أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أشرف إبراهيم زيدان - قراءة في رواية فيرجينيا وولف (إلي الفنار)















المزيد.....



قراءة في رواية فيرجينيا وولف (إلي الفنار)


أشرف إبراهيم زيدان

الحوار المتمدن-العدد: 6209 - 2019 / 4 / 23 - 23:31
المحور: الادب والفن
    


قراءة في رواية فيرجينيا وولف (إلي الفنار)
دكتور أشرف ابراهيم زيدان كلية الآداب/ جامعة بور سعيد
الكاتب جزءٌ لا يتجزَّأ من المجتمع الذي يعيش ويبدع فيه ، ولذا يتأثَّر بالظروف البيئية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية المحيطة به، سواءٌ بطريقة مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ؛ فالكاتب نتاج عصره الذي ولد وترعرع فيه، وبالتالي يصعب علينا فَهْم أعماله الإبداعية دون النظر إلى الظروف التي عايشها. ويبدو هذا الأمر جليًّا مع الرواية دون غيرها من الأنماط الأدبية الأخرى، كالشعر والمسرح؛ حيث تعكس الرواية روح العصر باستفاضة. وترصد هذه الدراسة الظروف الاجتماعية التي كان لها تأثير مباشر في الروائية الإنجليزية فيرجينيا وولف (Virginia Woolf)، ورصد الاتجاهات الأدبية الرئيسية التي أثَّرت في تكوينها الأدبي، وتحديد النبرة السائدة في أعمالها الروائية و خاصة رواية “إلي الفنار” ( )، بالإضافة إلي الرمزية والكتابة عبر النوعية.
الثورة الصناعية: ما لها وما عليها!
يُعتبر عام (1890) م علامةً متميزةً في تاريخ إنجلترا الأدبي والاجتماعي؛ نظرًا للتغيرات الاجتماعية السريعة في جميع مجالات الحياة المختلفة. في نهاية العقد الأخير من القرن التاسع عشر تحوَّلت إنجلترا من مجتمع زراعي إلى آخر صناعي، ومن ثم ظهرت المدنيَّة على نطاق واسع. ولقد ظهرت الكثير من المشكلات المتنوعة نتيجة هذا التحول، ومنها: الازدحام، والمشكلة السكانية، وانتشار الجريمة، وظهور بعض الأمراض الاجتماعية، والانحطاط الجنسي، وبالتالي اتسمت الحياة بالضبابية، وأصبح التلوث هو السمت الأساسي للحياة الصناعية الجديدة، ومع ذلك فهناك جوانب إيجابية لهذا التغير السريع، ألا وهو تقوية العلاقات الاجتماعية بين البشر؛ حيث انتهت العلاقة الفكتورية القائمة على الثروة والنسب وحلَّت محلها المسئولية الاجتماعية والقيم الاجتماعية، وبالتالي ظهر مبدأ رفاهية الدولة، أي إن الدولة مسئولة عن التعليم والصحة وسلامة الفرد. اتسم العصر الصناعي بفقدان الثقة في القيم التقليدية، وأصبح الشك والحيرة السمتين الأساسيتين للحياة الإنجليزية، وخاصةً بعد ظهور الروح العلمية والقومية اللتين زعزعتا الأركان الأساسية للمعتقدات الاجتماعية الراسخة في أذهان الإنجليز، ولكن ما الفرق بين المجتمع الفكتوري والمجتمع الصناعي فيما يتعلق بالعادات والتقاليد؟
لم ينكر أحد أن الفكتوريين قد تمرَّدوا على بعض هذه العادات الراسخة في حياة البشر، كما هو الحال مع المجتمع الصناعي، ولكن الفكتوريين لم يتعرَّضوا للمبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية والأخلاقية؛ ولذا نجد ديكنز (Charles Dickens) وثاكري (Thackeray) لم ينتقدا سوى بعض الأمراض الكامنة في نظامهم الاجتماعي؛ لأنهم رضوا بحياتهم ورضيت عنهم حياتهم، وكانوا بها فخورين، ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر لم يترك كلٌّ من برنارد شو (Bernard Shaw) وجولزورزي (Galsworthy) وويلز(Wells) فتيلاً ولا قطميرًا دون أن يصبُّوا عليه جام غضبهم، ومن ثم تعرَّضوا بالنقد والتحليل لكل القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في هذا البلد.
كان الشك والارتباك وانعزالية الفرد- خاصةً بعد ظهور نظريات فرويد (Freud)عن الوعي واللاوعي التي كان لهما تأثير قد يبدو مهمًّا في تفسير سلوكيات البشر؛ حيث لم يعد الإنسان مسئولاً عن تصرفاته- نتيجةً حتميةً لهذه الظروف، كان المجتمع الفكتوري مجتمعًا ذكوريًّا؛ يهيمن عليه الرجل تمامًا، ولكن بعد ظهور الثورة الصناعية تصدَّعت العلاقة بين الرجل والمرأة؛ حيث أصبحت الأخيرة مسئولةً عــن حياتها، وكذلك ظهر الصراع بين القديم والحديث، وبدا ذلك جليًّا في العلاقات الأسرية، ويرجع السبب في ذلك إلى النهضة الصناعية وظهور السيارات والقطارات التي ساهمت في بُعد الأبناء عن الأسرة؛ ولذا شعر الناس بالإحباط بالإضافة إلى مشاكل أخرى، وجاءت الحرب العالمية الأولى 1914م لتأكل الأخضر واليابس، وجعلت الناس تعيشفي ذهول.
