أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بوبا حمن - مدخل عام إلى تاريخ الفكر اللساني عرضا ودراسة















المزيد.....



مدخل عام إلى تاريخ الفكر اللساني عرضا ودراسة


بوبا حمن

الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 15:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مدخل عام إلى تاريخ الفكر اللساني ( عرضا ودراسة)

ملخص:
تعتبر الدراسات اللسانية قطبا أساسيا في تشكيل التراث المعرفي والفكري للحضارة الانسانية لذلك، كان تاريخ الأمم السابقة حافل وغني بالدراسات اللغوية التي تبحث في ظاهرة اللغوية من وجهة الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية ، وقد التفت الانسان منذ القديم الأزل إلى الظاهرة اللغوية ، وطرح حولها عدة تساؤلات، مما أدى به إلى الوصول إلى حقائق عدة حول اللغة بشكل العام . ولهذا كانت الأمم القديمة اهتماهم باللغة لم ينقطع قط ، خصوصا المجتمعات التي كانت للغتهم علاقة مباشرة بالدين ، كالهنود باللغة السنسكريتية والأوروبيون باللغة اللاتينية واليونانية والعرب باللغة العربية .
الكلمات المفتاحية: اللسانيات ، التراث اللغوي، الخضارة، الهنود ، الإغريق، الرومان،
Résumé
Les études linguistiques sont considérées comme un pilier fondamental dans la formation du patrimoine cognitif et intellectuel de la civilisation humaine. Par conséquent, l histoire humaine est pleine et riche en études linguistiques du point de vue phonologique, morphologique, syntaxique et sémantique. Depuis l Antiquité, l homme s est tourné vers le phénomène linguistique et a posé plusieurs questions à son sujet, ce qui l a amené à arriver à plusieurs faits sur le langage en général. C est pourquoi l intérêt des peuples anciens pour la langue n a jamais cessé, en particulier les sociétés dont la langue avait un rapport -dir-ect avec la religion, comme les Indiens pour le sanskrit, les Européens pour le latin et le grec et les Arabes pour l arabe.
Les mots clés : la linguistique, patrimoine linguistique, la civilisation, les indiens, les romains , les grecs
مقدمة
يعد التفكير اللغوي من الأمور التي نالت عناية الشعوب القديمة، ويظهر ذلك في محاولة وضع تعريف للغة والبحث في نشأتها ، وتطورها وتعليل تعدد اللغات وما بينها من اختلاف والنظر في الأصوات واشتقاق الألفاظ، ووضع قواعد النحوية ، وغيرها. ومن أرقى أنواع هذا التفكير ،محاولة الانسان الأول تمثيل الكلمات الملفوظة برموز الكتابية . وقد نتج عن ذلك اختراع الكتابة التي تعد الوسيلة الأساسية في الحفظ المعارف والتراث الانساني من الفقدان والضياع.
يعرف الكون الذي يعيش فيه الإنسان ويحيط به أسرار كثيرة، ويقف الانسان باعتباره الكائن المتميز المفكر حائرا وباحثا عن تفسير عديد من الظواهر، ومن خصائص الطبيعة البشرية هو المحاولة المتكررة للبحث في حقيقة الآيات الكونية المتعددة المحيطة به. ومن أبرز الظواهر البشرية: ظاهرة « اللغة » التي يتقاسمها الناس جميعا، والتي تعد خاصية يتفرد بها الكائن البشري دون سواه. « ومن آياته خلق السموات والأرض والاختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعلمين «. والمتتبع للمسار التصور الحضاري الإنسانية تقود الباحث إلى أن تراث أمم السابقة مفهم بالدراسات الوصفية والتحليلية للظاهرة اللغوية في مختلف مستوياتها ، سواء كان: الصوتية أو الصرفية أو التركيبية (يُقصد بها النحوية) والدلالية. مرد هذا الاهتمام الكبير بالظاهرة اللغوية باعتبارها نظام تواصليا لجميع الفئات الاجتماعية محققا بتلك النزعة الاجتماعية، التي يتميز بها الانسان . لذلك أثارت الظاهرة فضول الفلاسفة والمفكرين منذ القدم بهدف الكشف عن جوهرها وحقيقتها . فهي آية من آيات الله في هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان.

