. أن نظام الحكم في مصر القديمة، (بعد قيام عصر الأسرات) "قد قام مرتكزا على مستوى أكثر تقدما فيما يتعلق بالقوى الإنتاجية، مما كانت عليه الأوضاع في ظل المشاعية البدائية للقبائل الجوالة". (أحمد صادق سعد، في ضوء النمط الآسيوي للإنتاج - تاريخ مص الاجتماعي والاقتصادي، دار ابن خلدون، بيروت، 1979 ص40) بيد أنه من الملاحظ أن النقوش والبرديات المصرية القديمة تصور الرعاة بمظهر الأفراد الذين يبدون على هيئة أشخاص أقرب الى التوحش وقليلي الصلة بالحضارة والمدنية. ويبرر أحمد صادق سعد ذلك بأنه قد "يمثل نوعا من تقسيم قديم للعمل، نشأ تاريخيا بين شعبين مختلفين" (أحمد صادق سعد، في ضوء النمط الآسيوي للإنتاج، سابق، ص 40). فهل يقصد أن من كانوا يقومون بالرعي انما هم أقوام ينحدرون من أصلاب شعب آخر لا ينتمي الى المصريين الذين لم يعرف تاريخهم الا الزراعة والاستقرار؟؟ أعتقد أن هذه النقطة في حاجة الى قدر أكبر من البحث والتدقيق. وهو ما يجعلني أورد ما قدمه أحمد صادق سعد، هنا، بوصفه محض افتراض أو ترجيح. لقد ارتبط هذا التقدم الباكر الذي حققه النموذج المصري، منذ بدايات تكونه الأول(خمسة آلاف عام قبل الميلاد)، بنوع من التنظيم المتقدم للموارد البشرية، (الأيدي العاملة). أي بتقسيم اجتماعي بين العمل التنفيذي والعمل (الإداري). مما ضمن إنتاجية أعلى ووفرة نسبية للمنتجات. وساعد على ذلك قيام الحكم على أسس مركزية وسلطوية صارمة. فالدولة هي التي تنظم عملية الإنتاج، وتشرف على جمع المحاصيل، وتدير المخزون الغذائي، وتستخرج المواد الأولية من المحاجر والمناجم، وتشرف على التجارة الخارجية، وتقيم الطرق والقصور والمعابد والعواصم السكنية.. الخ. انحلال النظام المشاعي البدائي ولنلاحظ أن معظم هذه المشاعيات التي تم ذكرها، سواء في أمريكا اللاتينية أو الهند ومعظم بلدان العالم، قد تميزت بكونها مشاعيات أبوية (باترياركية)، أي أن الانتساب فيها كان يتم الى الأب وليس الى الأم، وهي تمثل تجليا للمرحلة "البربرية"، وتعد المرحلة الأرقى، قياسا بسابقتها التي تمثل مرحلة "الوحشية"، بحسب تقسيم مورجان الذي أقره انجلز. وهذه المرحلة الوحشية (الأمومية) هي ذاتها ما يسميه انجلز: "العائلة البونالوانية" التي كانت القاعدة السائدة فيها ترتكز على الانتساب للأم، ترتيبا على نوع من العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تسمى ب "المشاعية الجنسية". (وسنرى بعد قليل كيف أن هذه المشاعية الجنسية سيتم الاعتراف بها، بوصفها سمة رئيسية للمجتمع اليوتوبي، في كثير من الكتابات التي نسبت الى اليوتوبيا، وبخاصة في جمهورية أفلاطون). ويعد هذا الانتقال من "العائلة البونالوانية" (الأمومية) الى العائلة "الباترياركية" بمثابة تطور مهم في نظام القرابة لدى المجتمعات القديمة. الذي يعبر عن الانتقال من مرحلة الجمع والالتقاط الى مرحلة الرعي وتربية القطعان. لقد قام النظام الأبوي، بدوره، على شيوع الملكية. ويعد مرحلة انتقالية من النظام الأمومي (المشاعي الأول) الى "نظام الزواج الحديث" أي الزواج الفردي (رجل وامراة) 0(انظر انجلز، أصل نظام الأسرة، مرجع سابق، ص40) لقد انحلت مشاعيات الهند والبيرو وغيرهما، على أثر الضربات العنيفة التي تلقتها، بسبب الإجراءات القاسية التي فرضها كل من: الاستعمار الإنجليزي والاستعمار الأسباني. فظهرت ملكية الاقطاعيات الكبيرة، بينما تحول ملايين المزارعين الى مشردين ومرضى وجائعين. بيد أن عملية انحلال النظام المشاعي، في باقي البلدان، لم