|
|
تصوير الشخصيات في روايات الدائرة والجميع وأبطال على الحدود ل ديف إيغرز
أشرف إبراهيم زيدان
الحوار المتمدن-العدد: 8532 - 2025 / 11 / 20 - 15:04
المحور:
الادب والفن
تأليف: ياسمين محمد النجار (جامعة طنطا) عرض وترجمة: د. أشرف إبراهيم زيدان (جامعة بور سعيد)
السيرة الذاتية للمؤلف ديف إيغرز هو كاتب ومحرر وناشر أمريكي، عُرف بأسلوبه السردي المبتكر الذي يجمع بين الملاحظة الاجتماعية الحادة والتجريب السردي الواعي بالذات. وُلد إيغرز في 12 مارس 1970 بمدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، ونشأ في ضواحي شيكاغو. برز اسمه في المشهد الأدبي عام 2000 مع صدور مذكراته الشهيرة"عمل مفجع لعبقرية مذهلة، التي تناول فيها تجربته الشخصية بعد فقدان والديه في فترة زمنية قصيرة، واضطراره إلى تربية شقيقه الأصغر. امتاز الكتاب بمزج الحزن بالفكاهة وبالوعي السردي ما بعد الحداثي، ما جعله من أكثر الكتب مبيعًا، وبلغ به قائمة المرشحين النهائيين لجائزة بوليتزر. إلى جانب مسيرته الأدبية، أسس إيغرز دار النشر المستقلة ماك سوينيز، التي عُرفت بإصدار كتب ومجلات أدبية ذات طابع تجريبي ومبتكر. كما شارك في تأسيس منظمة 826 فالنسيا، وهي مركز غير ربحي مخصص لدعم مهارات الكتابة والإبداع لدى الشباب، توسع لاحقًا إلى شبكة مراكز في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة. ألف إيغرز عددًا من الأعمال الروائية المميزة التي تنوعت موضوعاتها وأسلوبها السردي، من أبرزها رواية "سوف تعرف سرعتنا" (2002) التي تمثل رحلة مليئة بالتأملات في الصداقة والحزن والسفر، و"ما هو ما" (2006) المستوحاة من القصة الحقيقية للاجئ السوداني فالنتينو أشاك دينغ، و"الدائرة" (2013) وهي رواية ديستوبية ساخرة تتناول قضايا المراقبة والهيمنة في عصر التكنولوجيا، وأخيرًا "أبطال الحدود" (2016) التي تحكي قصة أم تنطلق مع طفليها في مغامرة عبر براري ألاسكا. تعكس أعمال ديف إيغرز انشغاله الدائم بموضوعات المسؤولية والأخلاق، وتأثير التكنولوجيا، والسعي وراء المعنى في الحياة المعاصرة، وذلك بأسلوب يجمع بين العمق الفكري والذكاء الساخر. عمل مفجع من عبقرية هائل تظهر السيرة الذاتية لــــ إيغرز بوضوح في كتابه الصادر عام 2000 بعنوان "عمل مفجع من عبقرية هائل"، وهو العمل الذي أطلقه كأحد أبرز الأصوات الأدبية في الولايات المتحدة المعاصرة. لا يتخذ الكتاب شكل السرد الخطي التقليدي، بل هو نص ما بعد حداثي يمزج بين السيرة الذاتية والخيال والميتا-سرد، فيعيد تشكيل مفهوم الحكي الشخصي. يرتكز الكتاب على أحداث حقيقية من حياة إيغرز في مطلع شبابه، حين فقد والديه في فترة زمنية قصيرة، ليجد نفسه، في سن الحادية والعشرين، مسؤولًا عن رعاية شقيقه الأصغر توف البالغ ثماني سنوات. يتناول العمل موضوعات مثل الفقدان، وتحمل المسؤولية، والنضج، والبحث عن معنى للحياة في عالم يطغى عليه الاضطراب. ويصوّر انتقال إيغرز من الغرب الأوسط إلى الساحل الغربي، ومحاولاته بناء حياة جديدة له ولشقيقه، وانخراطه في مجلة Might، وتجربته مع اختبارات برنامج العالم الحقيقي على قناة .MTV جاءت السيرة بأسلوب غير تقليدي، إذ يكسر إيغرز الجدار الرابع ليخاطب القارئ مباشرة، ويعلّق على السرد أثناء تقدمه. كما يوظف السخرية الذاتية، ساخرًا من طموحه