1ــ فإذا تأمل الباحث، التراث الحضارة الهندية، يجد الدراسات اللغوية من أسس المعرفي للفكر الهندي. إذ نشأت هذه الدراسة وتطورت في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد على يد مجموعة من الباحثين على رأسهم. العالم اللغوي الهندوس " بانيني "Panini الذي يعد من الأعلام المدرسة الهندية القديمة . (أحمد حساني ، مباحث في اللسانيات. ، الجزائر ، 1999 ، ص ـ 02. )
يقول بلومفيلد : «يعد بانيني معلما من أعظم معالم الذكاء الإنساني » ( نعمان بوقرة ، محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة، منشورات جامعة باجي مختار ، عناية 2006 ـ ص 53.) بحيث قدم وصفا شاملا دقيقا للقواعد الصرفية والنحوية للغة السنسكريتية بوصفها من أقدم لغات الأسرة الهندو أوروبية ، وقد كان دافع الأساسي لهذا الزخم المعرفي هو وجود الكتاب المقدس لدى الهندوس الذي ينعت بالفيدا "vida" فقد كان مركز اهتمام الفكري اللغوي الهندي ، (أحمد عزور ، المدارس اللسانية، 2008، ص ـ31 ) . فالحضارة الهندية اهتمت اهتماما كبيرا بالظاهرة اللغوية ، ولا سيما في المستوى الصوتي الذي ينعكس النظرة العلمية الدقيقة للفعل التواصلي ، إذ وصفوا الأصوات وعينوا مخارجها وأعضاء النطق ووصلوا إلى تحديد مواضعا تحديدا دقيقا، فكانت دراستهم متنوعة وشاملة لمعظم جوانب علم الأصوات . (مرجع السابق ص 31ـ32.)
لقد درس الهنود الصوت وتجلى ذلك في أبحاث "بابيني" اللغوية التي أسهمت في تطوير المنهج العلمي لدراسة الأصوات في الثقافة اللسانية المعاصرة. درسوا الصوت المفرد و قسموه إلى علل، وأنصاف علل ، وسواكن . وقسموا العلل إلى علل بسيطة ومركبة ، وقسموا السواكن بحسب مخارجها.( أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب ، ص ، 56 ). وتواصلوا إلى اكتشاف الأصوات الانفجارية والفتح في انتاج أصوات العلة والتضييق في إنتاج الأصوات الاحتكاكية.( السعيد شنوقة ، مدخل إلى المدارس اللسانية، ص ،13 ).
وأما في مجال النحو، فقد اهتم الهنود بهذا المجال اهتماما وافرا من خلال ما توفرت عليه من مدارس نحوية مختلفة، وأكثر من ثلاثمائة مؤلف في النحو. ومن مألفين في النحو، يوجد بانيني إمام النحو الهندي و يمثل مرحلة النضج في الدراسات النحوية عند الهنود ، ولذلك كتابه " الأقسام الثمانية " نالت شهرة واسعة غطت على أي مؤلف آخر . وقد عبر العالم اللغوي الأمريكي بلومفيلد على نحو بانيني بقوله : « إن نحو بانيني يعد واحدا من أعظم الشهادات القديمة على تقدم العقل البشري» ( نعمان بوقرة ، محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة ، ص 53 ـ 54 ).
بدأ النحاة الهنود يفكرون في المسائل اللغوية قبل نظرائهم الإغريق بحقبة الزمنية طويلة ومع هذا فقد اتسمت به أعمالهم بالدقة والموضوعية، وتواصلوا إلى نتائج تشبه إلى حد بعض نتائج اللسانيات الحديثة وبخاصة في مجال الصوتيات.( أحمد مؤمن ، اللسانيات نشأة والتطور ، ص ، 11 ).