تتم، فقط، نتيجة لتدخل قوى أجنبية، ولكنها انحلت بسبب التطور الذي حدث داخل النظام المشاعي نفسه. عندما تمكن الانسان من تدجين وتربية الماشية وزراعة المحاصيل وقيام النشاط الاقتصادي المرتكز على فكرة التبادل بين القبائل، فالعمل الأساسي في كل ذلك كان يقع على عاتق الرجل، وعلى ذلك أصبح من الطبيعي أن الرجل يملك القطيع والسلع التي كانت تتم مقايضتها بالماشية. حيث ظهرت الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، لأول مرة. ففي حين كان الصياد والمحارب في عصر "الوحشية" قانعا بأن يشغل المرتبة الثانية في البيت، تاركا الرئاسة للمرأة، فقد اعتمد (الراعي) على ثروته من الماشية، للوصول الى (المركز الأول)، ودفع بالمرأة الى (المركز الثاني). ويعلق انجلز على هذا التحول بأن تطور تقسيم العمل في المنزل وخارجه، على هذا النحو الجديد قد أعاد تنظيم "توزيع الملكية بين الرجل والمرأة" (انجلز، أصل نظام الأسرة، ص 124) وعلى هذا الأساس تم القضاء على ما تبقى من انتساب الى الأم وجرى التوسع في تطبيق الانتساب الى الأب وأصبحت العائلة أبوية وتهيمن عليها القيم الذكورية بدرجة كبيرة. ثم جاءت الخطوة التالية التي قضت على عصر المشاعية البدائية تماما والى الأبد، ألا وهي الخطوة المتمثلة في اكتشاف معدن (الحديد)، أو ما يسمى في مجال الانثروبولوجيا ب "فترة السيف الحديدي". وهي الفترة التي ظهر فيها المحراث والسيف المصنوعان من معدن الحديد. وهي تعد خطوة ثورية بكل المقاييس، قياسا بظروف التطور في ذلك الزمان، وأقصد به "المرحلة العليا من البربرية"، بحسب تصنيف مورجان. فقد جعل الحديد زراعة الحقول ممكنة على نطاق واسع، كما مكن من قطع أشجار الغابات وجعل أرضها صالحة للزراعة، وظهرت الصناعات الحرفية على نطاقات أوسع.. الى آخر كل ما يمكن تصوره من تأثيرات أدى اليها استخدام الحديد. وأهمها ترسيخ النشاط الإنتاجي الزراعي، وما تبعه من استقرار في قرى. وهنا حدث ما يسميه انجلز ب "التقسيم الثاني الكبير للعمل" (التقسيم الأول كان التقسيم الى عنصري: الرعي والقنص، من ناحية، والعمل المنزلي، من ناحية أخرى)، فقد انفصلت الحرف الصناعية عن الزراعة، مما أدى الى ارتفاع قيمة العمل الإنساني وتبدي أهميته القصوى. وهنا أصبح الرق يمثل نظاما ضروريا لانجاز الأعمال البدنية الشاقة. كما أنه أخذ يمثل جزءا مهما للغاية في سلم النظام الاجتماعي، (لقد كان أسر بعض أفراد القبائل المعادية موجودا في المرحلة "الوحشية" السابقة، ولكن كان يتم قتلهم أو ضمهم الى السلالة واعتبارهم جزءا من الجماعة البدائية). (انظر انجلز، أصل نظام الأسرة، مرجع سابق، ص 125) أما في تلك المرحلة (مرحلة السيف الحديدي) فقد أصبح الاستعباد هدفا في حد ذاته، لتحقيق قدر أكبر من الكفاية الإنتاجية. لقد كان النظام المشاعي البدائي ضروريا لهذا المجتمع البشري الأول البسيط، خاصة، في تلك المرحلة الباكرة من مراحل التطور. حيث كان من المستحيل على أفراد الجماعة مواجهة هذا الواقع منفردين أو مبعثرين. ومن ثم، تعين عليهم التعاون في كفاحهم ضد الطبيعة في مختلف تفاصيلها وتحدياتها، بدءا من تحدي توفير الغذاء وصولا الى تحديات اعداد المأوى والحماية من أخطار الوحوش والكوارث الطبيعية المختلفة.. الخ. كما أن الاستغلال لم يكن موجودا في هذا النظام، ليس لأن الناس قد تخلوا عنه طواعية، بل انه لم يكن ممكنا. وذلك، نظرا لأن شخصا منفردا لم يكن يستطيع العيش وحده دون الحاجة الى الآخرين. بينما أمكن للاستغلال أن يوجد، فقط، عندما استطاع