لقد تم إحياء المسيحية والأرثوذكسية في أعمال كل من ت. إس. إليوت (T. S. Eliot) وجرهام جرين (Graham Green) كردة فعل لتأثير العلم والقومية، ومع ذلك فقد شهد هذا العصر تدريجيًّا ضعف العقيدة الدينية؛ حيث لم يعد للجدال الديني والقيم الأخلاقية أثرهما في الحياة العامة.. لقد اهتمت الفلسفة والميتافيزيقا بدراسة طبيعة الإنسان بدلاً من الاهتمام بدراسة طبيعة الذات الإلهية. الإنسان ظاهرة بيولوجية بالنسبة لـ”فرويد”: “الإنسان مجموعة من الغرائز والنزوات”، ومن ثم ولَّت أيام العصر الفكتوري الذي اتسم بالعقلانية واللياقة؛ حيث هيمن العقل على مجريات الأمور، أما الإنسان في العصر الحديث فأصبح التشاؤم واليأس مذهبه الجديد.
لقد انتقلت عدوى الشك والحيرة إلي الحياة السياسية؛ حيث تغيَّرت السمات الأساسية التي تميِّز بين البشر، لقد انتهت سياسة التفرقة العنصرية بين البشر التي كانت سائدةً في العصر الفكتوري، ولقد تغيَّرت السلسلة المتكاملة للعلاقات الاستعمارية تغيرًا جذريًّا؛ فالقومية لم تعد كافية، والإمبريالية تعرَّضت للنقد اللاذع؛ ولذا أصبحت العلاقة بين الدول قائمةً على المساواة والاحترام المتبادل لا على الخنوع السياسي والسيادة الاستعمارية. لم تعد الإمبراطورية مجالاً للمدحِ كما هو الحال في أعمال كيبلنج (Kipling) وتينيسون (Tennyson)، وإنما يُنظر إليها بنوعٍ من الذنب كما هو الحال في روايات إي. إم. فورستر (E. M. Foster) ، ولقد نادى إليوت بضرورة صهر الثقافة الإنجليزية مع الثقافة الأوروبية، وشجَّع ذلك ظهورُ الأدب المقارن والأسطورة المقارنة والدين المقارن.
كان البحث عن قيمِ ونظمِ جديدةٍ أمرًا بديهيًّا؛ نتيجة التخبط والحيرة التي يعيشها الإنسان الأوروبي؛ ولذا نجد دي. إتش. لورانس (D. H. Lawrence) يلوذ من ذاك الشك بالصوفية، ويجد دبليو. بي. ييتس (W. B. Yeats) نفسه في بناء نظام ذاتي نتيجة توليفة غريبة من السحر والغيبيات، أما إليوت (Eliot) فيبحث عن نمط جديد يشير إلى التشابه الحميم بين الثقافات المختلفة للأساطير والطرق الأدبية الأوروبية. لقد كان لظهور الشيوعية أثر بالغ في ظهور مجتمع جديد قائم على الصراع بين الطبقات من أجل تحقيق المساواة بين البشر وإلغاء الفروق الاجتماعية، ومن ثم اندثرت الطبقة الأرستقراطية ولم يَبْقَ منها إلا اسمها، وأصبح التعليم متاحًا للجميع كالماء والهواء، وأصبح الوضع الاجتماعي للإنسان يُحدَّد على حسب تعليمه وأخلاقه لا حسبه ونسبه.ولقد ساهم انتشار التعليم والصحف والسينما في زيادة اهتمام الناس بالأدب، ومع ذلك جاء كل ذلك على حساب الجودة والقيمة؛ حيث انتشرت الكثير من الأعمال ذات الأغراض التجارية دون النظر إلى المستوى الفني.
شعبية الرواية
الكاتب الحديث منغمس تمامًا في المشاكل الكامنة في محيطه؛ ولذا ينقلها بكل موضوعية. لقد استحوذت الرواية على ألباب الكثيرين، وخاصةً في القرن العشرين، لدرجة أنها تعدَّت مكانة الشعر والمسرح لأسباب متعدد:
أولاً: تبقى الرواية النمط الأدبي الوحيد الذي لديه القدرة على منافسة التلفاز والراديو والسينما.
ثانيًا: تتسم الرواية بروح المناقشة والتوضيح والتحليل، أما الشعر فيعتبر الإيجاز سمته الأساسية، وهذا ما لا يروق للقارئ اليوم بعد أن تدنَّى مستواه اللغوي والفني والذوقي.
ثالثًا: تتسم الرواية بالتنوع والتعقيد؛ حيث تعالج جميع الموضوعات بطريقة عملية، وهناك التقليديون من أمثال ويلز (Wells) وبينت (Bennett) وجلزورزي(Galsworthy) يقترحون أفكارًا جديدةً ويبتكرون مناظر حديثة للعقل البشري، بالإضافة إلى استخدام المبادئ الفكتورية، وفي المقابل نجد الحداثيون من أمثال هنري جميس (Henry James) وجويس (James Joyce) ووولف (Woolf) يتمرَّدون على الماضي منغمسين في أغوار النفس البشرية.
رابعًا: تتسم الرواية الحديثة بالواقعية، ملقيةً الضوءَ على الواقع المعيش بما فيه من جمال وقبح، وسعادة وحزن، ولا تتعرض إلى جانب واحد من هذه الحياة، وإنما تنقل الصورة بدقة وموضوعية بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية أو الأيديولوجية؛ ولذا نجد رواية لورانس (أبناء وعشاق) واقعيةً حتى النخاع؛ حيث يُلقي الضوء على معاناة العمال.