وقد اهتم الهنود للنحو لأنه الوسيلة الوحيدة التي تقوم الألسنة وتحفظ كتبهم المقدسة من الانحراف ، هذا ما ذكره العالم اللساني العربي أحمد مختار عمر في إحدى مؤلفاته: « إن الماء أقدس من شيء على الأرض والكتب المقدس أكثر قداسة من الماء ولكن النحو أكثر قداسة من الكتب المقدسة». (أحمد عزوز، المدارس اللسانية ص 78).
ولقد ذكر الدكتور سعيد شنوقة في كتابه " مدخل إلى المدارس اللسانية " أهم مميزات النحوي الهندي على النحو التالي :
ـ البدء بجميع المادة اللغوية و تصنيفها ثم استخلاص الحقائق منها مخالفين في هذا اليونانيين الذين بدأوا من الفلسفة وحاولوا تطبيق القواعد الفلسفية على حقائق اللغة .
ـ أنه سبق النحو اليوناني في تحديد أقسام الكلام : (اسم ـ فعل ـ حرف ـ إضافية ـ أدوات ).
ـ حلل هذه الأقسام إلى عواملها الأصلية ، فميز بين الجذر والأصل ، وبين الزيادة أو الخرف التشكيلية.
ـ عرف النحو الهندي الأعداد الثلاثة ( المفرد ـ والمثني ـ والجمع ).
ـ قسم النحو الهندي الفعل السنسكريتي إلى ثلاثة أقسام بحسب الزمن وهي : الماض ـ وحاضر ـ ومستقبل.
وقد نالت المعاجم اهتمامهم قوائم تضم الالفاظ الصعبة الموجودة في نصوصهم المقدسة والذي تطور لشرح منى كل لفظ في القائمة ويعد عملهم هذا من قبيل: «معاجم الموضوعات" و " معاجم المعاني".( سعيد شنوقة ، مدخل إلى المدارس اللسانية، ص، 14).
لقد اهتمت الهنود اهتماما لا مسيلة له بالظاهرة اللغة، فوفرت بذلك التراث اللغوي ضخم في جميع مستويات اللغة (صوتي، الصرفي ، النحوي ، الدلالي). وكان التركيز بخاصة على المستوى الصوتي ، الذي أخذ بعده العلمي في بحوث العالم اللغوي الهندي المذكور سابقا " بانيني " ، تلك البحوث التي أسهمت في تطوير أدوات المنهج العلمي لدراسة الأصوات في الثقافة اللسانية عبر مسار تشكلها. وينتقل الحديث عن الإنجازات الفكرية في الحضارة اليونانية .

2ــ والحضارة اليونانية كغيرها من الحضارات لها رصيد معرفي رائد في مجال الدراسات اللغوية فقد اهتم اليونانيون القدامى بالظاهرة اللغوية بكل مستوياتها، منها ما هو الصوتي منها ما هو الصرفي ومنها ما هو التركيبي ومنها ما هو الدلالي. (أحمد حساني مباحث في اللسانيات ص،38).
كما ذكر الباحث فيما سبق أن الإنسان منذ القديم اهتم بالظاهرة اللغة، وضرب حولها تساؤلات كثيرة، رغبة لكشف عن جوهرها و حقيقتها. كذلك الفلاسفة اليونانيون اهتموا بها.