المفرط ووعيه الذاتي وعاطفيته. يستخدم أدوات ميتا-سردية من مقدمات وتنويهات وتعليقات جانبية، ليلفت الانتباه إلى الطبيعة المصطنعة للنص. وبالرغم من كونها سيرة ذاتية، يعترف المؤلف بأنه ضخم بعض الأحداث أو أعاد ترتيبها أو تخييلها، إما لالتقاط الحقيقة العاطفية أو للسخرية من أعراف هذا النوع الأدبي. على الرغم من اللعب الفني الواضح، يحتفظ الكتاب بجوهر عاطفي قوي، يتمثل في العلاقة المؤثرة بين ديف وشقيقه توف، حيث يختلط الحزن بالفكاهة. كما يعكس روح التسعينيات التي تتسم بالوعي الذاتي والسخرية، لكنه يسبق أيضًا حركة الإخلاص الجديد في الأدب، التي تمزج المشاعر الصادقة مع حساسية ما بعد الحداثة. وقد وصل الكتاب إلى القائمة النهائية لجائزة بوليتزر ونال إشادة نقدية واسعة، رغم أن بعض القراء وجدوا أسلوبه المرجعي المكثف مرهقًا. ورغم أن "عمل مفجع من عبقرية هائلة" يظل أبرز أعماله ذات الطابع السيّري، فإن كتبه اللاحقة لم تخلُ من عناصر شبه ذاتية أو مستوحاة من تجارب شخصية وصحفية، مثل "سوف تعرف سرعتنا" (2002) الذي استلهم رحلاته، و"زايتون" (2009) الذي يعتمد على التحقيق الصحفي، و"راهب المخا" (2018) الذي يمزج السيرة الغيرية برؤية الكاتب. لا تمثل سيرة إيغرز مجرد سجل لحياته، بل أداء سردي واعٍ يشكك في فكرة إمكانية تقديم قصة حياة حقيقية من الأساس. فهي تمزج بين فوضى الفقدان الشخصي وعبثية الحياة الثقافية في مطلع الألفية، تاركة القارئ في مساحة رمادية بين السيرة والرواية—وهو تمامًا ما أراده الكاتب.
ملخص الروايات
تتمحور أحداث رواية الدائرة (ذا سيركل) حول ماي هولاند، الشابة التي تفوز بوظيفة مرموقة في شركة الدائرة، الشركة التقنية العملاقة التي جمعت كل الهُويات الرقمية في ملف شخصي موحّد وموثّق. تتبنّى الشركة فلسفة الانفتاح المطلق، بشعارات مثل "المشاركة عناية" و"الخصوصية سرقة"، وتسعى لفرض مراقبة شاملة بدعوى بناء مجتمع مثالي. سرعان ما تنخرط ماي بعمق في ثقافة الشركة، وتصبح الواجهة الإعلامية لحركة الشفافية التي تتبناها. لكن مع توسّع نفوذ الشركة ليشمل السياسة، والحياة اليومية، والعلاقات الشخصية، يغشي حماس ماي بصرها عن المخاطر الكامنة، مثل فقدان الحرية الفردية، وإسكات الأصوات المعارضة، والآثار غير الإنسانية للمراقبة الدائمة. تقدّم الرواية رؤية تحذيرية عن إغراء اليوتوبيا التكنولوجية والخط الدقيق الفاصل بين التواصل والتحكّم. تأتي رواية الجميع (ذي إيفري) (2021) كتكملة ساخرة لرواية الدائرة، وتدور في مستقبل قريب اندمجت فيه ذا سيركل مع أضخم شركة للتجارة الإلكترونية في العالم، لتنشأ كيانًا احتكاريًا يسيطر على التكنولوجيا وتجارة التجزئة والإعلام والحياة الاجتماعية. تتمحور القصة حول ديلاني ويلز، حارسة غابات سابقة ومعارضة للتكنولوجيا، تنضم إلى العمل في ذي إيفري بهدف خفي هو تخريب الشركة من الداخل. وبالتعاون مع زميلها في السكن ويس، تبتكر أفكارًا لمنتجات غريبة ومتطفلة، على أمل أن تكون مفرطة في تطرفها بحيث يرفضها الناس. لكن النتيجة تأتي عكس المتوقع، إذ يستقبل الجمهور كل أداة مراقبة، أو نظام تصنيف، أو تطبيق لضبط السلوك بترحاب وحماسة. ومع توالي إخفاقات خطط ديلاني، يقترب مشروع ذي إيفري من تحقيق مجتمع مُحسَّن بالكامل، حيث تتلاشى الخصوصية والإرادة الحرة وأي صوت معارض تحت