الفرد انتاج ما يكفي لتلبية حاجاته وحاجات آخرين، في الآن نفسه. وهذا هو الوضع الوحيد الذي يتيح إمكانية أن يعيش فرد أو مجموعة من الأفراد على حساب عمل باقي الجماعة. بينما كان هذا المجتمع في تلك الآونة المشاعية يدبر غذاءه يوما بيوم، ويتعامل مع المشكلات بطريقة لحظية. ولذلك كان البديل الوحيد المتاح هو التعاون وتقسيم العمل بحسب طاقات وقدرات كل فرد وما بلغه من عمر زمني، وما هو عليه من نوع (جندري). ومن هنا يمكن القول بأن هذا النظام قد ولد بطريقة طبيعية، أملتها ظروف الواقع الاجتماعي بامكانياته البدائية، وقتئذ. وأهمها، درجة تدني وسائل إنتاج الطعام. ولذا، فقد انتهى، أيضا بطريقة طبيعية، حيث تم: تدجين المواشي، واكتشاف المعادن، وتطور طرق الزراعة.. الخ. وما ارتبط بذلك من ظهور بعض الصناعات اليدوية البسيطة، مثل الأنوال اليدوية، والأدوات الزراعية، وغيرها، مما أدى الى تحقيق فوائض في الانتاج تفوق حاجات الفرد الأساسية، من طعام وأدوات. وهو ما ترتب عليه اتاحة الفرصة لظهور وضعية الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، ومن ثم، قيام المجتمع الطبقي. لقد أدى ذلك الاكتشاف للحديد وما تلاه من توسع في مجال الزراعة والصناعة الحرفية الى ظهور الحاجة الى أيدي عاملة أكثر، ولذا كان شن الحروب، أو القيام بخطف البشر (في أوقات السلم)، هما الطريقان المتاحان اللذان يمكن من خلالهما توفير هذه الأيدي، بهدف أسر عدد من البشر وتحويلهم الى عبيد، واجبارهم على القيام بالجهد الأكبر من العمل المطلوب إنجازه. فظهر "النظام العبودي". وفي تلك الآونة، ذاتها، وعلى ضوء تلك التطورات ذات الأهمية التاريخية المفصلية، بدأ تفكك النظام العشائري المبني على مفهوم القرابة، لصالح التجمع المحلي من المزارعين الذين كانت مصالحهم المشتركة أكثر أهمية، لديهم، من تقاليد قرابة الدم. ومن هنا، تراجعت الجماعة العائلية، لتفسح المجال الى الجماعة الجغرافية (أي الشعب)، وان لم تنته الجماعة العائلية، بصورة نهائية، بالطبع. ومع شيوع "الملكية الخاصة" للأرض الزراعية، وكانت هي وسيلة الانتاج الرئيسية، استقرت "العبودية"، بوصفها نظاما اجتماعيا وقانونيا. وجرى تصنيف البشر، حسب الوضع الطبقي الجديد، الى "سادة" و"عبيد". وانسحب هذا التصنيف على باقي أصناف النوع البشري، ليخلق تراتبية شاملة تشمل اللون، والعرق، والجنس (الرجل والمرأة). فارتبط النظام العبودي بالتعصب العرقي، والعنصرية ضد المختلفين في اللون، والاعلاء من شأن التفوق الذكوري. وعلى مدار آلاف الأعوام رزح الجزء الأكبر من بنى الانسان في هذه الظروف الاجتماعية - الاقتصادية القاسية، فكان مقدرا عليهم اما أن ينتموا الى أقلية تمارس السيادة والتسلط، أو الى أكثرية مستذلة، تقع تحت نير القهر والاستغلال. ومنذ ذلك الزمان لم يكف هؤلاء الكادحون عن الحلم بعالم يسوده العدل والمساواة، وتتحقق فيه الحرية والرفاهية للجميع. ------ ان ما جرى من استعراض وما انتهيت اليه من خلاصات يعني، بوضوح، أنني لا أتفق مع القائلين بأن مرحلة "المشاعية البدائية" تمثل "الفردوس المفقود" أو الحلم اليوتوبي الذي تسعى البشرية الى استعادته. فتلك المرحلة لم تكن، في الجوهر، اختيارا بشريا بل كانت واقعا أملته ظروف التطور السائدة في ذلك الزمن. وفي حين مر كل من كارل ماركس وفريدريك انجلز، بصورة عابرة، على تلك المرحلة في كتابهما: "الأيديولوجية الألمانية"، ولم يتوقفا كثيرا عندها، بوصفها المرحلة الأولى في تاريخ التطور الاجتماعي، فاننا نلاحظ أن