تعد المناقشات التي أثارها الفلاسفة الإغريق ذات أهمية خاصة ، لأنها مهدت الطريق لمناقشات أخرى تالية ، فقد تساءلوا عدة تساؤلات منها : ماهي اللغة ؟ ما هو أصلها ؟ ما هي الكلمة ؟ هل اللغة شيء فوق طبيعة تلقاها الإنسان من ربه؟ هل هناك علاقة بين الدال و المدلول ؟... وقد تساءلوا عدة تساؤلات أخرى كثيرة توضح الجانب الذي يوحي بأنهم أهل فلسفة أكثر من أنهم أهل دين.( محمود سعران ، علم اللغة ، ص،24 )
إن أول إنجاز في اللسانيات عند اليونان يعود إلى الألف سنة الأولى قبل الميلادي ، بحيث قاموا بتصميم نظام حروف الأبجدية لكتابة اللغة اليونانية وقد صار هذا النظام أساس الحروف الأبجدية اليونانية للغة أثينا الكلاسيكية واللهجات الأوروبية الاخرى. ( شرف الدين الراجحي ، مبادئ علم اللسانيات الحديث، ص 30 ).
إن المعرفة اللسانية في تلك الفترة اقتصرت على معرفة الكتابة والخط ، وليس أدل على ذلك من كلمة غراماتيكوس "gramatikos" التي كانت تدل في مبادئها على العارف بالخروف فهما واستعمالا. وهي تدل كذلك على أن أول عمل لغوي علمي في اليونان كان تطور واستعمال الكتابة .(المرجع السابق ص 31).
أما النظر في اللغة فقد ظهر مع سقراط و البلاغيين الأوائل ولعل أهم الآثار الباقية محاورات الأفلاطون التي سبقت ذكرها ، التي خصص جزءا منها القضايا اللسانية بوصفها جزءا من الأسئلة الفلسفية الوجودية .( نعمان بوقرة ، محاضرات في اللسانية المعاصرة ، ص 57). وكذلك أعمال أرسطو التي تضمنت رصيدا معرفيا في مجال الدراسات الصوتية ، وهو الرصيد الذي يدل على وعي عميق بالقيمة العلمية للتحليل الصوتي (أحمد حساني ، مباحث في اللسانيات ص 60). وتبدو القيمة العلمية للتراث اللغوي اليوناني في البحوث التي قدمها: أفلاطون (428 ق.م ـ 348ق.م)، وأرسطو ( 348 ق.م ـ 322 ق.م )، و المدرسة الرواقية ( 300 ق.م ).( سعيد شنوقة ، مدخل إلى المدارس اللسانية ص ، 14 ).
ويعد أفلاطون أول من فرق بين "الاسم والفعل" وقدم تقسيما ثلاثيا للأصوات : أصوات العلة ـ والأصوات الساكنة المجهورة ـ والأصوات الساكنة المهموسة. وقد أقر أرسطو تقسيم أفلاطون للكلمة إلى : " اسم ـ وفعل " وأضاف إليها قسما ثالثا سماه: " الرابطة ".( هنري روبنز، موجزة تاريخ علم اللغة في الغرب ، ص ، 40 ).
وأنتج اليونانيون في مجال المعاجم عددا ضخما منها ، كانت القرون الأولى بعد الميلادي تمثل العصور الذهبية لهذه المعاجم بخاصة في الاسكندرية نذكر من أشهر معجم" أبو قراط Hippocrate " ألفه عام 180 ق.م ، وهو معجم ألفبائي.( أحمد مختار عمر ،البحث اللغوي عند العرب ، ص، 61 ).
وحوالي القرن الثاني قبل الميلادي توجد المدرسة الرواقية كاتجاه الفلسفي رائد بآرائه المتميزة في البلاغة ، والفلسفة ، وكان منهجهم الجدلي مبينا على اللغة ذاتها ، فالمدرسة الجدلية الفعالة تبدأ من الجزء الذي يبحث في الكلام وميزوا في اللغة بين الصيغة والمعنى وهو تمييز يقارب ما ذهب إليه فرديناند دي سوسير حديثا في تفرقه بين الدال والمدلول. (المرجع السابق ص 57).
