|
|
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري) 4
سامي الذيب
(Sami Aldeeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 23:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كتاب رائع يستحق القراءة ------------------------ رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري) ---------------------------- القسم الرابع من هذا الكتاب الذي يمكنكم تحميله مجانًا من هذا الرابط https://www.academia.edu/144829115 ----------------------------- الجنة -------- غادرتُ مكتب رضوان بعد أن حصلتُ منه على تأشيرة الدخول الى جنة عدن، رحلة واحدة فقط بإقامة مفتوحة بالشرطين الذين أوصاني بهما. دوّن بياناتي في جهاز الآيباد الذي يتدلّى من عنقه ثم مرّره على راحة يدي كما يفعل موظفو المنافذ الحدودية التي كنت أسافر عبرها في دنياي الفانية. تقودني قدماي نحو سور الجنة وأنا مازلت أقاومُ شعوراً بعدم التصديق أنني على وشك الولوج الى الفردوس الموعود الذي وعدَ الله به عباده الفائزين. أتأمل السور عن قرب فإذا هو حائط طوبه من الذهب الخالص لا أستطيع ادامة النظر إليه من شدة سطوعه تليه لبنات من الفضة تتخلله، مثل كاسرات الضوء، كي لا يخطف الأبصار. تتدلّى من قمة السور أغصان خضراء تتفّتح عليها أزهارٌ بألوان لم أرَ مثلها قط، أوراقها تُغلق وتتنفس وكأنها تلطّف من حدة لمعان اللبنات المذهّبة. عبثًا حاولت التعرف على أيٍّ منها، رغم خبرتي السابقة حين عملت في مشتل لبيع النباتات، قبل أن أنتقل إلى هيئة الترفيه. أدخل من «باب المتوكلين»، الذي تعلوه يافطة كبيرة مضاءة بما يشبه مصابيح النيون الملون وقد نُقش عليها بأحرف بارزة من خط النسخ «ادخلوها بسلام آمنين». دخلتُ عبر البوابة المهيبة التي لا يبدو لها حدّ، وقلبي بين الرجاء والرهبة، غير مصدق أني سألج الى جنة النعيم. ألتفتُ حولي خشية أن يكتشف أحدهم خطأ ما في الإجراءات فيمنعني من الدخول. أحس بقدمي خفيفة وكأنني أطفو مثل رواد الفضاء الذين كنت أشاهدهم يمشون على سطح القمر في مقاطع اليوتوب. أسير على تربة ناعمة، ممزوجة بما يشبه الزعفران وماء الورد، تبث في الهواء عبقا منعشا وتعيدني بذاكرتي إلى ماء الورد الطائفي الذي كنت أبيع منه زجاجات صغيرة عندما كنت طفلًا في حارتنا. ما إن عبرت البوابة، حتى أحاطتْ بي مجموعة من الحور الحسان، تصدح من حناجرهن ترانيم تمجّد الله وتحمده على التمام والكمال. بادرنني بالسلام ثم هنّأنني بسلامة الوصول، وأهدينني أكاليل من الورد الأبيض الناصع. التقطت إحداها وقرّبتها من أنفي لأشم عبيرها، فإذا بها تتفتح في لحظة، ثم تتحول بين أصابعي إلى ما يشبه الحلوى. أشارت إليّ إحدى الجواري أن أتذوقها، وأنا الذي لم أذق بعد طعاماً أو شراباً منذ صعودي إلى الملأ الأعلى، ولم أشعر بجوع أو عطش. فركتها برفق بين يدي لتتحول الى كرة لزجة داكنة السواد محشوة بقطع بيضاء كجوز الهند المغموس بالشوكولاتة. طعمها أطيب وألذ من كل الحلوى التي ذقتها في حياتي الفانية. تشجعت والتقطت وردة أخرى لأتذوقها، لكنها هذه المرة تحولت بين يدي إلى حورية لم أرَ أجمل منها. تقفز بخفة من بين يدي لتقدم لي كأسا من شراب حلو بارد امتزج طعمه برحيق الحلوى وأنساني كل ما مررت به من آلام في دنياي. همست لي بأنها كانت تنتظرني قبل أن أولد، وأنها ستكون رفيقتي استدعيها متى شئت بمجرد التفكير بها. شكرتها وتابعت المسير رافعاً بصري، لأرى قبة عظيمة لا شمس فيها ولا نجوم؛ فلا ليل ولا نهار، بل قبة هلامية يشعّ منها نور لطيف، يغمر المكان بهالة من الضياء الخافت والظل الدائم. أما الهواء فكان لطيفاً عليلاً يميل قليلاً للبرودة، يذكرني حين أضبط ثرموستات التكييف في بيتي على درجة ٢٤ مئوية، أو بنسمات روضة برودان قرب قريتنا الرغبة في يومٍ خفيف المطر والسماء تمطر ديمة لا تنقطع. ظهر أمامي تل صغير، يخفي وراءه مشهداً آخر مثل سرّ مخبوء. صعدت التل بخفة لأطلّ على مشهد يسحر الألباب؛ منازل وقصور على مد النظر، أنهارٌ وعيون، أشجارٌ وطيور وأناسٌ متفرقون في تلك الرياض الخضراء اليانعة. نزلت من التل وسرت في طرقات تتبدل تربتها تحت قدمي إلى حصباء تشبه تلك التي في بطون الأودية لولا أنها حبات من اللؤلؤ الممزوج بالياقوت الأحمر، تبرقُ مع كل خطوة. الرجال والنساء هنا في سنّ واحدة تقريبًا، وكأنهم جميعاً في منتصف الثلاثين، وعلى هيئة متقاربة في الشكل والطول. حين رأيتهم يمشون سويا، مختلطين وهم يضحكون ويتبادلون الحديث، عادت بي الذاكرة إلى عملي السابق في الهيئة، حين كنت أطارد الشبان والفتيات في الأسواق والطرقات، لأفرّقهم بعضهم عن بعض، خشية أن يدخل الشيطان بينهم. ملابس أهل الجنة زاهية فاقعة الألوان، يغلب عليها الأخضر والأصفر، بحواف مزركشة تذكرني بأزياء أبطال المسلسلات التاريخية التي كنت أشاهدها في صغري. صوت الحلي والقلائد المعلقة في الصدور والمعاصم والكواحل تصدح وهي تتصافق في مشهد سريالي طريف، يذكرني بفرق الهيفي ميتال من