روزا لكسمبورج قد أولتها اهتماما كبيرا واحتفت بها أيما احتفاء، وقامت بتفصيل الحديث عنها، واستجلاء مكوناتها أيما تفصيل، حتى أنها أفردت لها كتابا كاملا. فضلا عن العديد من المعالجات التي جاءت، لدى كثير من المنظرين الماركسيين، في سياق التعرف على مراحل تطور التاريخ الاجتماعي للبشرية وأظن أن هذا الاهتمام لم يكن، بأي حال، ناتجا عن الايمان بأنه النظام الأمثل للبشرية. كما أن أحدا منهم لم يقل بأن المشاعية البدائية تمثل النموذج المراد العودة اليه أو اقامته من قبل القوى الشيوعية واليسارية. وكنت لقد أوضحت، من قبل، أنه من الممكن تفهمه على أنه نوع من السعي العلمي (المرتكز على أدلة علمية، وليس المنطلق من الأيديولوجيا التي تحاول الانتصار لميل سياسي محدد)، لدحض الفكرة البرجوازية التي تبذل كل ما في وسعها لاثبات أن "الملكية الخاصة وحب التملك أمران تقرهما الفطرة الإنسانية"، وأن البشرية لم تعرف أي نظام خال من الملكية، على النحو الذي تم ذكره آنفا. وعلى الرغم من ذلك، فان ملمحا مهما ينبغي ايراده، في هذا المقام، ألا وهو أن معظم الأعمال التي قدمت نفسها تحت عنوان "اليوتوبيا"، انما قدمت نفسها بوصفها تدور في جزيرة بدائية منعزلة، يعيش بها أقوام في مراحل فطرية أولى، أو قريبة الصلة بتلك المراحل الفطرية. وتفسير ذلك، فيما أرى، يتمثل في عدة عناصر: أولا: أن هذه المرحلة لم يتم نسيانها، بالكامل، وان غامت بعض تفاصيلها. بل انها لا تزال قارة في أعماق الوجدان والوعي الجمعيين، على الرغم من مرور زمن طويل على انتهائها. ثانيا: أن هذا الحضور (أي عدم النسيان) انما ينم على الحنين الجارف الى تلك المرحلة، والحسرة على فقدانها، بوصفها اليوتوبيا المفقودة. ثالثا: ربما كان السبب في ذلك: الامتثال لنوع مما درجت عليه الشعوب والأفراد، على حد سواء، من عبادة الماضي والأسلاف. وافتراض أنهم يمثلون موجودات كاملة وخارقة. ومن ثم، العمد الى المبالغة وخلط الواقع بالخيال. فيؤدي الحنين للماضي الى طرح ذلك الماضي على نحو باهر، بما يجعله متفوقا بمراحل على طبيعته الواقعية ووضعيته التاريخية الحقيقية. ولقد سمي هذا العصر باسم "يوتوبيا العصر الذهبي"، من حيث افتراض وجود مرحلة باكرة من مراحل الوجود البشري، تتسم بالنقاء الكامل، "فلم يعرف فيها الانسان الشر أو الصراع أو الكراهية، مرحلة كانت تمثل بالنسبة للتطور الإنساني، مرحلة الطفولة الإنسانية. وتقترب هذه الصورة المثالية من من الأسطورة الدينية للفردوس(..) حيث كان الانسان والكائنات الأخرى يعيشون في حالة من السلام والحب المطلق". (د. حسن حماد، الخيال اليوتوبي، دار الكلمة، القاهرة، 1999، ص 76) ولعل ذلكم هو ما جعل هذا العصر ملهما لكل المفكرين اليوتوبيين والاشتراكيين الخياليين على حد سواء. ومن هنا، يمكن القول بأن "النظام المشاعي"، (الذي غلبت عليه صيغة "المشترك القروي"، الذي ساد في مصر بدرجة أوضح)، كان يعبر عن وضع اجتماعي شائع وأصيل وموغل في القدم، في كل المجتمعات البشرية. فهذا النظام لم يكن مقصورا على حالة استثنائية أو نادرة، تعبر عن خصوصية عرقية أو مناطقية، بل انه كان نظاما شاملا، وشكلا عاما من الملكية، ساد في مرحلة تاريخية مبكرة من مراحل تطور المجتمع البشري. وأن انحلال هذا النظام ارتبط بالانتقال من الصيد الى الرعي والزراعة واكتشاف معدن الحديد، من ناحية. كما أنه ارتبط بالتدخل البشري الاستعماري الذي أجهز على ما تبقى من هذا النظام لدى بعض الشعوب مثل البيرو في أمريكا اللاتينية، والهند في آسيا.