ويرى الباحث أن اسهامات العلمية للفلاسفة اليونانيين في مجال البحث اللغوي لا يمار فيها مرار ولا ترد. بل إنها كانت أساسا ومحورا ثابتا في بناء حضارتهم ورموز الكتابية المستخدمة حتى في هذا الزمن. إذا فماذا عن التراث اللغوي الروماني؟
3ــ الجهود اللغوية للرومان:
أخذ الرومانيون عن الإغريق ، وتأثروا بمنجزاتهم اللغوية « حيث وصل علم النحو اليوناني إلى الرومانيين في القرن الثاني قبل الميلاد وتحديدا عام ( 167ق م ) بواسطة اللغوي ، اليوناني "كراتيس" صاحب مدرسة "بيرغام" اللغوية. ولكن الرومانيين أضافوا بعض القضايا الإعرابية إلى لغتهم. وأظهروا اهتماما واضحا بالبلاغة وأدخلوا إلى لغتهم أسلوب النداء».
4 ــ التراث اللغوي العربي:
ومع ظهور الإسلام لم يكن البحث اللغوي عند العرب من الدراسات المبكرة التي خفوا لها سرعا. لأنهم وجهوا اهتمامهم أولا إلى العلوم الشرعية والإسلامية وحينما فرغوا منها اتجهوا إلى العلوم الاخرى. ( أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب ، 1988ـ ص 79)
ويقول إمام السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء:
« منذ منتصف قرن الثاني الهجري بدأ علماء المسلمين يسجلون الحديث النبوي ويؤلفون في الفقه الإسلامي، والتفسير القرآني، وبعد أن تم تدوين هذه العلوم، اتجه العلماء وجهة أخرى نحو التسجيل العلوم غير الشرعية ومن بينها اللغة والنحو.» (أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب، ص 79 ـ 80) .
نشأة اللغة العربية ضعيفة المحدودة في ألفاظها وتصاريفها ، لأن مظاهر الحياة آنذاك كانت محدودة ، وفي غضون قرون العديدة تشعبت حاجات أهلها وكثرت متطلباتهم تبعا لنموهم المطرد ، وتنقلاتهم في مواطنها ، وهذا يدعو إلى ابتكار لغوي جديد يعبر عما يريدون من رغبات، فكثرت الألفاظ والتصرفات اللغوية ، التي أخذت صورة التعدد اللهجي والتنوع في العادات الكلامية ، ولهذا تكون اللغة قد دخلت مرحلة متقدمة من النضج والكمال.(عبد الغفار حامد هلال ، العربية خصائصها وسماتها، 1990، ص ـ171).
ثم كان القرآن الكريم حدثا خطيرا في حياة اللغة ، إذ قام بتوجيهها إلى أن تكون لغة فكر ، وواقع ،ومستقل ، وأداة تعبيرية عن منجزات الحضارة العربية الاسلامية ، لقد تضمن لها البقاء حتى غدا ، هذا البقاء مظهرا للمعجزة البيانية ، عاشت اللغة العربية قرابة ألف وخمسمائة سنة وهي تؤدي مهمتها على نحو متحرك تجاوبت فيه من الزمن والتطور بين اللغات السامية .(أنور الجندي، اللغة العربية بين حياتها وخصومها ، ص ـ 3).
ولعل أهم الدراسات المبكرة التي أولت عناية للغة العربية من حيث هي كائن اجتماعي متطور تلك التي تبناها الغربيون في أواخر القرن التاسع العشرة وبداية القرن العشرين ، في هذا المقام فهي كلها تندرج في سياق الاعتراف بعبقرية اللغة وقدرتها على مواكبة الحديث الحضاري ،
فارنست رينان يقول في كتابه «تاريخ اللغات السامية»:
«من أغرب ما وقع في التاريخ البشر وصعب حل سره ، انتشار اللغة العربية ،فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء ، فبدأت فجأة في غاية الكمال ، سلسلة أي سلاسة ، غنية أي غني ، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أي تعديل مهم ! فليس لها طفولة ولا شيخوخة !!! فظهرت أول أمرها مستحكمة ، ولم يمض على سقوط الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري ، عند أمة من الرجل ، تلك اللغة فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها ، وحسن نظام معانيها ».( المرجع السابق، ص ـ 25 )
أما فرينباغ فيذهب في معجمه الكبير إلى أن اللغة العرب ليست أغنى اللغات العالم فحسب .