العصر الحديث عصر الاستنطاق والانحلال؛ حيث طرحت القيم الأصيلة جانبًا وحل محلها الجديد؛ الإنسان بين عالمين: عالم يموت وعالم يسعى إلى الخروج إلى النور؛ الاختيار بين الرأسمالية والشيوعية، بين الدين والعلم، بين الله والقنبلة الذرية .. مشكلة صعبة نتيجتها الحيرة والارتباك؛ ولذا نجد الرواية الحديثة تتسم بنبرة تشاؤمية؛ لأنها تُلقي الضوء على الصراعات والشكوك والإحباطات التي يعاني منها الفرد في القرن العشرين؛ ولذا نجد لورانس يهاجم العقل المادي وعبادة المال صراحةً ويعتقد أن الجسم أكثر حكمةً من العقل؛ ولذا نادى بما يُعرف بالوثنية الدينية لتحرير الإنسان.ويعكس سمرست موم (Somerset Maugham) استخفافه المرير وإحباطه الجامح لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويحلل هكسلي (Huxley) أمراض الحضارةالحديثة، باحثًا لها عن حلولٍ.
تختلف الرواية الحديثة عن الرواية الفكتورية فيما يتعلَّق بالجنس؛ حيث عالجت الأولى الأمور الجنسية، سواءٌ في نطاق الزواج أو خارجه، بكل إباحية، ويُعَدُّ لورانس رائدًا فيما يعرف بالرواية الجنسية؛ ولذا يتهمه البعض بالفحش والبذاءة. يعتبر لورانس الجنسَ عاطفةً روحانيةً فائقةً- وليس مجرد التحام بدني بين رجل وامرأة- من أجل التعرف على الذات الإلهية، ومن ثم يسمو لورانس بالعلاقات الجنسية بعيدًا عن الوحشية والبهيمية. تتسم الرواية الحديثة بالجدية، وليست للتسلية أو قصة خفيفة تُقرأ بعد وجبة العشاء؛ إنها كيان محكم البناء، متكامل الأركان دون تكرار أو إعادةٍ، بالإضافة إلى عدم إلقائها اهتمامًا خاصًّا للقارئ؛ فالرواية بستان منسق وليس غابة استوائية، كما هو الحال في الرواية الفكتورية.
تمرَّد كلٌّ من هنري جميس (Henry James) وجوزيف كونراد (Joseph Conrad)ضد المألوف، وابتكرا أساليب جديدة تتميز بالبعد عن فنيات السرد المباشرة والمفكَّكة للسيرة الذاتية، مع مراعاة القيم الجمالية للرواية، أما بالنسبة للشخصية فقد اهتمَّا بدراسة الوعي الداخلي للشخصية، ولم يتتبَّعا الشخصية من الميلاد حتى الوفاة، مؤكدَين أهمية أن يتمتَّع السرد والوصف والأسلوب بمستويات فنية عالية. وعلاوةً على ذلك فالرواية تجسِّد فلسفة المؤلف في الحياة ورسالته ورأيه في المشهد البشري من حوله.
تتمرَّد الرواية الحديثة على الحبكة (Plot)، ولكن لا يُفهم من ذلك أن الرواية الحديثة بلا أحداث، ولكن حبكتها تختلف عن الحبكة التقليدية التي ترتبط أحداثها ارتباطًا منطقيًّا، بالإضافة إلى كونها ذات بداية ووسط ونهاية. أما الرواية الحديثة فأحداثها غير مرتبطة بمنطق السببية (Cause & effect)، كما أن نهايتها مفتوحة، والرواية الحديثة عبارة عن مجموعة من اللوحات الفنية غير المترابطة، ومن ثم يصعب على القارئ العادي فهمها؛ ويعود ذلك إلى تأثير علم النفس الذي لا ينظر إلى الحياة كسلسلةٍ متصلةٍ من الأحداث، وإنما لحظات متتابعة منفصلة عن بعضها البعض؛ فالروائي لا يَروي قصته وهو ممسك في يديه ساعةً، وإنما يغور في أعماق النفس البشرية متحركًا بحرية، سواءٌ إلى الأمام أم إلى الخلف؛ ولذا نجد وحدة الزمن ووحدة المكان بلا أهمية بالنسبة للروائي الحديث.
هناك طريقتان لوصف الشخصية في الرواية التقليدية: السرد المباشر، والطرق الدرامية. فوصف النواحي الخارجية للشخصية، كالعادات والتقاليد والمظهر البدني بطريقةٍ حيةٍ مع إلقاء الضوء على طبيعة هذه الشخصية عن طريق كلامه وأفعاله وما نعرفه عنه من خلال الشخصيات الأخرى، هو السمة الأساسية للرواية التقليدية.أما الروائي الحديث فيرفض عرض الشخصية بهذه الطريقة التي يراها سطحيةً؛ ولذا يعتقد أن الطرق التقليدية تعجز في إعطاء تحليل نفسي صادق للشخصية. بدلاً من إلقاء الضوء على صراع الشخصية مع الشخصيات الأخرى يركِّز الروائي الحديث على الصراع الداخلي للشخصية: الصراع النفسي للشخصية وما يدور في عقلها الباطن؛ ولذا تقدَّم الشخصية خارج حدود الزمان والمكان؛ لأننا لا نهتم بما حدث للشخصية في الماضي، ولكن نهتم بما تتعرَّض له هذه الشخصية في المستقبل. يستطيع القارئ أن يعرف الكثير عن هذه الشخصيات مع أنها قُدِّمت إليه من خلال ساعات قليلة، ولقد أدى هذا التحليل النفسي إلى وفاة البطل والوغد: تذاب البطولة والوغادة عندما نقترب من الشخصية.