شعار الراحة والأمان. تكثّف الرواية نقد إيغرز لهيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة، مبرزةً استعداد الناس للتنازل عن حرياتهم طوعًا مقابل الراحة، وكيف يمكن للسيطرة الاستبدادية أن تزدهر حين تتجسّد في تصميم أنيق وسهل الاستخدام. رواية "أبطال الحدود" (2016) هي عمل يجمع بين الحلاوة والمرارة، ممزوج بروح الكوميديا السوداء، ويتناول موضوعات الهروب، والصمود، وإعادة اكتشاف معنى الحرية. تحكي الرواية قصة جوزي، طبيبة أسنان من أوهايو فقدت شغفها بعملها، وأرهقتها مهنة لم تعد تجد فيها قيمة، وتثقل كاهلها تبعات دعوى قضائية، فضلًا عن إحباطها من حال العالم. سعيًا لبدء صفحة جديدة، تصطحب جوزي طفليها—بول ذو الثمانية أعوام، الهادئ والحذر، وآنا ذات الخمسة أعوام، المندفعة والمشاكسة—في رحلة عفوية إلى ألاسكا، على متن عربة سكن متنقلة قديمة مستأجرة. وخلال تجوالهم بين بلدات صغيرة ومناظر طبيعية قاسية، تتعرف جوزي على شخصيات محلية غريبة الأطوار، وتحاول الهروب من ماضيها. خلال الرحلة، تخوض جوزي صراعًا داخليًا مع إحساسها بالذنب حيال زواجها المنهار وما تعده إخفاقاتها كأم، لكنها في المقابل تعثر على لحظات غير متوقعة من الدفء والبهجة. تمزج الرواية بين روح الدعابة واللمسة التأملية، لتُظهر كيف يمكن للطبيعة البرية أن تكون ملاذًا آمنًا ورمزًا لاحتمالات البدايات الجديدة وسط غموض الحياة. إنها مزيج بين يوميات السفر، والدراما العائلية، وتأمل عميق في معنى أن تعيش بحرية في عالم مضطرب.
يتحدد ارتباط الرواية بفلسفة بعد ما بعد الحداثة من خلال إطارها الفلسفي، وعمقها النفسي، ومزجها بين الأنواع الأدبية، ودمجها للأفكار العلمية، إضافةً إلى بنيتها الزمنية المعقدة وعناصرها السردية الفوقية. تعكس هذه السمات جوهر فكر بعد ما بعد الحداثة، إذ تجمع بين السخرية والجدية لبناء رؤية شمولية معقدة للعالم. ويشكل تصوير الشخصيات ذات الأبعاد النفسية المركبة، وتكامل التطورات العلمية، وتداخل الأجناس الأدبية عناصر أساسية في هذا السياق. كما يتيح التعقيد الزمني وتوظيف السرد الفوقي انخراطًا عميقًا في قضايا الحقيقة والواقع. وتشير هذه الملامح مجتمعةً إلى التفاعل المعقد بين بنية السرد، وتطور الشخصيات، والبحث الفلسفي (دروزدوفسكي، 150-159). تصوير الشخصيات
يشير تصوير الشخصيات في كتابات بعد ما بعد الحداثة، ولا سيما في أعمال ديف إيغرز، إلى تحوّل نحو تقديم رؤية إنسانية أكثر تعقيدًا وعمقًا لأشخاص يواجهون تشابكات الوجود المعاصر. ويُقصد بـتصوير الشخصيات عملية تطوير وإبراز الحياة الداخلية للشخصيات السردية، بما في ذلك رغباتها ونقاط ضعفها. تمتاز شخصيات بعد ما بعد الحداثة، كما في رواية ذا نيكس لناثان هيل، بقدرتها على تناول القضايا الاجتماعية والشخصية مع الحفاظ على منظور نقدي لظروفها، مما يمنحها مزيجًا من الواقعية والسخرية. ويُعد كل من مايكل تشابون وجوناثان فرانزن من أبرز كتّاب بعد ما بعد الحداثة الذين أولوا اهتمامًا خاصًا لعمق المشاعر والتفاعلات الإنسانية، في ابتعاد ملحوظ عن السخرية الباردة التي سادت في فترات سابقة. ويؤكد هذا التوجه على أهمية التواصل الإنساني والبحث عن المعنى، في مقابل الصور النمطية المبسطة التي تقدمها الحكايات الشعبية. إن تصوير الشخصية، بوصفه أسلوبًا