سبعينيات القرن الماضي. لو أعطيت أحدهم غيتاراً، لظننت أنه عازف في فرقة هارد روك. أتابع سيري وسط جمع من الناس، يبتسمون لي ابتسامة العارف وكأنهم يدركون أنني وافد جديد. يرفع أحدهم إبهامه علامةً على أن كل شيء سيكون على ما يرام. أبادلهم التحية، وأنا لم أعتدْ بعد على تلك الأحوال العجيبة والمشاهد والوجوه الجديدة. تمرّ من حولي سيارات مسبوكة من الذهب الخالص تجوب الطرقات، معظمها من نوع الكشف التي تعانق الهواء برشاقة وبعضها من ذوات الدفع الرباعي لصعود المرتفعات وكأن التلال تنحني تحت عجلاتها اللامعة. تذكرت أجواء فيلم «أفاتار» من أفلام الخيال العلمي الذي شاهدته يوماً في صالة السينما، لكنني الآن لا أراقب الشاشة من الخارج؛ بل أعيش التجربة من الداخل وكأنني أحد شخصيات الفيلم. أواصل طريقي بين مناظر تتناوب في إبهاري، فأمرّ بقصور تذكرني بتلك التي رأيتها في بيفرلي هيلز، وأكواخ أنيقة تردّني إلى ذكريات رحلتي مع زوجتي إلى الريف السويسري خلال شهر العسل. تقدمت حتى أشرفت على غابة ذات أشجار عجيبة؛ جذوعها متوهجة كالذهب، وأوراقها تلمع كحبات اللؤلؤ. عند المدخل، تراكمت أكوام من ملابس زاهية الألوان، براقة، وقد ألقاها أصحابها مبعثرة بلا ترتيب، كأنهم قد خلعوها على عجل في لحظات لا تحتمل التأني. انحنيت لأتفحص تلك الأقمشة المزركشة بخيوط ذهبية، وإذا بي أكتشف أنها ليست من حرير ولا من قطن، بل هي مصنوعة من مادة البوليستر. لكن ما أثارَ دهشتي حقاً هو الملصق الصغير المثبت أسفل كل قطعة، وعليه عبارة: «صنع في الصين»! وبينما أنا أعاين تلك الملابس، تتناهى إلى سمعي أصواتٌ خافتة، أقربُ الى الهمسات الممزوجة بالأنين. أقتربُ أكثر وبحذر لأتبين مصدر الأصوات، فإذا هي تأوّهات شهوانية تتخللها كلمات وأحاديث تدلّل وعبارات شبق وإيقاعات هزّ. وفجأة وجدتُ نفسي أمام صفوف من السرر المتقابلة، عليها رجال ونساء عراة، يمارسون الجنس في مشاهد تتراوح بين اللقاءات المنفردة والممارسات الجماعية، في هيئة لا تخلو من الانفلات الصارخ، وكأنني وسط حفلة عربدة وتهتّك، كتلك التي كنت اختلس النظر إليها في موقع البورنو هب الإباحي على الإنترنت. أفزعني المنظر، فغادرت المكان سريعاً وبين ضلوعي مشاعرُ مختلطة من الاشمئزاز والتعجب. خرجت هائماً على وجهي محاولا أن ألتقط أنفاسي، وباحثا عن نسمة تهدئ من روعي، فإذا بصوت عذب ينساب من بعيد، أقربُ إلى الغناء منه إلى الكلام. توقفت للحظات محاولاً تتبع الصوت وأنا غير مصدق أذني، أيمكن أن يكون هنا أحدٌ يغني؟ ولمَ لا. كل شي ممكن هنا. تمتد أمام ناظري حديقة غناء، تتناثر بين جنباتها شجيرات متوسطة القامة، مقصوصة الأطراف بعناية حتى بدتْ وكأنها لوحة طبيعية من وحي الخيال، كتلك التي كنت أراها معلقة في قاعات المتاحف. قادني الصوت عبر تلال منبسطة، مغطاة بحشائش خضراء ناعمة ومزينة بأطراف من عناقيد اللؤلؤ، وفوقها على ارتفاع قليل تحلق فراشات ملونة، لتضفي سحرًا على المشهد. اقتربت أكثر، محاولاً فهم ما يقوله هذا الصوت العذب، أدركت حينها أن الصوت لامرأة. واصلتُ السير نحوها بخطى متسارعة حتى وقعت عيناي عليها أخيرًا. فتاة ترتدي قبعةً عريضة الحواف يتدلى منها شريط أحمر، وفستانًا قصيرًا منفوشاً أحمر اللون مرقطاً بنقط بيضاء، وكأنه من أزياء الستينات الصيفية في القرن العشرين. كانت تغني بمرح وحبور، وتلاحق الفراشات بخفة وسعادة، كما لو كانت جزءًا من هذا المشهد الساحر. «يا. يا. يا واد يا تئيل. يا. يا. يا مشيبني. يااااه، دانا بالي طويل. وانتا. إنتا عاجبني!» تقدمت ببطء وأنا أنقل قدميّ بخفة على عناقيد اللؤلؤ التي تكسو الأرض، فيما صوتها العذب يتردد في الأجواء، لكنّ وقع خطواتي جعلها تنتبه فجأة فتتوقف عن الغناء. حاولت أن أختبئ خلف إحدى الشجيرات، لكنها لاحظتني فنادت بصوت مرح: «مين هناك؟» تلعثمت وأنا أجيب: «أنا. أنا ابن السارح». سألت وهي تضحك: «بِتعملْ إيه عندك؟» قلت مبتسماً: «أستمتع بالصوت الجميل. وبالقدّ الميّاس، سبحان من صوّر!» احمرّ وجهها خجلًا، فاغتنمتُ الفرصة لأقترب أكثر، وعندما أصبحت قريبًا بما يكفي، ميّزتُ ملامحها. تبادلنا السلام والتحية، ثم سألتها بذهول: «من؟ أنتِ. أأنتِ السندريلا؟» ابتسمتْ وقالت بسعادة: «سعاد حسني، يا أفندم». لم أستطع إخفاء دهشتي: «معقول؟» ردّت بخفة: «هوّ إيه اللي معقول؟» قلتْ بحماس: «لم أتوقع أن أرى بطلة خلي بالك من زوزو و صغيرة على الحب و’السفيرة عزيزة هنا في دار السلام!» ضحكتْ قائلة: «يعني هوّ بسْ انت اللي حتدخل الجنة؟» أجبت مرتبكا: «لم أقصد ذلك». رفعت حاجبها مسائلة: «أماّل تقصد إيه؟» تنهدت وقلت: «سمعت أحدهم قال إنك غادرتِ الدنيا منتحرة بعد أن سقطت من شرفة شقتك في لندن». قاطعتني بابتسامة: «ما تصدّقهوش». «يعني غير صحيح؟» ردت بهدوء: «وحتى لو صحيح، ما تحكمش على الناس. وبعدين، أنت وغيرك ما تعرفُوش اللي بيني وبين ربنا». «فعلاً، كلامك صحيح». أجابت بثقة: «ربنا شملني بلطفه ورحمته اللي وسعت كل حاجة». قلت لها ممازحًا: «بأمارة إيه؟» ابتسمت وقالت: «بأمارة حاجات كتير مستخبّية. برسايلي لربنا ودعواتي ليه. وبأغنية غنّيتها وماحدّش مفتكرها». ثم بدأت تغني بصوت شجي: «لحظة سجودي هي دي لحظة لقاك. وفي كل خطوة ماشي جنبي ملاك. وفي كل دمعة من العيون بتسيل. تلمع في نور شمسك وتحضن سماك». قلت ممازحا: «يعني تريدين مني أن أصدّق بأن أغنية مجهولة ترجح في موازين الله؟» «وانت ايه اللي عرّفك في موازين ربنا؟ ما مُمكن الحاجة اللي بتشوفها قليّلة عند الناس بتكون كبيرة عند ربنا». قلت موافقاً: «لله في خلقه شؤون وفي تدابيره الحِكم. وماذا بعد، أيتها السندريلا؟» أجابت وهي تضحك: «ولا حاجة. دَه إسعاد الناس يا فندم وادخال البهجة على قلوبهم ليه فضل عظيم. ربنا يبصّ على القلوب زي ما يبصّ على العمل». أخذنا الحديث الممتع عن حياتها في الدار الفانية، وأتتْ على بعض أسرارٍ مدفونة واخرى توقفت عن البوح بها، وكأنها تفضّل أن تبقى مدفونة. انتهزتُ الفرصة وقلت لها: «عندي طلب أخير. هل يمكن أن أسمعك تغنين الدنيا ربيع والجو بديع ؟» ابتسمت بلا تتردد، وبدأت السندريلا تغني بمرح طفولي مُعدٍ، سرعان ما جذب إليها كل من كان قريبًا، فاجتمع حولنا شباب وفتيات، وكأن جمالها وروحها المشرقة اجتذبا الجميع كما كانت تجذب الفراشات التي كانت تلاحقها منذ قليل، فما تدري منْ يلاحق جمال منْ. لكنّ شيئاً ما فيها، يميزها عن كل من حولها؛ جمالها ليس صاخباً ولا مزخرفاً بل هادئ دافئ، يألفك وتألفه وتستشعر دفء حضوره، كأنه يتسلل برفق إلى أعماق روحك دون ضجيج أو بهرجة. هو جمال لا يفاجئك بكثرة ألوانه ولا بغزارة تفاصيله، بل يمتدّ كجذور عميقة في طين الأرض الفانية، التي احتاجت دهوراً لتُنتج بشراً مثلها. جمالها متجذر، أرضي وطبيعي، لا يشبه جمال الحوريات السماوي المُصنَّع، الذي يكاد يكون أشبه بمنتجات الذكاء الاصطناعي الباردة وخواريزماته، خاليا من روح ومعاناة الحياة الحقيقية. وحين فرغتْ من الغناء، نظرتُ إليها قائلاً: «لدي سؤال أخير لا بد أن أسأله قبل أن أغادر». ردّت ممازحة: «إيه، جاي تعملْ معايا لقاء صحفي؟» ضحكت وأجبت: «يُقال إنك تزوجت أكثر من مرة في الحياة الفانية. فهل كان عبدالحليم أحدهم؟» ابتسمت وقالت بمرح: «ما تسأله هو». تساءلت بدهشة: «تقصدين أن حليم هنا في الجنة؟» أجابت بخفة: «أيوه، بس يمكن في مرتبة أقل مني بشويّة. بتاع خمسمية سنة!» قلت مترددًا: «ليس عندي كل هذا الوقت لأنزل إليه وأسأله». ردّت ضاحكة: «ليه، فاكر نفسك هتطلع من هنا أو ترجع للدنيا؟» تذكرت حينها طلب رضوان لي بأن أكتم خبري، واكتفيت بالابتسام. ثم سألتها: «على الأقل، أخبريني. من هو زوجك الآن؟» ضحكت مجدداً وهي ترد: «هو كل حاجة عندكم تتمحور حول الجواز؟ أنا مبسوطة زي ما أنا. في ظل رحمة ربنا». ثم بدأت تبتعد وهي تتراقص وتقفز وتغني، والغلمان والفتيات يجرون خلفها في مشهد بديع، والجو ربيع. تابعت مشيي وأنا أفكر في السندريلا وما جاءت على ذكره سريعا من الخبيئة التي بينها وبين الله، وخطر ببالي قولٌ قديمٌ قرأته لأهل التصوف من أن «الأركان عندهم أربعة: كف الأذى وحمل الجفا وشهود الصفا ورمي الدنيا بالقفا». ربما كان هذا هو ما عنته بحديثها، لكنّ نظرات عيونها الأخيرة الحائرة وأنا أغادر بقيتْ لغزاً عالقا في ذهني. وكأنها تريد أن تبوح بشيء لم أفهمه. وفيما أنا سارحٌ بأفكاري، إذْ بصوت ينادي مستغيثًا طالباً المساعدة. ألتفِتُ نحو مصدر النداء، فأرى رجلاً واقفا أسفل شجرة عملاقة ملتفة الأغصان، ملوّحًا بيده وهو يستنجد بي لدفع سيارته الكاديلاك والتي علقت عجلاتها في تربة عجيبة، مزيج من المسك والعنبر، وقد تحولت إلى طين لزج بفعل ماء الزعفران المتساقط من الشجرة. تساءلتُ في نفسي أين فرق الصيانة عنه، ولمَ لمْ تبادر لنجدته؟ لعلّ عدد الداخلين في النعيم قد زاد بفضل الله فلم يعدْ المجنّحون قادرين على تلبية كل طلباتهم في وقت واحد، أو ربما هي حكمة الهية تقتضي ذلك وكفى. أقترب من السيارة لأرى ملصقا مكتوب عليه «كداليكَ نجزي المحسنين». بجانب الرجل تجلس حسناء فاتنة، ذات قوام مكتنز، بأرداف مستديرة ونهديْن نافرين. وفي المقعد الخلفي، تجلس حوريتان نحيفتان، بملامح أقرب إلى عارضات الأزياء اللواتي يتألّقن على أغلفة مجلات الرياضة بملابس البحر. بعد أن ساعدته في تخليص سيارته من ذاك الطين العطري العجيب شكرني الرجل وعرض علي أن أختار إحدى الحوريّتين في الخلف، هدية منه، لكني اعتذرت بلطف، مذكّرًا نفسي بوعدي الذي قطعته لرضوان. هزَّ رأسه ضاحكًا وقال: «ربما تفضّل الكواعب الممتلئات مثلي؟ إذا كان الأمر كذلك، دعني أنفخ في إحداهن لتصبح مثل رفيقتي هذه التي بجانبي». وقبل أن أنطق بكلمة، مدّ يده الى إحدى الحوريتين في الخلف ليمسك بها ثم ينفخ في فمها مثلما كنا ننفخ في كرات الشاطئ الملونة التي كنا نلهو بها صغارا، ليمتلأ جسمها وتتعاظم اردافها استدارة. حدّقت للحظات في وجهه الذي بدا لي مألوفا، قبل أن أنفجر بدهشة: «مهلاً! أهذا أنت؟ العم عبده. حلاق حارتنا؟» انفجر ضاحكاً بصوت عالٍ، وكأن المشهد بأكمله بات كوميديا طريفة، وقال: «ومن تكون أنت، يا رعاك الله؟» أجبته مبتسمًا: «أنا ابن السارح. كنت أتردد على محلك مع بعض الرفاق من الفتيان». هزّ رأسه متذكرًا وقال: «لعلك كنت تقص شعرك عندي». «نعم، ولي مآرب أخرى.» خجلت أن أذكرها له. ضحك بخبث وقال: «آه. ربما كنت تقصد تلك الأفلام الخالعة التي كنت أقرصنها وأبيعها لكم». صمَتَ لبرهة قبل أن يكمل: «إيه. كنت أعيشُ حياة اللهو والمجون في شبابي، مغامرات لا تنتهي من مغازلة الفتيات وقرصنة الأفلام لبيعها للفتيان الغرر أمثالكم. لكن الله غفر لي في النهاية». سألته متعجباً: «بإمارة ماذا؟» أجاب بثقة: «بإمارة وجوه يومئذٍ ناعمة «. «ماذا؟» ابتسم وقال: «أتذكر تلك اللوحة المعلقة عندي في المحل؟» حاولت التذكر. «أذكر مكانها فوق كرسي الحلاقة، لكن لا أتذكر محتواها». أجاب بفخر: «كانت لوحة مزخرفة بإطار عتيق، مكتوب عليها الآية الكريمة وجوهٌ يومئذٍ ناعمة . كنت دائمًا أنزلها من مكانها وأنظف غطاءها الزجاجي وأمسح عنه الغبار، وأهتمّ بها وأصونها من الإهمال. غفر لي ربي خطاياي لعنايتي بكلامه». ثم أشار مبتسماً إلى سيارته الكاديلاك: «أتريد أن آخذك في جولة؟ هل أطلب من صاحبتي الجلوس في الخلف لتتسع لك المقصورة؟» «لا، شكرًا. ولكن أخبرني، ما الذي دفعك للتوقف تحت هذه الشجرة العملاقة وأنت تعلم أن التربة هنا قد تعلق سيارتك؟» «جئت لشحن السيارة بالطاقة. كما تعلم، جميع السيارات هنا كهربائية؛ فلا مكان للتلوث في جو الجنة النقي. الأفياش المخصصة للشحن مثبتة في جذوع الأشجار، وكل ما عليك هو التوقف تحتها. سمعت أن شركة صينية تولّت تمديد الكابلات داخل هذه الأشجار. يبدو أنهم لم ينتبهوا إلى أن التربة هنا قد تتحول إلى طين غريب عندما تمتزج بماء الزعفران فتعلق فيه العجلات». فتحت عيني بدهشة: «ماذا. شركة صينية يا عم عبده؟!» ضحك وقال: «جماعة من خزنة الجنة تابعين لرضوان ولكنهم يتميزون بعيون ضيقة. هكذا نُطلق عليهم هنا». سألته مبتسمًا: «ألا تفتقد مهنتك القديمة أحيانًا؟ ألا تشعر برغبة في حلاقة شعر أحدهم أو لحيته؟» اقترب مني وتحدث بصوت خافت: «أشتاق أحيانًا، لكن كما تعلم. أهل الجنة مُرد كحل، ليس لهم شعر إلا ما فوق رؤوسهم وكأنه باروكة ثابتة كتلك التي يرتديها الصلعان. أتدري أن جاري في الحديقة المجاورة كان حلاقًا مثلي؟ ظل يجول في تلال الجنة يبحث عن أحد له شعر ينمو ليحلقه، ولم يجد! سمعت أنه في لحظة يأس حاول الهرب من الجنة، لكن الحرس من ذوي الأجنحة أوقفوه وألقوا به في الأعراف. ربما أصبح حلاقًا هناك للأرواح التائهة». ودّعته وأكملت طريقي دون أن أشعر بأي تعب رغم صعودي ونزولي المتكرر. لا ليلَ هنا ولا نهار، مجرّد نورٌ ضبابي يغمر المكان متفاوتاً في شدته، وكأن الزمان يدور في حلقة أبدية مفرغة، يتكرر كلما انتهى، ليبدأ من جديد. غادرت الطريق العام لأنزل في منخفض مفروش بالورود المتنوعة الألوان، تفوح منه روائح كأنها أنفاس الفجر. هناك، تجمّع غلمان وحوريات في حلقة ضيقة متحلّقين حول دوحة وارفة وهم يحيطون بشاب في الوسط وكأن وجوده كنز دفين لا يريدون لأحد أن يكتشفه. في قلب هذا المشهد، لفت انتباهي ذلك الشاب بعفويته وهو مضطجع على الأرض، ساقاه النحيلتان ممدودتان أمامه. يعتدلُ في جلسته ويسند ظهره إلى جذع الشجرة التي لفّت أغصانها حواليه في حنان. يشير بطرف عينيه الى إحدى الحوريات لتقفز بخفة في حضنه وتلف ذراعيها حول ظهره وهي ملتصقة به ثم تتحول بقدرة الله الى آلة وترية أشبه بالعود. يمد يده فوق رأسه لتحط فراشة على كفه وتتحول الى ريشة يُدوزن بها أوتار عوده فيما يتخذ الحضور أماكنهم وقد حبسوا أنفاسهم استعداداً لما سيخرج من فم هذا الشاب الذي يصدح صوته بألحان عذبة، تخرج مصحوبة بلكنة مميزة، كنسمة محملة بعطر الورود التي تكسو المكان. تلك اللثغة المحببة في نبراته تضفي على صوته سحرًا خاصًا يجذب الأرواح ويأسر القلوب: «عطني المحبة. كل المحبة. عطني الحياة. عطني وجودي. أبغى وجودي. أعرف مداه». تتمايل الرؤوس على وقع كلمات موّاله «لي في محبتكم شهود أربعة». اقتربتُ أكثر لأتبيّن وجه الرجل ذي الابتسامة الوضّاءة والوجه السمح، فإذا به الفنان طلال مداح، صوت الأرض. والآن، بلبل الجنة. ألقيت عليه التحية، فرد بابتسامة دافئة وضحكة صافية مستبشراً بقدومي وكأنه يعرفني منذ زمن: «أبو عبد الله؟ لا أصدّق عيني!» رد مبتسمًا: «تصدّق ولاّ أحلف لك؟» انفلتت مني الكلمات بلا تفكير: «أنا اللي عجزت بلساني أوصف لك». «تصفْ لي إيه؟» «أصف فرحتي برؤيتك هنا». أجاب برضى: «الله يسعدك بشوفة من تحب في دار الكرامة». «آمين يا رب. أخبرني؟» «تفضل». «تجربتك الغنائية ثرية يا أبا عبد الله، هل يمكنك اختصارها بكلمة واحدة؟» رد بثقة: «مقادير». «فعلاً، هي مقادير وتمضي. حسناً، وما هي أقرب أغنية لقلبك؟» يعتدل في جلسته قبل أن يجيب ليقفز العود من حضنه ويعود حورية كما كانت من قبل. «روحي وما ملكت يداي فداه، وطني الحبيب وهل أحب سواه». قلت بإعجاب: «الله. الله». استغرقنا في الحديث عن ذكرياته مع العود، رفيق دربه الذي كان يعزف عليه، وعن القلوب التي جمعها بصوته وأسرها بطيبته، وعن الشعراء والملحنين، والسفر، والحفلات التي أمتعَ فيها الجميع. «على ذكر الحفلات. هل تذكر آخر عهد لك بالدنيا الفانية؟» ابتسم وهو يسترجع: «تقصد الحفلة التي كانت على مسرح المفتاحة؟» «نعم». أجاب وهو يسرح بذاكرته: «آخر ما أذكره من دنياي هو وجوه الناس الضاحكة السعيدة في المدرّجات ومشاعر الفرح والسرور تلمع في عيونهم. ثم فجأة توقّف قلبي عن الخفقان وغبت عن الدنيا». «وهل كنت تتمنى هذه النهاية؟» «محدّش يتمنى نهايته، لكن بصراحة. قل لي أنت، مش أحسن من اني أموت وأنا مثلا أعاني وأتألم على سرير في مستشفى والآلات تحاصرني والإبر بتغرز في جسمي والمورفين بيسري في دمي؟ أو يمكن في بيت فقدت فيه ذاكرتي ووعيي، غريب عن ذاتي، ونسيت تاريخي ومين أكون وصرت ما أعرف احد وعبء وعالة على أولادي؟ أنا أشوف ان موتي وأنا في كامل قوّتي وفي أفضل حالاتي، جسدا وعقلاً وروحا، وأنا أصدح وأغني وأرسم البهجة على وجوه اللي حولي وفجأة. يتوقف قلبي عن النبض، هي من أرق وألطف وأعذب النهايات اللي أكرمني فيها ربي». «ونعمَ بالله». «وبعدين فيها إيه؟ أليستْ بأمر ربنا؟» «نعم، ولكن الناس يتحدثون ويسيئون الظنون». فقال بصدق: «اسمعْ حياتي، لا تسئَ الظن فيّ». «معاذ الله أن أسئ الظن، ولكن الناس يطلقون أحكاماً». «حكّم ضميرك، قبل ما تحكم عليّ». قلت: «يقولون. يا لها من نهاية!» «النهاية ليست هناك. النهاية هنا». قلت بإعجاب: «فعلاً، ويالها من نهاية. روحٌ وريحان، لكن». «لكن إيه؟» «بأمارة ماذا كان فوزك بهذا النعيم؟» أجاب بثقة: «بأمارة حبّ الناس لي وإسعادي لهم. أنبلُ فن هو إسعاد الآخرين». «وماذا أيضاً؟» «وكف الأذى. إن لم تنفع الناس فلا تضرهم». «وماذا بعد؟» «وإن لم تفرحهم، فلا تغمّهم». سبحانك ربي. ودّعت صوت الأرض الذي صار بُلبل الجنة بعد أن عادَ إلى متكئه، وسط محبيه يصدح فيها بصوت عذب كالسحر. لكن ما زال هناك شيء لم يقله وكأني أحسست فيه عبرَ نبرة صوته مثلما أحسستُ بنظرات السندريلا الحائرة حين غادرت. أرتقي في منازل الجنة حتى بلغتُ رقعة نديّة باردة في أحياء الفردوس الأعلى، قرب قصور الأنبياء والأولياء والمرسلين. هناك بين القصور، استوقفني بيت من الياقوت الأزرق، تتلألأ جدرانه تحت نور سماوي لطيف وأمام البيت يجلس رجلٌ بملامح وقورة، عيناه ثاقبتان وشعره قصير مجعّد، متكئًا على أريكة منخفضة، وقد وضع ساقًا على الأخرى، وكأنه أستاذ جامعي يتأمل سكون السديم البارد الذي يمرّ عبر نوافذ البيت المشرعة. يغمض عينيه برفق وكأنه يتحسس الهواء اللطيف الذي يلامس وجهه، ليستشعر حرارته أو يتذوق برودته. اقتربت منه دون أن يلحظني، إذ بدا غارقًا في تفكير عميق، وكأنه يحاول حل مسألة رياضية شائكة. كان وحده، فلا نساء ولا شراب كما هو الحال عند غيره. انتبه لي فجأة وابتسم قائلاً: «المعذرة، لم أدرك أن هناك أحدًا غيري هنا». «أرجو ألا أكون قد قطعت عليك خلوتك». رد بلطف: «لا بأس، تفضل. سأطلب من أحد الخدم أن يقدم لك ما يلزم». وما هي إلا ثوان حتى ظهر غلام يدور حولي بكؤوس من خمر الجنة. أخذت رشفة وأكملت حديثي: «لاحظت أنك، على عكس الآخرين، تجلس وحدك وكأنك لا تكترث كثيرًا بالملذات والمتع المتاحة هنا». ابتسم بثقة وقال: «أنا من أعطى للمتعة معناها». استغربت وقلت: «كيفَ ذلك؟» أجاب بثقة: «لقد كيّفت المتعة ورفعتها إلى مستوى آخر من الراحة والانبساط، بعد أن كان الإحساس بها ناقصًا». قلت مستفسرًا: «ماذا تقصد؟» قال بفخر: «بعد أن عاش البشر لآلاف السنين في أجواء خانقة إلا من وسائل بدائية لتلطيف الجو وقت الحر، قدّمت لهم أحد أعظم اختراعاتي». سألته: «ومن تكون، أيها الرجل؟» قال بهدوء: «أنا ويليس كارير». قلت متذكرًا: «كارير؟ الاسم ليس غريبًا». ابتسم وقال: «ربما تعرفني من مكيفات الهواء المعلقة في البيوت والمتاجر وأماكن العمل». ضحكت وقلت: «آه، نعم، أنت من اخترع نظام تكييف الهواء! يا مال الجنة الباردة! لقد برّدت المكان وعدّلت الزمان وأرحت البلاد والعباد من شدة الحر». أشرت للغلام بأن يتوقف عن الدوران وتقديم الشراب. ثم قلت: «أتعلم، يا سيد كارير، أن صورتك معلقة في بيتي، وكنت أطالب بإقامة تمثال لك في كل مدينة تحت حرّ شمسنا الحارقة». بتواضع رد: «أشكرك على تلك اللفتة، لكن الله أكرمني بأعظم من ذلك. بدخولي دار السلام». سألته: «بأمارة ماذا؟» أجاب مبتسمًا: «بأمارة دعوات الناس لي بظهر الغيب». قلت: «وماذا بعد؟» قال: «وبالعلم النافع الذي أوصلته لغيري وحوّلت به أجواءهم الملتهبة إلى أخرى مريحة ومنعشة، مكّنهم من العمل وممارسة حياتهم بيسر وسهولة. مليارات البشر استفادوا من اختراعي الذي عدّل حياتهم في دنياهم الفانية». «لكن، ماذا عن الضرر الذي تسببه أجهزة التكييف للبيئة؟ يُقال إن أحد أسباب الاحتباس الحراري هو الغازات المنبعثة من صنع الإنسان، بما في ذلك من تلك الأجهزة». ابتسم وقال: «لا تلوم المزارع على جودة محصوله إن أسرف المشتري في أكله». أجبته معتذرًا: «عفواً، لم أقصد اتهامك شخصيًا». ردّ بهدوء: «أعلم ذلك، ومع أن هذه القضية لم تُطرح في زماني، إلا أن على البشر أن يتعلموا كيف يعيشون بمسؤولية مع ما تمنحه لهم حضارتهم الإنسانية من اختراعات». قلت: «لكنهم أسرفوا في استهلاكها بشراهة». نظر إليّ وقال بحكمة: «تلك مشكلة الأحياء منهم، وعليهم حلّها بأنفسهم إنْ أرادوا الاستمرار في البقاء على كوكبهم الهش». بعد أن قضيت وقتًا ممتعًا مع السيد كارير، استأذنت للمغادرة قائلاً بابتسامة: «لا تقل لي إنهم يحتاجونك هنا لأعمال الصيانة!» ضحك وقال: «لا، لا يحتاجوني للصيانة، لكن الله أكرمني بأن أطلعني على بعض أسرار الجو اللطيف هنا». أكملتُ سيري وسط مشاهد بدت وكأنها لوحات أسطورية أبدعتها يد فنان بارع، ورسمها بدقة عجيبة وتصوير متقن، تذكرني بعوالم أفلام الرسوم المتحركة التي كنت أعشقها في طفولتي. كنت أستمتع بتذوق الطعام والشراب دون أن أشعر بجوع أو عطش أو إحساس بتخمة. من بعيد، تلوح خيمة هرمية الشكل فوق تلّة تشرف على بحيرة من اللبن الأبيض الصافي. اقتربتُ أكثر لأرى عناقيد العنب والموز تتدلى من أطراف الخيمة على أروقتها المسدلة، إلا الجهة المطلة على البحيرة حيث بقيت مشرعة. حين بلغتُ الخيمة، نظرت إلى داخلها فإذا بحوريات يتمايزن في الحسن والجمال. ما بين ذوات الأثداء النافرة، الى ذوات المؤخرات البارزة والأرداف المستديرة، مضطجعات على فرش من حرير زاهي الألوان ومتوسّدات مساند خُضرًا مزينةً بريش النعام. يذكرني المكان بديكورات قصور الخلفاء في المسلسلات التاريخية التي كنت أتابعها في طفولتي حيث يلتقي البذخ بسحر الحكاية. سمعت صوت قهقهات خفيفة تتعالى من جهة البحيرة، فالتفتُّ لأرى رجلًا تنساب ذؤابة شعره على كتفيه، يخرج من الماء الأبيض بصحبة حسناوتين، وهو يشبعهما ضمّاً وتقبيلا ثم يلفّانه بما يشبه رداء الاستحمام ليمسح عنه ما تقاطرَ من اللبن على جسده. المشهد بدا لي وكأنه مقتطع من فيلم سينمائي شهير، حيث يخرج البطل من البحر، وأظنه جيمس بوند، متأبطاً ذراعي فتاتين، إلا أن جمال هاتين يفوق كل ما رأته عيناي في دنياي الفانية. إحداهما كأنها مرآة صقيلة تكاد ترى صورتك منعكسة على صفحة جسمها الملساء، والأخرى بدرجة أدنى لكنها لا تقل سحرًا وجاذبية. انتبه الرجل لوجودي وناداني بحفاوة: «أهلًا بالضيف، تفضل». دخلتُ الخيمة، فوجدته يستبدل رداء البحيرة بآخر مزركش بألوان زاهية، بينما إحدى الحسناوات تلف جسدها بغطاء شفاف أصفر اللون وهي تنشد بصوت عذب: «أصفر معصفر ليت محسن يشوفه. توّه على حد الغرض ما بعد لمس». سلّمت عليه فردَّ التحية. «أرجو أن لا أكون قد قطعت نزهتك في البحيرة». يرد بابتسامة: «على العكس. جئتَ في وقتك. لو تأخرت أكثر وأنا أسبح في بحيرة اللبن، لأصبح رائبًا!» «من أنت يا هذا؟» «أنا محسن الهزاني». تملكني الذهول: «عميد شعراء الغزل؟» «أهكذا يقولون عني!؟» جلسنا على الفرش المبثوثة، فسألني عمّا أشتهي، فتركت له اختيار القائمة. صفّق بيديه، فظهرت من بين أرجل حورياته مائدة عامرة بأطايب الطعام والشراب. وبعد أن فرغنا من تناول ما لذ وطاب، بدأت أحاوره عن أشعاره في وصف محبوباته ومغامراته العاطفية معهن، وهل ما يُقال عنه حقيقة؟ «كيف وجدت الحور هنا؟ أهنَّ بمثل ما وصفت به نساء الدنيا في شعرك عن الثنايا والعواتق والخدود والجدائل والنواهد والحجول؟» ضحك وأجاب: «بفضل ربي، هنّ كذلك وأكثر. ولكن!» توقف فجأة، حين ناولته إحداهن مشطًا يسرّح به شعره. تركته ليكمل عبارته لكنه تراجع وكأن في نفسه كلاماً يخشى البوح به. حاولتُ أن أشجعه ليكمل استدراكه لكنه لم يرغب في أن يسايرني وكأنه يخشى مما سيقول. ماذا يمكن لشاعر غزل أن يخشاه في دار الكرامة، وماذا عساه أن يستدرك على الحور العين؟ «كيف لشاعر مثلك، معظم شعره في الغزل والإخوانيات، اشتهر بقصصه الغرامية أن ينتهي به الحال هنا في جنة الخلد؟» ابتسم وأجاب: «أحمد الله أن الأمرَ ليس بيدك!» سارعت قائلاً: «المعذرة، لم أقصد أن أستكثر عليك نعيم الله، ولكن بماذا نلتَ كل هذا الفضل؟» «بعفّتي ومروءتي، رغم كل ما سمعت عني. ألم تعلمْ أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون؟» ثم أضاف بصوت مؤثر: «وسؤالي ربي في الليالي العظيمة، بالأنفال والحج والضحى والليل الذى أحياه تلقاه شافع، وقولي: فأنا الذي بك أمدّ الرجا. فلا خاب من مدّ فيك الأمل». «وماذا بعد؟» «ودعائي أطلب الغوث: دع لذيذ الكرى وانتبه ثم صلْ. واستقم في الدجى وانتبه ثم قلْ. يا مجيب الدعا يا عظيم الجلال. يا لطيفًا بنا دائمًا لم يزلْ». ابتسمت وقلت: «هل بقي شيء؟» «نعم، أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك». غادرت وأنا أقرأ شيئا في نظرات عينيه، وكأنه يريد أن يقول إن حورياته هنا مهما بلغنَ من حسن وجمال لم يكن ليضاهين «هيا»، تلك التي قال عنها