ويقول : "ورل" المستشرق الأمريكي ومدير مدرسة المباحث الأمريكية في القدس :
«إن اللغة العربية لم تتقهقر فيما مضى أمام أي لغة الأخرى من اللغات التي احتكت ها وينتظر أن تحافظ على كيانها في المستقبل كما حافظت عليه في الماضي ، وللغة العربية لين ومرونة يمكننا بها من التكيف وفقا لمقتضيات هذا العصر.» (المرجع السابق، ص ـ 27 ـ 28 )
وقد نشأت الدراسات اللغوية العربية في رحاب التحول الفكر والحضاري الذي أحدثه القرآن الكريم في البيئة العربية انطلاقا من الشعور بالمعجزة البناء اللغوي على المستوى التركيبي والدلالي ( أحمد حساني مباحث في اللسانيات ، ص، 61) . لذلك درس العلماء العرب اللغة وألفوا كما هائلا من الأعمال والكتب والرسائل والمؤلفات دفعهم الرغبة في الحفاظ على اللغة العربية الفصحى باعتبارها الوعاء والقالب للقرآن الكريم من أن يصيبها اللحن والانحراف ، وبحاصة بعد أن انتشرت الدين الاسلامي في انحاء الدنيا ، وانضمام الناس إلى دين الله أفواجا .
واللغة باعتبارها كائن حي يؤثر فيها غيرها من اللغات، وتتأثر بها أيضا فخشي العلماء عليها من أن تتحول بفعل التأثير والتأثر ، كما كانت الرغبة القوية لدى الأمم الذين اعتنقوا الدين الاسلامي في تعلم اللغة العربية ليتمكنوا من أداء العبادات باللسان العربي المبين، وكانت هذه الرغبة دافعا قويا في إقبال العلماء على دراسة اللغة العربي ( حسان البهنساوي ، التراث اللغة العربي ، وعلم اللغة الحديث 2004 ص ـ 05 ـ06)
إن البحث اللغوي العربي قد تنوع و تعددت جوانبه فقد اهتموا بالأصوات والنحو والصرف والمعجم لذلك فإن أقل إلماما بالرصيد اللساني في التراث العربي يدرك أن الجانب الصوتي قد حضي باهتمام خاص لدى الدارسين الأقدمين على اختلاف توجيهاتهم العلمية ( أحمد حساني، مباحث في اللسانيات ، ص ـ 61) لدرجة التي جعلت المستشرق الألماني برجستراسر يصرح بقوله : « لم يسبق الأوروبيين في هذه الدراسة ( أي الأصوات ) إلا قومان ، العرب والهنود». ( حسان البهنساوي، المرجع السابق، ص 6)
وقد تميزت الدراسات الصوتية عند العرب بسمات وخصائص جعلتها تتخذ مكانة مرموقة ، فلقد أحاطت هذه الدراسات بأصوات اللغة العربية الفصحى ولهجاتها المختلفة وصفا عضويا دقيقا على المستوى النطقي ، والسمعي ، فتحدثوا عن مخارج الأصوات ومداخلها، كما تحدثوا عن صفاتها المتنوعة التي تصاحب الأصوات عند نطقها ، ويتجلى ذلك فيها صنعه الخليل في كتاب" العين " لسيبويه، والمبرد وابن جني وغيرهم كما كانت لجهود كل من ابن سينا والفاربي أثر واضح في دراسة الأصوات العربية دراسة تجريبية فيزيائية.( أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب ، ص ـ 94.)