علم النفس ذو أثر واضح فيما يتعلق بالحبكة والشخصية، ووصل مداه إلى الموضوعات التي تطرحها الرواية؛ فالرواية التقليدية مهتمة بالقضايا الاجتماعية إلى حدٍّ كبير من أجل مساندة القيم الاجتماعية الثابتة، أما الرواية الحديثة فتضرب عرض الحائط بكل هذه الموضوعات الاجتماعية العالمية، ومن ثم تركِّز على الفرد أكثر من المجتمع. أثبتت الدراسة النفسية للعقل الباطن أن كل فرد له شخصيته المستقلة التي لا يمكن أن تختلط بأخرى؛ ولذا فموضوع الرواية الحديثة يتمثَّل في الوحدة والحب: اعتبر كلٌّ من لورانس وفوستر أن المجتمع هو العدو اللدود للفرد، ويرىلورانس أنه من الضروري للأفراد أن يحترموا خصوصية الآخرين، ويجب أن يكون الحبالقائم بينهم معتدلاً متعاطفًا لا أن يكون مسيطرًا ديكتاتوريًّا: الزواج ليس عملية تامة للحب، وإنما بداية غير أكيدة لهذا الحب؛ فالحب الحقيقي يأتي فيما بعد عندما تتألف المشاعر الفردية.
تيار الوعي
تيار الوعي نتاج طبيعي للقرن العشرين؛ كُتب له الظهور قبيل الحرب العالمية الأولى، ويسمَّى هذا النوع الجديد بالرواية الذاتية أو الرواية النفسية، يُعَدُّ وليم جميس(William James) أول من استخدم هذا المصطلح في كتابه (مبادئ علم النفس) 1890م، مشيرًا إلى التدفق العشوائي للانطباعات والمشاعر من خلال الوعي البشري. ويعتبر كلٌّ من دوروثي ريتشاردسون (Dorothy Richardson) في إنجلترا وجيمس جويس (James Joyce) في أيرلندا وبروست (Proust) في فرنسا الرواد الأوائل للرواية النفسية، أما فيرجينيا وولف فقد طوَّرت هذا الفن الروائي الجديد وأكسبته شكلاً ونظامًا جديدين.
لقد تعدَّت وولف الحدود الطبيعية للرواية الإنجليزية عن طريق البحث عن تكنيك جديد للتعبير عن رؤيتها للحياة وللطبيعة البشرية- أعلنت أنها ستبحث عن اسم جديد لكتبها- وتيار الوعي يمكِّنها من الغور في أعماق النفس البشرية ويجعلها قادرةً على التعبير بدقةٍ فيما يخص تأثير الحياة في الشخصية وترجمة هذه النفس البشرية ترجمةً حقيقيةً وواقعيةً؛ ولذا تُعَدُّ الرواية النفسية اقتباسًا مباشرًا من العقل؛ ليس فقط ما يخص اللغة ولكن الشعور ككل.
المراحل المختلفة لروايات فيرجينيا وولف
تتميز الروايات الأولى لفرجينيا وولف بالتقليدية البحتة فنيًّا وعدم النضج روائياً.
المرحلة الأولى: فالرواية الأولى (The voyage out)غير متقنة الشكل؛ لأنها عبارة عن سلسلة من الملاحظات التهكمية للحياة المدنية، أما الرواية الثانية (Day & night)فقد تطوَّر بناؤها جزئيًّا وسلكت مسارًا تجاه النضج الأدبي من حيث التناسق والوحدة، بالإضافة إلى أصالة الرأي والاتزان، ويمكن النقد الموجَّه إلى هاتين الروايتين في تعدد الرؤى نتيجة عدم التصالح بين المثالي والحقيقي: أي ما زالت الكاتبة في البداية.
المرحلة الوسطى: وصلت الروائية إلى مرحلة النضج تمامًا، ويبدو ذلك جليًّا في أعمالها الآتية : (Jacobs room, Mrs. Dalloway to the lighthouse) ، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
– 1 تحديد رؤيتها.
– 2 الإلمام والقدرة على استخدام التكنيك الجديد.
– 3 عدم الاهتمام بالحبكة؛ فرواية “مسز دالوي” تستمر ليوم واحد ومكان واحد وتتركَّز على علاقة مسز دالوي بقليلٍ من الشخصيات.
– 4 التركيز على الحياة الداخلية للشخصية.
– 5 القدرة على الانتقاء والتوضيح.
6 – البنية الجيدة للعمل الأدبي.
7 – التقنية الجديدة للسرد.
8 – وضع الشخصيات في بيئة منعزلة وبعيدة؛ وذلك للتركيز على الخبرات والاهتمامات الروحانية للشخصية كما هو الحال في رواية “إلى الفنار“.
المرحلة الأخيرة: لم تَسِرْ وولف على نفس المنوال الذي انتهجته في المرحلة الوسطى، ولم تصل بالتكنيك الجديد إلى مرحلة الكمال الفني بعد .لقد اتسمت روايتها الأخيرة بافتقاد أصالة الرأي وعدم التوازن بين المثالية والحقيقة والتدخلات المستمرة للراوي العالم بكل شيء، مع ذلك فإن هذه الروايات ذات قيمة فنية وجمالية بدرجة معقولة، وهذه الروايات هي: The waves, The years, Lo & between acts.
ولدت وولف في أسرةٍ أدبيةٍ مثقفةٍ، بدأت حياتها الأدبية بكتابة المقالات للمجلات الأدبية، وكتابة القصص القصيرة، بالإضافة إلى الدراسات النقدية التي تتميَّز ببصيرة نافذة وتقييم أدبي سديد، والتي يكمن نجاحها كروائية فقط دون غيره من الأنماط الأدبية الأخرى. تستحوذ المؤلفة على اهتمام القرَّاء فكريًّا وانطباعيًّا، وترى مدى تأثير شخصياتها فيهم؛ وذلك يؤكد واقعية روايتها، وترى وولف أن الرواية الحديثة تنكر الحبكة والشخصية والمأساة والكوميديا والحب بمفاهيمها التقليدية؛ فالرواية التقليدية تعطينا كل التفاصيل عن “بدلة” فُصِّلت في شارع “بوند” دون أن تُلقيَ الضوء على الأشواق والحنين التي تتمتَّع بها النفس البشرية.