#صلاح_السروى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة فيما وراء وقف اطلاق النار في غزة - الحرب لم تتوقف
-
الصدام الجيوبوليتيكي الدولي على الساحة السورية
-
الأسباب الحقيقية للقضاء على النظام السوري
-
لماذا توقفت الحرب على ايران؟؟
-
تبعات الضربة الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية
-
الحرب على ايران ونظرية الأمن الاسرائيلي
-
هل تقضي الحرب الإيرانية الصهيونية على نظرية الأمن الإسرائيلي
...
-
تطورات مهمة تطرأ على الموقف الإيراني - النصر أو الموت
-
على مشارف الحرب العالمية - عملية ترميم نموذج -الأحادية القطب
...
-
لماذا نعتبر أن هذه الحرب حربنا؟؟
-
السيناريوهات المحتملة لمآلات الحرب الراهنة بين ايران واسرائي
...
-
الأزمة الأمريكية وأثرها على الأوضاع في الشرق الأوسط والعالم
-
اتجاهات البحث فى قضية الهوية المصرية
-
جذور الهوية الوطنية المصرية
-
العولمة والعولمة الثقافية
-
ثورة الثلاثين من يونيو فى مصر .. أهميتها ونتائجها التاريخية
-
دلالات مهمة لأحداث الانتفاضة الفلسطينية الحالية
-
ضرورة اعادة الاعتبار الى الهامش والمسكوت عنه
-
شعرية الهزيمة والرفض عند أمل دنقل
-
جورج لوكاتش - مشكلات نظرية الرواية
المزيد.....
-
كتاب: عندما كان لسان يسمى فرناندو. حياة مناضل أممي مغربي في
...
-
مكتب الشهداء والأسرى والجرحى في الجبهة الشعبية يدين بأشد الع
...
-
بيان منظمة البديل الشيوعي في العراق حول أحداث قرية لاجان وال
...
-
There They Go Again:
-
الفقراء يتحولون إلى موديلز في محلات الأثرياء الجدد
-
أحدث عاصمة شيوعية: ما اسمها؟ أين تقع وما الحقائق التي تميّزه
...
-
لمواجهة إستحقاقات القرار 2803، يؤكد المكتب السياسي على أهمية
...
-
“القضاء الإداري” تنظر طعن أهالي طوسون على إزالة منازلهم
-
Why Are We Failing to End One of Humanity’s Oldest and Most
...
-
Why CBC Needs a Co-op Revolution
المزيد.....
-
الإقتصاد في النفقات مبدأ هام في الإقتصاد الإشتراكيّ – الفصل
...
/ شادي الشماوي
-
الاقتصاد الإشتراكي إقتصاد مخطّط – الفصل السادس من كتاب - الإ
...
/ شادي الشماوي
-
في تطوير الإقتصاد الوطنيّ يجب أن نعوّل على الفلاحة كأساس و ا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (المادية التاريخية والفنون) [Manual no: 64] جو
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية(ماركس، كينز، هايك وأزمة الرأسمالية) [Manual no
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
تطوير الإنتاج الإشتراكي بنتائج أكبر و أسرع و أفضل و أكثر توف
...
/ شادي الشماوي
-
الإنتاجية ل -العمل الرقمي- من منظور ماركسية!
/ كاوە کریم
-
إرساء علاقات تعاونيّة بين الناس وفق المبادئ الإشتراكيّة - ال
...
/ شادي الشماوي
-
المجتمع الإشتراكي يدشّن عصرا جديدا في تاريخ الإنسانيّة -الفص
...
/ شادي الشماوي
-
النظام الإشتراكي للملكيّة هو أساس علاقات الإنتاج الإشتراكية
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|