أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسين الداغستاني - وطن الأوجاع الأليفة














المزيد.....

وطن الأوجاع الأليفة


محمد حسين الداغستاني
صحفي وشاعر وناقد


الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 14:03
المحور: الادب والفن
    


عندما يتغلغل الحزن عميقاً في زوايا الدار ، يأنس الإنسان إليه طوعاً ، ويستكين إلى وقعه اليومي الآسر ، فيغدو الوقت مجرد فسحة للتوقعات المبهمة واحلام اليقظة ، بل ويتجرد من سمته التقادمية قبل أن يتحول إلى غول ينهش الحنايا ببطئ أليم ، محرقاً الأضلاع ، فاقداً الإحساس بالموجودات . إلاً أن المأساة آنذاك تكون قد تجاوزت مساحة البيت إلى خارج الذات ، الى فضاء الوطن الواسع ، فيضج بالوجع والانتظار الممل ، وترى شفاه الناس المتيبسة من حوله تتمتم بالصلوات والرجاء المتطلع إلى منحة ربانية يعيد للزمن رتابته ، وهدوءه ، وأمانه المفتقد !
ليس من الضروري الاستعانة بفخامة الكلمات المنتقاة و الجمل القصيرة الفضفاضة ، فلقد كان دستويفسكي مسرفاً في توظيف الكلمات البسيطة في الظاهر ، لكنه كان يحقق في سياق السرد بُنيةً لغوية متماسكة في التداخل والتعقيد ، ويجعل الأشياء العادية مرئية وموحية وصادمة تمهيداً لتثبيت تجربةٍ مذهلة تضج بالمشاعر والحزن والأسى ، وهكذا يحذو الشعر الحديث بل والادب عموماً حذوه أو على مثيله، و يشكل الشاعر عبدالحميد صافي العاني نموذجاً لهذا التوصيف ، فقد بدا واضحاً في نصوصه المتأخرة بأن العاطفة والود والتغزل بالحبيبة لم تعد تشكل محاور نصوصه المجروحة .
لا شك ان الحزن في حياة العاني طارئ وجديد ، وأضحى يمور بين نصوصه الشعرية نتيجة إختفاء نجله الكبير بعد إنتزاعه عنوةً من قبل مجاميع مسلحة ربما بسبب إسمه أو كنيته أو اللهجة التي يتكلم بها أو لأي سبب لا يبرر قساوة الفعل ، فأشعلت بذلك نارا متقدة لا تخبو في الأفئدة ولا تلين في أروقة الدار الموجوعة فظل الوالد كما كان والد يوسف ينتظر منذ سنوات من ينقذ فلذة كبده من غياهب الجب المجهول بل ومن يجلب له خبراً يريح النفس :

اشتعلت بك.
كما يشتعل حجر في بئر قديم.
لا ماء فيه ولا نجاة.
أنت الغائب
وقميصك الريح.
إرسله فيصير العمى شجرة تثمر عيوناً جديدة.
أنا الذي فقد وجهه في المرايا
وأنا الذي ينتظر ظلك
على حافة لغة لا تُقشر .
يوسف لم يأت.

وكرد فعل طبيعي أصبح العاني يدرك بأن المعضلة ليست شخصية ، وأن هناك اسباباً موضوعية تتصل بالوطن وما تعج به من أحداثٍ مؤلمة ومشكلات ذاتية ، ثم أن الحدث لم يضحى فريداً بل تجلى في ظاهرةٍ تعصف بكيان الآف المكلومين حوله وهي دون أدنى ريب تنتظر بديلا ً يمنح الناس الأمان المفتقد :

لا تُناديني بوطنٍ
إن كان سقفه من خوف،
وأرضه من رماد،
وأطفاله يولدون
وفي أفواههم كمامات الصمت.
أنا لستُ ابنَ الحدود المرسومة بالدم،
ولا ابنَ النشيد المعلّب في الصباح،
أنا ابنُ الشوارع المكسورة،
والأحلام المهاجرة،
والعصافير التي ترفض
أن تغني في قفص.
لن أرفع الراية إلا إذا كانت
من قماش الحقيقة،
ولن أصفق إلا لريحٍ
تقتلع العروش
وتزرع مكانها حقولاً من العدالة.

من المؤلم حقاً أن يشعر المرء بالغربة في وطنه بعد المجريات التي هدّت كيانه واستقرار اسرته واشاعت الغموض في الآت من الزمن القاتل فغدت الموجودات ادوات رعب وتحسب وحذر ، فيتلفت حوله بغرابة هل هذا هو الوطن كما عرفه منذ ولادته ؟ وصدق أبو حيان التوحيدي حين قال : (أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه ) فيضطر أن ينضم الى سرب المغادرين ويحمل حقيبته باحثاً عن ملجأ بعيد . وهذا ما إختاره العاني ، لكن البديل لن يكون وطناً ابداً :

في المطارات،
كنا نطيرُ بلا أجنحة ،
وتُفتَّشُ أرواحُنا كما تُفتَّشُ الجيوب،
ثم نُختمُ بختمٍ بارد،
كأننا طرودٌ فقدت عنوانَها.
كنتُ أرى الحقائبَ تتثاءبُ
وتحلمُ بمسافةٍ أخرى،
وأرى وجوهاً لا أعرفها
تسقطُ من عيونها خرائطُ صغيرة
لا تشيرُ إلى أحد.
الغربةُ؟
هي أن تضعَ رأسكَ على كتفِ مدينة،
فتديرُ وجهَها إلى الجهةِ الأخرى !!