ترى وولف أن الروائيين التقليديين من أمثال ويلز وجلزورزي وبينت ماديون من الدرجة الأولى؛ لأنهم اهتموا بالجسد على حساب الروح، وبالتالي فشلوا في إعطائنا صورة حقيقية للواقع المعيش؛ ولذا ترى أنهم يضحُّون بالمضمون من أجل الشكل الجيد، وفي المقابل تجد جميس جويس روحانيًّا؛ لأنه اهتم بالعقل، وهذا الاهتمام بالعقل هو الحياة نفسها . يهتم جويس بالحياة ككل؛ ما هو مهم أو غير مهم، ما هو كبير أو صغير، ما هو تافه أو ذو قيمة .
رواية (إلي الفنار)
رواية “إلى الفنار” سهلة في قراءتها، تقليدية في بنائها وحبكتها، تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: الشباك، الوقت يمر، والفنار. يُلقي الجزء الأول الضوء على الحفلة التي تقيمها مسز رامزي وزوجها وأبناؤها الثمانية في بيتها في جزيرة سكاي، وطبيعة العلاقة بين الأم وأبنائها، ومدى تأثير مسز رامزي في المدعوين، والكراهية التي يكنُّها الأبناء تجاهأبيهم، والاختلاف الجوهري بين الوالدين، وإلقاء الضوء على روح الدعابة عند مسزرامزي وجمالها الهيليني، وأهمية الفن، والصراع بين نوعين من الحقيقة، وأهميةالكوميديا، بالإضافة إلى الموضوع الرئيسي، وهو زيارة الفنار الذي يُعَدُّ بمثابة الحجر الذي أُلقي في النهر، مُحدِثًا أمواجًا متعددة تُبرز موقف الجميع من إمكانية زيارة هذا الفنار. يعكس الجزء الثاني مدى تأثير الغياب الطويل عن المنزل، وخاصةً بعد الحرب العالمية؛ حيث امتلأ البيت بالأتربة والوحدة والسكون.. وفاة مسز رامزي وعددٍ من الأولاد، وعودة البروفيسور رامزي مع اثنين من أبنائه. و يشير الجزء الثالث إلى زيارة الفنار، ومدى التغير الذي طرأ على الشخصيات، وخاصة البروفيسور.
يعود ظهور تيار الوعي في أوائل القرن العشرين إلى مدى انعزالية الحياة المتزايدة نتيجة انهيار القيم المتعارف عليها واندلاع الحرب العالمية الثانية التي لا تُبقي ولا تذر، وهناك أسباب أخرى لظهور هذا الفن الروائي الجديد:
أولاً: لم يعد ينظر إلى مفهوم الوقت على أساس أنه سيل مستمر من الأحداث، ولكن كسلسلة متقطعة، وقد ظهر هذا الاتجاه في فرنسا على يد هنري بيرجسون وهنري جميس في أمريكا، وكان تأثير مفهوم الوقت جليًّا في الحبكة الروائية.
ثانيًا: تأثير فرويد وجنج: ركز كلٌّ من فرويد وجنج على حقيقة تعدُّد المشاعر، واعتبرا أن شخصية الإنسان خلاصة ذكرياته، وعملية رؤية الماضي بطريقة شعورية تعد انتهاكًا لهذه الحقائق.
ثالثًا: نظرية برجسون: لقد قسَّم برجسون الوقت إلى: الوقت الداخلي أو الوقت النفسي، والوقت الآلي. ينظر برجسون إلى الوقت الداخلي على أساس أنه متدفق ومستمر، وعملية تقسيمه إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل عمليةً زائفةً وميكانيكيةً: “يعتمد الماضي على الحاضر وعلى الذاكرة والنتائج المترتبة على ذلك، وبهذه الطريقة يفرض هيمنته على المستقبل”، ولكن يدرس فرويد وأدلر وجنج الشعور البشري ويفهمونه بعيدًا عن الثبات وعدم التغير، ولكن كشيء متدفق متغيِّر باستمرار، وبالتالي يصبح مختلفًا؛ استجابةً للمشاعر والحواس التي يتلقاها من الخارج.
تعتبر رواية زيارة الفنار رواية نفسية بامتياز، ومع ذلك فهي محكمة البناء والشكل، وهناك مواجهة صريحة بين الزمن الآلي والزمن الداخلي، والانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن شعور إلى آخر. ولكن يعتقد بعض النقاد أن العمر الافتراضي للرواية النفسية قصير؛ لأنها بلا شكل وتفرض على القارئ متطلبات متتابعة، ومع ذلك فالرواية النفسية نوع أدبي، ومن الصعب أن تعود الرواية مرة أخرى إلى الطريقة التقليدية.
الرمزية
تهيمن الرمزية علي أحداث الرواية من بدايتها حتي نهايتها ملقية الضوء علي الوعي الداخلي للشخصيات المحورية. يتسم الرمز بالتكامل والانسجام والوحدة، ومن ثم يبدو المعني الذذي تنشده المؤلفة واضحاً للقارئ وخاصة أن أحداث الرواية تدور حول هذه الرموز مثل: الفنار، والبحر، ومز رمزي، ولوحة ليلي، ومنزل مز رمزي، وجمجمة الجنزير، وسلة الفاكهة. يعطي هذا التكنيك إنسجاماً واضحاً لشكل ومضمون الرواية.