أدبيًا، يتيح للقراء الغوص في عوالم الشخصيات السردية الداخلية، كاشفًا عن دوافعها، ونقاط ضعفها، وأعماق حياتها النفسية (دويل 259-270). يترك النهج المزدوج لــــــ بعد ما بعد الحداثة أثرًا عميقًا على بناء الشخصيات، إذ يجمع بين أسلوب السرد الكلاسيكي والنَفَس المعاصر، مما يتيح تقديم صور غنية ومتعددة الأبعاد للشخصيات. يفتح هذا الأسلوب المجال أمام الكتّاب لاستكشاف دوافع متنوعة وصراعات داخلية معقدة، بما يعزز التجربة السردية ككل. وتبرز أهمية هذا النهج في الكتابة الحديثة من خلال قدرته على الموازنة بين الشك (أي التساؤل النقدي) والإيمان (أي الثقة في المعنى وروابط الانتماء) لمواجهة التحديات الثقافية الراهنة. ومن خلال التعمق في موضوعات مثل المراقبة والتكنولوجيا، وطرح تساؤلات حول كيفية استجابة المجتمع لهذه التحولات، تبرهن روايات إيغرز، مثل الدائرة والجميع، على ضرورة هذا التوازن. ففي هذه الأعمال، يوفّق إيغرز ببراعة بين الحذر من تأثير التكنولوجيا والإيمان بقوة التواصل الإنساني والمجتمع. وانطلاقًا من فكرة أن على الكتّاب التفاعل مع كلٍّ من الشك والإيمان للتواصل مع القارئ المعاصر، يمزج إيغرز في رواية أبطال الحدود بين الرؤية النقدية للحياة الحديثة والرغبة في إيجاد المعنى والارتباط. وبهذا، تجسد أعماله الصراع المستمر من أجل صياغة قصة ذات مغزى في مواجهة إشكاليات المجتمع المعاصر. في رواية الدائرة، تمثل ماي الوجه الجاذب لتكنولوجيا الشركة، مقدمةً للقراء منظورًا شخصيًا لرحلتها. في بداياتها، تُبدي ماي حماسة شديدة لوظيفتها الجديدة، مجسدةً بريق التكنولوجيا الحديثة وروح الترابط الاجتماعي. لكن مع تقدم الأحداث، تتكشف ملامح شخصيتها بشكل أعمق، كاشفةً عن الجوانب المظلمة لثقافة المراقبة الشاملة. ويعكس قلقها المتنامي من ممارسات شركة الدائرة متعددة الأبعاد ذلك التوتر القائم بين الاستقلالية الفردية وضغط المجتمع نحو الامتثال. ومن أبرز الأمثلة على تآكل الخصوصية مشاركة بياناتها الشخصية دون موافقتها، مثل المعلومات المتعلقة بتتبع اللياقة البدنية، والتي قد تصل بسهولة إلى الأطباء أو منصات التواصل الاجتماعي أو الشركات بحجة تحسين الصحة والإنتاجية: "حسنًا، رائع. لنبدأ بعلاماتك الحيوية، جميع الأساسيات. هل رأيتَ واحدًا منها؟" مدّ الطبيب سوارًا فضيًا، عرضه نحو ثلاث بوصات. كانت ماي قد رأت أجهزة مراقبة الصحة على جاريد ودان، لكنها كانت مصنوعة من المطاط وفضفاضة على معصميهما. أما هذه الحلقة فكانت أرفع وأخف وزنًا" (الدائرة 116). في البداية، رحبت ماي بفكرة عيش حياتها عبر الإنترنت، لكنها مع بروز النتائج أدركت أنها تفقد السيطرة على بياناتها، مما يضع أمام القارئ بوضوح الصراع بين الحرية الفردية والالتزام بالمعايير الاجتماعية المفروضة. يوظف إيغرز شخصيات ثانوية مثل إيمون بيلي وتوم ستينتون للكشف عن أبعاد متباينة من فلسفة شركة الدائرة. يجسد توم ستينتون النزعة العملية التي تركز على جمع البيانات والمراقبة لتعزيز الكفاءة، في تعارض واضح مع المثالية التي يمثلها بيلي. ومن خلال ستينتون، يبرز التحدي الأخلاقي الكامن في ممارسات الشركة، حيث تُقدَّم الأرباح على حساب الخصوصية الفردية، بما يكشف حجم التضحيات الأخلاقية المطلوبة. أما التفاعل بين بيلي وستينتون فيجسد الصراع المستمر بين