في الغربة قد يميل الشاعر الى توثيق معاناته ولوعته وإنتظاره المرهق بل وربما يحن الى تلك اللغة الوارفة التي بَصَمت حروفه زمنا طويلاً ، إلا أنه يعدل عن ذلك ويبقى يحفظ لتلك الأرض الممهورة بعرق جبين الأجداد الود ويتحاشى أن يخلف ورائه ما يشير الى جحود الحاضر ونكران الأحفاد :

كتبتُ لها رسالةً
بلون الدم ،
ووضعتها في خوذة جندي مجهول.
قالوا لي:
"الحبّ في زمن البنادق خيانة."
فمزّقتُ الرسالة
وأكلت الورقة…
لئلا يقرأها التاريخ.

هناك في تلك الارض البعيدة يضج نشيد الوطن بالذكريات والحنين والتلاقي ، وهناك الناس يتخطون مسرعين يتجاهلون كمَد الغريب واللهيب المتوهج في روحه ، فيشعر العاني بأثقال العزلة والتفرد ويلم وجعه الكسير بإنتظار القادم الذي يأتي ولا يأت :

الناسُ يَمْضون كأنَّكَ رِيحٌ عابرة،
لا يَسألون عن جُرحٍ يَنزفُ فيكَ،
ولا يَلتفتون لِعمْقِ السُّكوتِ في روحِكَ.
عِشْ لِنَفْسِكَ…
فأقرب الوجوهِ إليك قد يَرحلُ بلا سبب،
وأصدق القلوبِ قد يَغدو غريبا بين ليلةٍ وأُخرى،
ولا يبقى معكَ آخر الليل
إلّا صوتُكَ… يَسندُ وجعكَ.

لقد حرص العاني بادواته الشعرية التي اتسمت لغتها بالقصدية والبساطة ان يحيل نبضات قلبه الموجوع الى رؤية مبصرة تتجاوز ذاته الى مأساة مجتمع يتعايش مع جراحه وهو لا يزال في النفق الطويل.



#محمد_حسين_الداغستاني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصيات من تاريخ العراق الحديث محاكمة اللواء الركن ...
- كما يراني الآخر
- رأي حول المسألة السورية …. فرصة لإختبار النوايا .
- العراق اولاً
- قراءة في كتاب (داغستان بلدي) للشاعر الكبير رسول حمزاتوف. الع ...
- قصيدتان
- تقنيات اللغة الشعرية في مجموعة (دموع النهر) للشاعر منذر عبدا ...
- قراءة في قصة ( كركوك وسوق القورية) ...
- تجليات (مولانا) تلهم قاصديه مكابدات العشق الإلهي المقدس
- إيماءات الصورة الشعرية في نصوص الشاعرة عالية ميرزا
- في لوحات الفنان التشكيلي رؤوف العطار... ينطق الحبر ويشدو الل ...
- قراءة في كتاب (الجرائم الإعلامية وعقوباتها في الفقه الإسلا ...
- قراءة في كتاب الجرائم الإعلامية وعقوباتها في الفقه الإس ...
- محي الدين ثريا شهباز الداغستاني. الرحالة والفقيه ومربي الاجي ...
- ٠مقومات المقابلة الصحفية واهميتها
- قراءة في نصوص الشاعرة غربة قنبر ثنائية الوطن والحب والفرح ...
- ريبورتاج دربند (باب الابواب) مدينة التأريخ والعراقة
- قراءة في كتاب (تأويل النصوص في القانون) للقاضي عواد العبيدي
- الشاعرة العراقية المغتربة كولاله نوري : الحب قيمة حياتية علي ...
- محاورة مع الناقد والشاعر عدنان ابو اندلس التغيير منفذ الذهن ...


المزيد.....




- مهرجان فجر السينمائي:لقاءالإبداع العالمي على أرض إيران
- المغربية ليلى العلمي.. -أميركية أخرى- تمزج الإنجليزية بالعرب ...
- ثقافة المقاومة: كيف نبني روح الصمود في مواجهة التحديات؟
- فيلم جديد يكشف ماذا فعل معمر القذافي بجثة وزير خارجيته المعا ...
- روبيو: المفاوضات مع الممثلين الأوكرانيين في فلوريدا مثمرة
- احتفاء مغربي بالسينما المصرية في مهرجان مراكش
- مسرحية -الجدار- تحصد جائزة -التانيت الفضي- وأفضل سينوغرافيا ...
- الموت يغيب الفنان قاسم إسماعيل بعد صراع مع المرض
- أمين معلوف إثر فوزه بجائزة أدبية في المكسيك: نعيش في أكثر عص ...
- الدرعية تحتضن الرواية: مهرجان أدبي يعيد كتابة المكان والهوية ...


المزيد.....

- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسين الداغستاني - وطن الأوجاع الأليفة