تعكس هذه الرموز المفاهيم الشخصية ل قيرجينيا وولف فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية ومدي رؤية وتقييم هذا الواقع المعيش. يسعي الانسان في العصر الحديث إلي تحديد معني وقيمة الحياة وكيفية التعرف عليها بالاضافة إلي امكانية التواصل مع الأخرين (تعتقد المؤلفة أن هذا التواصل ضرب من المحال). القراءة الأولي للوحة التي رسمتها ليلي تؤكد أن شخصية الانسان مجهولة عمن يعيشون حوله. ومع ذلك تبحث وولف بطريقة شخصية عن هذه الحقيقة عن طريق تزويد بعض من شخصياتها بعض التوضيحات اليومية البسيطة بالاضافة إلي التفاعل النفسي فيما بينهم من أجل الاهتداء إلي هذه الحقيقة المنشودة ولكن في الوقت الذي تراه هي مناسباً بسبب تأثر رؤيتهم الخاصة للحقيقة عن طرية علاقاتهم وتفاعلاتهم مع الأخرين (تنتقل وولف بمهارة من عقل إلي عقل). يتخذُ مفهوم وولف للحقيقة وكيفية اكتشافها نمطاً صوفياً مذكرا إيانا بالصوفية الشرقية التي تنشد التنوير والهداية في الحياة الدنيا.
لا يمكن وصف المعني الملاحي للأحداث الذي يمكن الشخصيات من المعرفة والاهتداء للحقيقة بطريقة أدبية أو عقلانية واضحة: المؤلفة تقترح ومن ثم يشعر القارئ بما تصبو اليه الأولي في روايتها. تعتقد وولف أن الحقيقة مجردة تماما ومن ثم لا يمكن التعبير عنها بطريقة مباشرة. من المهم أن ندرك أن تفسير مفهوم الرمز عند وولف فطري كما هو الحال مع الابداع.
الفنار
الفنار وسيلة بنائية استخدمته وولف بحكمة وفطنة منذ بداية الرواية حتي اسدال الستارة. تبرز الأجزاء الثلاثة للرواية أشعة الفنار المتصلة ثم فاصل من الظلام يتبعه شعاع مؤقت. يستطع القارئ أن يدرك رمزية الفنار إلي الأتجاهات المتناقضة تجاه الحياة وخاصة في منزل السيد رمزي وزوجته. فالفنار محور اهتمام الرواية سواء بطريق ضمنية أو تصريحية.
رمزيةُ الفنارِ ذو معانيٍ متعددةٍ تختلف من شخصية لأخري حيثُ يتغير ويتبدل كالحقيقةِ تماماً: تتبدل طبيعةُ الفنار علي حسب السياق الذي تدركه كلُ شخصية علي حده. يمثل الفنار السعيُ وراءَ القيم- القيم التي تبض بها لوحةُ ليلي بالإضافة إلي الجهد البطولي لــمز رمزي لخلق نوع من النظام من رحم الفوضي. يقف الفنارُ منعزلاً عن هذا العالم الفوضي ليُلقي الدفءَ والنورَ عليه، ولكن دون أن يستطيع أن يغير شئياَ. ولكن مع نهاية الرواية يصل هذا النور إلي كل من السيد رمزي وجيمس وليلي بعد أن يصلوا اليه. يرمز هذا الانقال إلي تأسيس الدفء والعلاقات الحميمة بين الأفراد [ اتحاد ضد الفوضي]: ما زالت مز رمزي موجودة في مخيلة ليلي حتي بعد وفاتها عند وصولهم إلي الفنار. يتكامل هذا الحب المستمر مع النور المضيء للفنار [ نور الحقيقة والذكاء] ليأخذ يأيدي ليلي إلي مرحلة البصيرة النهائية. يبدو واضحا أن مز رمزي مسئولة عن تصالح الأب مع الابن وخاصة بعد مدح السيد رمزي الدافئ ل جيمس. الجزيرة الصخرية التي ترمز إلي الحقيقة القاسية للوقت المعيش- الموت والقضاء والقدر- تشير إلي التناقض الصارخ بين البستان المزدهر دائما في الماضي وبين بستان مز رمزي الذي صنعته من قبل وما ﺁل إليه.
البحر
هذا الرمز المائي انعكاس جيد للسيلان والجريان الدائمين للحياة والزمن. يتغير البحر بصفة مستمرة: تجده في وقت ما هادئا ذو تأثير مريح. وفي وقت أخر تجده قوة همجية لا تبقي ولا تذر. يحتضن البحر الجزيرة والفنار بين ذراعيه عند نهاية الرواية [ يحيط البحر بكل من الفرد خاصة والجنس البشري عامة]. ومع ذلك فالفنار [من صنع البشر] قادر علي مقاومة تخريب البحر [الزمن]، ولذا يمثل البحرُ الاستمرار الدائم للبشرية والقيم الانسانية.
مز رمزي
مز رمزي إمرأة جميلة وجمالها يفوق العادة [تشبه مز رمزي أم المؤلفة]، ومع ذلك فهي متواضعة وليست متغطرسة بشأن جمالها. تهتم مز رمزي بالمممتلكات المادية، ومع ذلك تحصد الكثير من المتعة بسبب مواقفها اليومية العادية مع عائلتها وخاصة أطفالها. يفوق جمالها الروحي جمالها البدني ، ويعشقها أبناؤها الثمانية- فهي تشبه كورنيليا الأرملة الأسطورية الروحية التي أعتبرت أطفالها كنزها الحقيقي. تحتضن مز رمزي الجميع برقة وحنين وجمال وخاصة المرضي وذو الحاجة. ولكن ينال أبناؤها نصيب الأسد منه.