المثالية والبراغماتية في عالم التكنولوجيا، مسلطًا الضوء على هوس القياس المجتمعي والآثار المدمرة المحتملة للتطور التقني. ومن خلال هاتين الشخصيتين، يستعرض إيغرز في روايته كيف أن الإغراء بوعود الصالح العام كثيرًا ما يأتي على حساب الحريات الشخصية. هنا يبرز مفهوم سلامة السياق، الذي صاغته لأول مرة باحثة الخصوصية هيلين نيسنباوم، بوصفه إطارًا لفهم كيفية تغيّر الأعراف الاجتماعية بحيث تُقبل ممارسات كانت مرفوضة في السابق. ويصف هذا التحول بـ الطغيان على المألوف، حيث تصبح خسارة الخصوصية أمرًا طبيعيًا ومألوفًا في الحياة اليومية (إلدريدج 4). ومن خلال مسار تطور الشخصيات، يوظف إيغرز شخصية ماي وغيرها لتحدي هذا التطبيع للمراقبة عبر السرد. فتبني الشخصيات التدريجي والبطيء للتكنولوجيا المقلقة يعكس اتجاهًا اجتماعيًا أوسع، كاشفًا كيف يستعين إيغرز بالتوصيف لعرض المخاطر الكامنة في التقدم التكنولوجي غير المنضبط. في رواية الجميع لـــ إيغرز، يعتمد الكاتب أساليب لتصوير الشخصيات تكشف تعقيدات أدب الديستوبيا الرقمية المعاصرة، خاصةً في تناول ديناميكيات القوة والفاعلية الفردية. تُقدَّم الشخصيات كوسائل لاستكشاف قضايا المراقبة والرأسمالية وحماية البيئة، مما يُنتج سردًا يرصد مسار المجتمع الحديث. وعلى خلاف الديستوبيا التقليدية، التي تميل شخصياتها إلى تمثيل مواقف أخلاقية واضحة، تتسم شخصيات إيغرز بدرجة أكبر من الغموض، ما يتيح للقراء الانخراط في أزمات هذه الشخصيات، وخصوصًا الصراع بين إنقاذ البشرية وصون الطبيعة الإنسانية. يتجلى هذا الصراع في شخصيات مثل جينيفر، التي تُجسد السعي وراء الاستقلالية والأصالة. أما ديلاني، فكانت فتاة منعزلة تمضي 80 ساعة أسبوعيًا على هاتفها. ومع مواجهة والديها صعوبة في الاندماج في العالم الرقمي—حيث بات على التلاميذ أداء واجباتهم عبر الإنترنت ومشاهدة الأفلام على منصة سيركل كلاس—قررا أن التعليم المنزلي هو السبيل الوحيد الممكن. كرّسا الصيف بأكمله لمساعدتها على تجاوز إدمانها للتكنولوجيا والتواصل الاجتماعي، محددين لها سقفًا يوميًا بثلاث ساعات فقط. وبسبب إدمانها على وسائل التواصل، قضت ديلاني شهرًا في مركز لإزالة السموم في مونتانا لدى جدتها جينيفر. هناك، ساعدتها جوجو على التحرر من سطوة التكنولوجيا من خلال أنشطة حياتية بديلة: العمل في المزرعة، والمشي لمسافات طويلة، وركوب الخيل، وحلب الأبقار، وتربية العجول، وإطعام الماعز (الجميع 37). التحقت ديلاني بدورات في جامعة ريد حول مقاومة التكنولوجيا، ثم عملت حارسة غابات. لكن خبر قيادة وتمويل شركة الجميع لحملة "اعثر عليّ في العالم الطبيعي" دفعها مجددًا نحو التطرف. استقالت من عملها في خدمة الغابات وانتقلت إلى سان فرانسيسكو، حيث التحقت بوظيفة مبتدئة في أول فاكتوري. هناك، اصطدمت بثقافة طاعة مطلقة لم تتمكن من تغييرها. وعندما نقل والدها خبر وفاة جدتها، أرفق مع الرسالة رمزًا تعبيريًا صغيرًا يشير إلى أن "جوجو كانت تحب الإيموجي " (الجميع 39). يجسد هذا الموقف الصراع الداخلي بين تقدير ما تمنحه التكنولوجيا من مزايا والخشية من ضياع الإنسانية في ظلها. في رواية أبطال الحدود لديف إيغرز، يُستخدم المونولوج الداخلي كأداة أساسية في رسم ملامح الشخصية، إذ يكشف بوضوح عن أفكار البطلة جوزي ومشاعرها