بين البروق وبين مبسم هيا فرق. واصلت سيري بين أودية الجنة وأنهارها متجنّباً الخوض في أنهار العسل الدبق كي لا يلتصق برجلي ويعيق تقدمي. تمرّ السيارات حولي ومن فوقي أحيانا ومعظمها من الطراز الصيني الفاخر. انحرفت عن الطريق العام لأمشي في حديقة غناء يتوسطها كوخ صغير جدرانه تبدو من الفضة وعلى شرفته الأمامية يجلس أحدهم على مقعد وثير مادّا ساقيه في استرخاء، بينما هناك آخر واقفٌ يتفحص شجرة أغصانها من اللؤلؤ. بدا أنهما غير مكترثين بالملذات المحيطة، ولا بالنعيم الحسي الذي يفيض في المكان. شدني الفضول، فاقتربت من الجالس وسألته: «من تكون؟» أجاب بهدوء: «أنا سولك». ترددت للحظة، ثم استفسرت: «سولك. من؟» «جوناس سولك. وذاك الواقف هناك هو نورمان بورلاغ». «المعذرة على تطفلي، ولكنني لا أرى أيًّا منكما برفقة الحوريات مع أنّ المتع حولكما والملذات في متناول أيديكما». ابتسمَ ابتسامة خفيفة وقال: «كل نفس وما اشتهت». «وماذا كنتما تفعلان في حياتكما الفانية؟» أجاب: «كنت طبيبًا وباحثًا، وزميلي هناك عالم نباتات. ولعل أحدًا لا يكترث لنا الآن». «ويبدو أنكما، بدوركما، لا تكترثان كثيرًا بالملذات والنعيم الحسي هنا. هل أنتما سعيدان؟» رد علي بابتسامة مصطنعة، تخالطها مشاعر من الحسرة المكبوتة «بالتأكيد، هذا أفضل بكثير من المكان الآخر». لم أستطع مقاومة فضولي، فسألته: «وما الذي منحكما جواز الدخول إلى دار المقامة؟» فكّر للحظة، ثم قال: «يمكنك أن تقول إن بورلاغ قام بتصحيح ما بدأه الله حين وضع البذور في الأرض». اعترضت: «وهل خلقُ الله يحتاج إلى تصحيح؟» ابتسم بتسامح وأجاب: «ألا ترى بعض المواليد تولد ملتصقة فيتدخل الإنسان لفصلهما؟» «وما الذي فعله صاحبك بالضبط؟» «طوّر سلالات جديدة من الحبوب، خصوصًا القمح، لتقاوم الآفات وتزيد الإنتاجية. بفضل ذلك، وجد الناس طعامًا يكفيهم في ظل تزايد السكان المفرط على كوكبهم الهش». توقف قليلًا وأضاف: «يمكنك أن تقول إن بورلاغ كان يد الله التي أوقفت المجاعات التي كانت تفتك بملايين البشر في أرجاء الدنيا الفانية». شعرت بالرهبة مما قال، ثم سألته: «وماذا عنك؟» أجاب بهدوء: «أنا يد الله التي ساهمت في شفاء الملايين من الأطفال». «وكيف ذلك؟» قال بفخر مشوب بأسى غامض: «طوّرت لقاح شلل الأطفال بعد أن كان المرض يسلب الأطفال حياتهم أو يتركهم بإعاقات دائمة». بقيت لبرهة أجاذبه الحديث بعد أن استأنس بوجودي واطمأن لي، ليخبرني أنه وُلد يهوديا بينما صاحبه مسيحي، وأن ليس في معتقدهما حياة أخروية تتمحور حول الملذات والمتع الحسية. كان يريد أن يقول أشياء أخرى، ولكنه بدى لي مترددًا وكأن أحدًا يراقبه، فاكتفى بما قال. أواصل السير بين دروب الجنة وطرقاتها التي لم تألفها عيناي بعد ولم تتعوّد على عجائبها، مذهولا مما أراه. أخوض في أنهارها الرقراقة، وأتفرج على قصورها الباذخة، أذوق من طيبات موائدها، وأكحّل ناظري بجمال حورها. وكلما دنوتُ من إحداهن لأقطف قبلة انسلّت كطيف عابر من بين يدي، فقد كان الاتفاق مع رضوان صارماً؛ لي الحق فقط في تذوق الطعام والشراب، ولا شي غير ذلك، كي أعود إلى دنياي التي ودّعتها مؤقتاً. من بعيد لمحتُ حائطاً مضاءً بنور بنفسجي خافت. اقتربتُ أكثر فإذا هي أغصان متشابكة بملمس ناعم كالحرير، وحواليها تتراقص الفراشات كأنها زينة في عرس سماوي. سرت بمحاذاة الحائط حتى وصلت إلى بوابة تزينها اللآلئ وتعلوها لافتة مكتوب عليها بخط الرقعة: «مقهى درب الزلق - لصاحبه حسين بن عاقول.» أسمع صوت قهقهات وضحكات صاخبة تعلو من الداخل، مختلطة بأصوات الحلي التي تصطفق على أقدام راقصات حسان، وهنّ يتمايلن برشاقة أمام الجالسين على كراسٍ زرقاء مستطيلة تذكرني بتلك التي كنت أشاهدها صغيرا في المقاهي الشعبية. أنظار الحضور مشدودة صوب رجل يجلس في المنتصف، يعتمرُ غترة بيضاء، فيما شعر رأسه الطويل ينسدل على كتفيه، يلقي النكات على الحضور الذين غرقوا في الضحك، وانقلب بعضهم على قفاه من شدة الحبور. ألقيت السلام وتقدمت لأرى من يكون صاحب هذه الشخصية الآسرة التي جذبت الأنظار وأخذت القلوب، فإذا به الفنان عبد الحسين عبد الرضا! هبّ واقفاً مرحّباً حين رآني، دعاني للجلوس بجانبه، وأشار إلى أحد الغلمان ليسكب لي من إبريق الشاي الذي كان يحمله بيده، دعوة ولا في الخيال وسط أجواء من الرقص والمرح. قلت ممازحا: «شاي يا بو عدنان؟! قد مللنا من الشاي. نريد شراب الجنة الأقحواني». ليردّ علي بابتسامة ماكرة «على بالك هذا شاي الدنيا؟» «إذن ماذا يكون؟» «لا يا معوّد. هذا شاي الينّة، هذا اللي ذكره ابن الزعفراني في عجائب الزمان! ذوق. ذوق»، تناولت رشفة منه، لتتبدّد أمام نكهته كل أكواب الشاي التي ذقتها يوماً في دنياي. أخذنا الحديث عن حياته ومواقفه الطريفة، عن مسرحياته وحبّ الناس له، حتى قاطعني ليقول: «تدري أن جدّام قهوتنا هذي مسرح؟» استغربت: «ماذا. مسرح في الجنة؟!» «نعم. وسميناه المسرح العربي. ترى عندنا عرض بعد شوي اذا ودّك تحضر». سألته