تعتقد ليلي أن زواج السيد رمزي ومز رمزي زواجاً سعيداً. ومع ذلك هناك فجوة- حائط من العزلة بينهما مع أن وولف تقترح أن هذا الزواج جيد. كرست مز رمزي حياتها لكل من زوجها وأطفالها، وفي نفس الوقت حرمت نفسها من متع الحياة المختلفة- لم تعبر عن حبها لزوجها بطريقة مباشرة مع أنه كان يصبو إلي ذلك دائما. هذه المشاعر الجياشة في النهاية تعجز الكلمات عن التعبير عنها. وحدة وانعزالية الفرد يمكن أن يسمو من خلال الأفعال والفن الذي ينشد المشاعر الفياضة بالإحساس والحياة. يري بعض النقاد أن مز رمزي شخصية مسيطرة مدمرة، وبالتالي التكامل داخل هذه الأسرة غير ممكن ما دامت علي قيد الحياة. وهناك دليل أخر يؤكد ذلك إما في الرواية نفسها أو عند فحص وجهات نظر المؤلفة الخاصة في أعمالها النقدية.
هناك علاقة وثيقة بين شخصية مز رمزي والفن. تكمن هذه العلاقة في استمرارية تأثيرهمها في الحياة. تسعي الأولي إلي خلق علاقات اجتماعية دافئة وإلي النظام الذي يخرج من غيابات الفوضي والحقد واختلاف وجهات النظر. تحاول دائما إنهاء الصراع بين البشر من أجل التكامل بطريقة تحقق تميزاً مستمراَ. ويؤكد ذلم عزمها واصرارها علي التوفيق بين البشر عن طريق الزواج، وخير مثال علي ذلك بول ومنتا.
لوحة ليلي
يرمز الفن إلي الحقيقة. الحياة قدر لها أن تكون علي رحمة كلٍ من الزمن والتغيير: فالانسان فانٍ والحياة عابرةٌ. الفن لديه القدرة علي صهر المؤقت والدائم في بوتقة واحدة من أجل الخلود. اللوحة التي انتهت ليلي منها مع نهاية الرواية تعيش أبد الدهر. أما مز رمزي فتعيش في ذكريات من أحبوها وعرفوها طيلة حياتهم فقط، ولكن تصبح نسيا منسيا مع رحيلهم.
يعد الشعر تجسيدا لروح الفن والقدر. ولذا يلعب الشعر دورا هاما في الرواية حيث يعطي كل من السيد رمزي وزجته اهتماما كبيرا وخاصا للشعر. يظهر كارميتشل الشاعر في المشهد الأخير من الرواية مأثرا علي ليلي لمعرفة الحقيقة. رؤية ليلي الفطرية للحقيقة التي يرمز اليها من خلال قدرتها علي الانتهاء من اللوحة قائمةٌ علي أن الحقيقة مرادف للعلاقات المنسجمة بين الأباء والأبناء والرجال والنساء والانسان والطبيعة والماضي والحاضر. الفوضي وعزلة الفرد عن بعضهم البعض يُسهمان حليا في تدمير مفهوم الحقيقة. مع أن مز رمزي تعاني أحيانا من نقص في الدخل وصعوبات في علاقاتها مع الأخرين فهي خير مثال للحيوية والانسجام والدفء العاطفي. ولذا بمجرد أن تهتدي ليلي إلي هذه الميزة تسطيع أن تدرك معني القيمة الحقيقة للحياة.
الانسان دائما تحت رحمة القوي المدمرة للزمن، ولذا نجده يسعي إلي اختطاف لحظات أو ذكريات من الحب والاستقرار والحب. ومع ذلك تبوء كل محاولات الوصول إلي هذا النظام المتكامل من رحم الفوضي العارمة بالفشل. ولكن ينتصر الوميض البسيط المنبعث من الفنار علي التدفق الأبدي للزمن. يتطلي كلُ من الفن والزمن تلكَ الموهبة التي تمتلكها مز رمزي وتفقدها منتا بوضوح. وبما أن ليلي فنانة فهي تدرك ما تصبو اليه مز رمزي، ومن ثم تجعل هذه النظرة إلي الحقيقة/ الحياة دائمة الحضور/ الوجود. وهذا الحضور يسمو بمعاناة وضعف الجنس البشري ونهايتهم.
منزل عائلة رمزي
يعد منزل عائلة رمزي مسرد حيث تشرح وولف وشخصياتها معتقداتهم وملاحاظتهم. اعتقدت مز رمزي أثناء الحفلة التي أقامتها في منزلها أن هذا المنزل يعكس معتقداتها الداخلية للبذاءة وعجزها علي الحفاظ علي جمالها. في الجزء الثاني من الرواية نجد أن أثار الحرب والدمار ومرور الزمن قد انعكس فقط علي ظروف البيت أكثر من التطور العاطفي أو النمو العمري الملاحظ للشخصيات. يعبر هذا المنزل عن الوعي الجماعي للذين يقطنونه: تحن بعض الشخصيات أحيانا إلي الهروب منه، وأحيانا اخري يهرعون إليه كملجأ يحميهم من غدر الزمان. منذ حفلة العشاء في الجزء الأول حتي زيارة الفنار في الجزء الأخير تبرز المؤلفة هذا المنزل من جميع زواياه حيث يعكس بناءه ومحتواه ما يدور في لب وعقل من يسكنونه.
جمجمة الخنزير
قد يتخذ المرموز له إطارا معنويا وليس شيئا مجسدا. بعد أن يسدل الستار علي الحفلة تصعد المضيفة إلي الطابق العلوي لتهدئ من روع وفزع أبنائها لخوفهم من جمجمة الخنزير المعلقة علي الحائط. تذكرنا هذه الجمجمة بأن الموت دائما قريبُ حتي وأنت في أسعد لحظاتك.