كما أجاد العلماء العرب في دراسة ما يطرأ على الاصوات العربية من تغيرات بسبب وجودها في السياق ، من إدغام ، وإقلاب ، وغيرها من التغيرات التي يطلق عليها في الدراسات الصوتية الحديثة ، بالدراسة الفونولوجية.
أما فيما يخص بالدراسات الصرفية والأبنية فقد نشأت عندهم بحوث الصرفية وبحوث في اشتقاق وأبنية الصيغ وأو زانها وغير ذلك . ويمكننا القول أن دراسات العرب في هذا المستوى تماثل ما يطلق عليه الدراسات اللغوية الحديثة بالبنيوية الوصفية لبلومفليد والمنهج التقابلي. ( حسان البهنساوي ، التراث اللغوي العربي وعلم اللغة الحديث ص ـ 57 ).
أما في مجال الدراسة النحوية ، فقد بلغت هذه الدراسات عند العرب شأنا كبيرا، بحيث ظهرت مدارس واتجاهات كمدرسة البصرية، والكوفية ، والمدرسة البغدادية ، والمصرية والأندلسية . ومن هنا يوجد مؤلفات نحوية هائلة وهي تمثل أساسا قويا في الحفاظ على اللغة العربية. ( أحمد مؤمن ، اللسانيات نشأة والتطور2005، ص ـ 39).
أما الدراسات العلماء العرب في مجال الدلالة والمعجم فإنها تشهد على قدرتهم على استيعاب مفاهيم هذا المستوى اللغوي، فقد امتد البحوث الدلالية العربية من القرن الثالث والرابع والخامس الهجري إلى سائر القرون لها. وهذا التاريخ المبكر إنما يعني نضجا أحرزته اللغة العربية وثقافتها. (فايز الدابة ، علم الدلالة ـ ص ـ 6).
فقدا هتموا بالظواهر اللغة كالترادف ، والمشترك اللفظي ، والاضداد ، والمعرب ، والدخيل ، وغير ذلك من القياس واشتقاق وكذلك اهتموا بالحقيقة والمجاز ودرسوا كثيرا من الأساليب كالأمر ، والنهي ، وتعد نظرية الجرجاني بؤرة الدرس الدلالي العربي. ( نعمان بوقرة ، محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة، ص ـ 35).
إن هذه الاتجاه والجهود التي قدمها علماء العرب القدامى دليل على أن الحضارة العربية الإسلامية لم تكن أقل شأنا من سواها في رحاب النشاط اللغوي بخاصة.
من خلال مما سبق يستطيع الباحث أن يقول إن الرقي الذي بلغه الفكر العربي في مجال الدراسة الصوتية منذ القرن الثاني للهجرة جعل بعض الباحثين الغربيين يفترض وجود اقتباس واسع عن حضارات سابقة تتمتع بمفاهيم لغوية متطورة ، كالحضارة اليونانية والهندية ، وفي هذا السبيل حاول الباحث «فولرز» تبيين بعض النقاط التقاطع بين جهود " بانيني " في مجال الراسات الصوتية والعلوم الصوتية العربية التي أنشأها الجيل الأول من النحويين العرب أمثال الخليل ، و أما «بركلمان» فقد رفض هذا الرأي القائل بتأثر العرب بالدراسات النحوية والصوتية للحضارات القديمة ، واعتبر وجود علم الأصوات عند العرب ظاهرة قائمة بذاتها.( أحمد حساني مباحث في اللسانيات، ص ـ 65 ).
وخلاصة القول : فإن الدراسات النحوية العربية قد بلغت إلى المستوى علمي رفيع ونضج فكري مستنير ، لقد جمعت بين النقل والعقل والوصف والتحويل ، وهناك مظاهر عديدة تناولها العرب بالدراسة المستفيضة ، ولم يتطرق إليها علماء الغرب إلا في قرن العشرين ، قد شملت هذه الدراسات ميادين عديدة منها المورفولوجيا، والتركيب ، والدلالة ، والصوتيات ، وصناعة المعاجم.