العميقة. يتيح هذا الأسلوب للقارئ النفاذ إلى عالمها الداخلي، وفهم دوافعها وصراعاتها وظروفها العاطفية بعمق أكبر. كما يضفي بعدًا وجدانيًا يثير التعاطف ويشد القارئ إلى مجريات الأحداث. ويسهم المونولوج الداخلي إسهامًا بارزًا في تطوير الشخصية، من خلال كشف التحولات والتوترات التي تمر بها، فضلًا عن دوره في تشكيل أسلوب السرد وإضفاء طابع مميز وشخصي على القصة. فيما يلي مثال على توظيف المونولوج الداخلي في الرواية لدعم تطور شخصية جوزي: في الفصل الأول، تنغمس جوزي في التفكير بواقعها في ألاسكا، حيث تكشف عبر مونولوج داخلي عن مزيج من الفرح والقلق يسيطر على مشاعرها. يتجلى هذا بوضوح في تأملها وهي وحيدة في العربة المتنقلة، وقد أسكرتها كؤوس النبيذ الأحمر، إذ يتداخل إحساسها بالراحة مع شعور بالهشاشة وعدم اليقين. تقول في مونولوجها الداخلي: "ثم هناك سعادة الحي الفقير الخاص بالمرء. سعادة الوحدة، والثمالة بالنبيذ الأحمر، …، سيتجاوز أحدهم قفل اللعبة على باب العربة المتنقلة ويقتلك أنتِ وطفليكِ الصغيرين النائمين في الأعلى" (أبطال الحدود 8). تمنح تأملات جوزي بشأن كارل وزواجهما المنتهي القرّاء رؤية عميقة لحالتها النفسية والدوافع التي قادتها للانتقال إلى ألاسكا برفقة طفليها. ويكشف استرجاعها لغياب خطوبة كارل وعلاقته الجديدة عن إحساسها بالخيانة ورغبتها في التحرر. كما يوضح حوارها الداخلي معاناتها في التعامل مع مفهومي الشجاعة والمبادرة. ويعكس وصفها لأبطال بلدتها بالجبناء، إلى جانب بحثها في ألاسكا عن شخصية ذات تأثير، توقها لاكتشاف معنى وغاية لحياتها. وتمثل العديد من شخصيات أبطال الحدود رموزًا تجسد مساراتها أو شخصياتها. وبخلاف ماضيها، تجد جوزي حريتها في الانطلاق إلى الغابة. ومن خلال هذا الترابط بين البيئة والشخصية، يكتسب القارئ فهمًا أعمق لتطور الشخصيات على امتداد الرواية (إسماعيلي 185-212).
#أشرف_إبراهيم_زيدان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كرونولوجيا الأدب الكندي
-
قراءة في رواية فيرجينيا وولف (إلي الفنار)
-
الهجرة والشتات والمنفى في الرواية
-
حلمي القاعود روائيا
-
الذَّوَبَانُ الثَّقَافِيُّ وَأَثَرهُ عَلَى الفَردِ وَالأَمنِ
...
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
-
روايات البريطانيين السود
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
-
الشتات الأفريقي
-
رواية المستعمرات (ترجمة)
المزيد.....
-
محمد إقبال: الشاعر والمفكر الهندي الذي غنت له أم كلثوم
-
فلسطين تتصدر المشهد في مهرجان الدوحة السينمائي 2025.. 97 فيل
...
-
رسائل وأمنيات مخبّأة في قلب بروكسل تركها بناة المدينة
-
بعد وفاة بطلته ديان كيتون.. العمل على إنتاج جزء ثانٍ من Fami
...
-
البرلمان يقر تشديد شروط تعليم اللغة السويدية للمهاجرين
-
انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب بشعار -عاصمة الثقافة.. وطن
...
-
-عين شمس- و-بغداد- تتصدران الجامعات العربية في -الأثر البحثي
...
-
في ترجمة هي الأولى وغير مسبوقة: الشاعر والمترجم عبد الله عي
...
-
الوكيل؛ فيلم وثائقي يروي حياة السيد عيسي الطباطبائي
-
تهديدات بن غفير.. استراتيجية ممنهجة لتقويض السلطة والتمثيل ا
...
المزيد.....
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|