سلة الفاكهة
ترتب روز سلة الفاكهة من أجل الحفلة. ترمز هذه السلة إلي المعاناة الخاصة للمدعوين ومحاولة اتحادهم. مع أن كارميتشل ومز رمزي استحسنا تنسيق السلة كل بطريقته الخاصة، نجد الأول ينتزع زهرة، والثانية ترفض أن تمسها بسوء. يؤكد هذا الرمز القيمة المتجمدة للجمال الذي توصفه ليلي وإلي القيمة الهادئة والمغرية لهذا الجمال.
الكتابة عبر النوعية: صهر النثر والشعر
يعد الجزء الثاني من الرواية “يمر الوقت” قطعة غنائية شعرية تعبر عن قدرة الروائية الشعرية. حاولت وولف أن تجمع بين الحسنيين- الشعر والنثر- رغبةً منها في إبراز القوي الكامنة فيهما معا. يكمن نجاح الجزء الثاني من الرواية في استخدام اللغة المجازية التي تُعد أحد الوسائل اللميزة للرواية الجديدة- رواية تيار الوعي. تُعتبر هذه اللغة المجازية وصفية لأنها لم تُستخدم للكشف عن الأغوار الداخلية للوعي.
لا تَستخدمْ اللغة المجازية الكلماتَ بطريقةٍ دالة حيث يستنبط المعني عن طريق الاعتماد علي المعني الضمني وجمع الكلمات لتوسعة معانيها بطريقة مجازية لا أدبية. يستند هذا الاستخدام للغة علي درجة إختلاف الأفعال، وبدقة مرهفة يضفي معاني متعددة بسبب غموضها الأساسي وجمعها لأفكار متنوعة وتداعي المعاني في كلمة أو جملة واحدة.ٍ
تعالج الرواية ما تتعرض له الطبيعةُ من دمار وتخريب نتيجة تدخل الإنسان. تتطلب هذه الموضوعات تقنية خاصة لأنها أساساً محسوسة بطريقة متصلة بالخيال الحسي الذي يخلق صورة انطباعية للرؤية والصوت واللمس. بالإضافة إلي ذلك تَستخدم وولف العديد من المجازات لإبراز التأثير العاطفي لما يُفهم مستدعيةً حالة نفسية معينة كما هو الحال مع صورة معينة.
بالإضافة إلي استخدام الاستعارة والتشبيه لإلقاء الضوء علي الظلام والتلف في العالم يُستخدم التشخيص في إبراز صورة معبرة للرواية. ولذا نجد الظلام والهواء والنور والسكون والزهور والعزلة والصمت وفصول السنة والفنار والكون ذو مدلولات خاضة بهم. فمثلا يوصف الظلام مع الخيال المائي حيث يُسكب الظلام مثل المطر محدثا فيضانا يتسلل إلي المنزل ليبتلع الأشياء التي يقابلها في الممرات. ينطبق نفس الشئ تماما مع الشتاء الذي يحتضن الليالي بين يديه متعاملا معها بانتظام مثل أوراق الكوتشينه. الهواء الموجود في المنزل يتنفس ويتنهد. ينزلق النور من غرفة إلي أخري. يعطي هذا التشخيص للسكون [ سمة الموت] القدرة والميزة الحيوية علي الحركة. هذه القوة والسطوة للدمار أفضل بكثير من الوصف الأدبي: عندما تشعر مز رمزي بالوحدة تتشابك يديها ويصبح التأثير أكثر بلاغة.
الطبيعة تفكر وتختار من أجل أن تُهيمن علي المنزل الذي بناه الإنسان المعتدي علي حرمتها. وفي الوقت نفسه غير مبالية تماما بالوجود البشري من حولها. يرمز الشال الذي ترتديه مزرمزي إلي الدفء الذي يشعر به الأخرون، ولقد تكرر ظهوره عدة مرات في الرواية وخاصة في الجزء الأول. يتعرض هذا الشال تدريجيا إلي التفكك والتلف وخاصة بعد وفاتها. يرمز هذا التلف إلي القرن العشرين وما ألم به من فساد وتخبط وتدمير وأنانية.
لم تتوقف وولف عند هذا الحد من استخدام اللغة المجازية، بل استخدمت التقديم والتأخير والسجع الخفي [ليس تشابه بداية الأصوات] و الأنافورا والمجاز المرسل والنداء والاتكاء في الكلام والمبالغة.
الاستخدام الانطباعي للخيال والرمزية في الأدب ذو تأثير فعال حيث يستدعي حالة ما تسعد بها الحواس، ويبدو ذلك جليا في الجزء الثاني. يعد هذا التأثير عاطفي في المقام الأول- تسجيل الفعل وردة الفعل بالنسبة للشخصيات أو القارئ. ومع ذلك لا يؤيد بعض النقاد صهر الشعر مع النثر لأسباب متعددة منها:
1. القراءات المتعددة للرواية.
2. فقد التأثير علي الحبكة والصراع نظرا لهيمنة رد الفعل علي الفعل نفسه.
3. ذاتية الرواية نتيجة فقدها للمادة.
4. الخيال الانطباعي أكثر نجاحا عندما يستخدم كمكمل للحدث والوصف السردي وليس كبديل.



#أشرف_إبراهيم_زيدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجرة والشتات والمنفى في الرواية
- حلمي القاعود روائيا
- الذَّوَبَانُ الثَّقَافِيُّ وَأَثَرهُ عَلَى الفَردِ وَالأَمنِ ...
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ...
- روايات البريطانيين السود
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ...
- الشتات الأفريقي
- رواية المستعمرات (ترجمة)


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أشرف إبراهيم زيدان - قراءة في رواية فيرجينيا وولف (إلي الفنار)