وهذا لا يعني أن كل الدراسات اللغوية العربية لم يعتبرها أي ضعف أو خلل ، وكما يقول الدكتور أحمد مختار عمر في كتابه " البحث اللغوي عند العرب:" على الرغم مما شاب النحو العربي من شوائب، وما واجه إليه من نقد ، فلا يستطيع أن ينكر قديمة العربي ومقدرة النحاة الفائقة التي تصل أحيانا إلى حد الإعجاز.

خاتمة:
إن مظهر عناية الإنسان باللغة قديما تتجلى في محافظة على التسجيل والتدوين واصطناع الرموز الكتابية ، فالذين اخترعوا الكتابة هم في الحقيقة أكبر اللسانيين بل هم الذين ابتدعوا اللسانيات ، وقد ظهرت هذه العناية على ايدي المصريين القدامى ، حين عبروا عن المعاني بالصور المنقوشة على الحجر ، وتسمى الكتابة التصوير الرمزية للمعاني ، ثم جعل الفينيقيون بعد ذلك لكل شكل صورة له ، وهذا منذ زمن يزيد عن ثلاثة آلاف سنة قبل الميلادي ، ويعد هذا الاختراع امتداد للتطورات التي مست الأنظمة الكتابية على مدى قرون تعاقبت فيها الحضارات في بلاد الرافدين ، وهكذا خرجت إلى الوجود الكتابة الأبجدية التي انتشرت في أكثر أنحاء العالم مثل الهنود ، اليونان والعرب وغيرهم.

المصادر والمراجع:
1. أحمد حساني ، مباحث في اللسانيات. ، الجزائر ، 2013م
2. نعمان بوقرة ، محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة، 2006م
3. أحمد عزور ، المدارس اللسانية، 2006م
4. سعيد شنوقة ، مدخل إلى المدارس اللسانية،2011م
5. أحمد مؤمن ، اللسانيات نشأة والتطور ،2008م
6. محمود سعران ، علم اللغة ،
7. شرف الدين الراجحي ، مبادئ علم اللسانيات الحديث،
8. هنري روبنز، موجزة تاريخ علم اللغة في الغرب ،
9. أحمد مختار عمر ،البحث اللغوي عند العرب
10. أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب ، 1988
11. عبد الغفار حامد هلال ، العربية خصائصها وسماتها، 1990
12. أنور الجندي، اللغة العربية بين حياتها وخصومها ،
13. حسان البهنساوي ، التراث اللغة العربي ، وعلم اللغة الحديث 2004
14. فايز الدابة ، علم الدلالة






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاريخ الفكر اللساني: قراءة عامة ودراسة منهجية


المزيد.....




- فقمة صغيرة تتجول في حانة.. شاهد ما رصدته الكاميرا
- مودي باستقبال بوتين: الهند ليست محايدة وتقف إلى جانب السلام ...
- كيت ميدلتون تتألق بتاج تاريخي في مأدبة رسمية للرئيس الألماني ...
- تفاصيل مقتل ياسر أبو شباب في غزة.. إليكم ما نعلمه عن الحادثة ...
- تبدّل في آراء الإسرائيليين.. استطلاع رأي يظهر توزيع المقاعد ...
- إسرائيل يجنّ جنونُها
- عصفورة يتقدم على نصر الله بفارق ضئيل في رئاسية هندوراس
- إيكونوميست: -كذبة- الأسد لم تتحقق والفترة الانتقالية بسوريا ...
- صحف عالمية: تزايد المخاوف في غزة من تهجير قسري تريده إسرائيل ...
- بريطانيا تنهي مراجعة قضائية لقرار حظرِ حركة -فلسطين أكشن-


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بوبا حمن - مدخل عام إلى تاريخ الفكر اللساني عرضا ودراسة