مبتسماً: «بصراحة، هل توقعت أن تكون هنا يا بو عدنان؟» ردَّ مبتسماً: «أملي دوم بالله كبير، بغيتها صافية يالأخو وجتْ على ما تمنّى». «ونعمَ بالله، وبعد؟» «وفوق ما تمنّى». بفضول عميق قلت: «بأمارة ماذا غفر الله لك يا بو عدنان؟» أجابني بهدوء وبعد تأمل قصير: «بفضل ربي والنوايا السليمة». «وماذا بعد؟» «بالذكر الحسن، وادخال السرور على القلوب المتعبة والنفوس المرهقة». «وماذا بعد؟» «وطيب السريرة وصفاء النية وحب الخير للناس على اختلاف الأجناس». «وماذا بعد؟» «شكو بعد غير كذا.!» لم يترك لي مزيداً من التساؤل، لكني سألته في لحظة صفاء: «أين صاحبك قحطة؟» ضحك وقال: «بغى ينحاش، لكن صادوه عند سور الينّة». «يهرب. ولماذ يهرب؟» «مشتهي قدو، وما وفّروا له». «وأين هو الآن؟» ابتسم وهو يقول: «سمعت إنه الحين في الأعراف». أكمل شرب الشاي فيما يشير عبد الحسين إلى رجل يهم بالخروج، وسألني بخبث طفولي: «تدري من اللي قام قبل شوي مع ذيك المزيونة؟» نظرت إليه متسائلاً، «من؟» فأجابني: «عمرو». «من عمرو هذا؟» أجاب وهو يرفع حاجبيه: «أبو الحكم، عمرو بن هشام». بعد لحظة صمت وتفكير، قلت بدهشة: «تقصد أبو جهل؟ هنا، في الجنة؟!» همس عبد الحسين محذراً: «قصّر حسّك! لا يسمعك تقول عنه أبو جهل. من ساعة وحنا نطنّز عليه وهو يضحك معنا». «ألم تسألوه كيف انتهى به الحال هنا وهو من تعرف؟» «وحنا شكو نسأل. واحد وأنعم الله عليه. ما سألنا اللي في الدنيا شلون ربي عطاك، تبينا نسأل اللي في الينة». «إذن لمْ تسألوه». «بلى، للأسف فيه واحد ملقوف عندنا سأله شنو يابك هنا. تدري وش رد؟» «قل لي ماذا كان جوابه». «المغفرة أرزاق. دخل الجنة من هو شرٌّ مني «هذا كان رده. «فضل الله يؤتيه من يشاء. ولكن. قصص التراث تجمع على أنه من أهل النار!» «قصّر حسك. هذا هو قدامك في الينّة. بعدين من اللي يقرر مصير البشر. سوالف التراث أو رب العالمين؟ تدري أنه راعي سوالف ونشاوره في مسرحياتنا. خوش ناقد ومفكر وحكيم. ولا يجامل. وبارّ بأمه. كل يوم يمر يسلم عليها في قصرها وما خلى الينّة تشغله عنها، مو زي البعض التهى بحورياته ونسى أهله. واسال ان حبيت ربعه من قريش تلقاهم مجتمعين في الحي اللي ورانا وانت طالع. يقولون انه هو اللي حمى بنات النبي يوم بغى ربعه يطبون على بيته». استأذنت من عبد الحسين لمغادرة مقهاه، فخرج معي للباب مودّعا إياي بضحكته المعهودة قائلاً: «باي باي يا الأخو». خرجت وأنا أقرر اللحاق بعمرو بن هشام، لأتقصّى خبره وأعرف حكايته، وكيف غفر الله له حتى صار في دار الكرامة، لكن الرجل كان مشغولا بالحورية التي كانت معه فكرهت أن أتطفل عليه وهو على تلك الحال، تحت عذق نضير من عذوق الجنة، فتركته على أن أعود له لاحقا إذا مررت بمقهى بن عاقول، متذكرًا ما قرأته قديمًا عن أم سلمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأيت لأبي جهل عذقا في الجنة فلما أسلم عكرمة قال يا أم سلمة هذا هو. استمر في مشيي فيما مركبات مذهبة مرصعة بالياقوت وأخرى من الألماس المرصع باللؤلؤ تنساب حولي ومن فوقي في كل اتجاه. أتعجب كيف لا تصطدم ببعضها بعضاً، ثم تذكرت كلام العم عبده من أنها مجهزة بحساسات ذكية مانعة للاصطدام، طورتها شركة صينية حسب زعمه. طرازات المركبات منوعه. بعضها من نوع المرسيدس وأخرى من الروز رويس والبورش وحتى الشفروليه وكثير من طرازات الفينتيج الكلاسيكية لكنني لم أشاهد أي نوع من التويوتا أو النيسان. يصل الى مسامعي صوت رخيم يتلو آيات من الذكر الحكيم. التفت لأرى محمد صديق المنشاوي يرتّل بخشوع وهو يقود سيارته صاعدًا للأعلى فيما تجلس بجانبه حورية مكتنزة الجسم. لمحني من بعيد وأشار علي إن كنت أرغب في توصيلة، لوّحت له شاكرًا وواصلت سيري. هبطت الى وادٍ يخترقه نهر بلون غريب، مزيج من الأصفر الفاتح والبني الداكن. اقتربت من ضفته وغرفت شيئا من مائه لأتذوقه، فاذا هو عسل مصفى. بدأت عبور النهر بحذر لكني سرعان ما علقت في وسطه بفعل لزوجته الكثيفة، لم أعد قادرًا على التقدم أو حتى العودة إلى الضفة التي جئت منها. وكلما حاولت تحريك قدمي، ازددت انغماسًا فيه. لمحت رجلا وامرأة يسيران على الضفة فناديت عليهما لينقذاني من ورطتي التي وقعت بها. تمدّ المرأة بطرف شعرها القصير نحوي وأنا أحسبها تستهزئ بي فإذا بشعرها يمتد ويطول أمام ناظري ليصل عندي ثم تنادي علي وهي تطلب مني ان اشدّ عليه بيدي. ترددت خوفًا من أن أسبب لها ألمًا ناسيًا أنه لا ألم في الجنة، لكنها شجعتني ثم ما لبثتْ أن سحبتني بعد أن أحكمتُ قبضتي على شعرها. وصلت ضفة النهر وأطلقت شعر المرأة من يدي ليرتد الى رأسها مذكرا إياي بشريط القياس القابل للسحب والذي كنت استخدمه في عملي بالهيئة. خرجتُ من النهر بصعوبة وإذا بالمرأة تشير الى جواريها كي يُزلْن ما علق بي من عسل. تحلّقن حولي، وطرحنني على الأرض، ثم ركبن فوقي وبدأن يلعقن العسل عن جسدي، حتى إذا وصلن إلى أخمص قدمي، انفجرت ضاحكًا في نوبة قهقهة جعلت المرأة ومرافقها يقفان جانبًا، يبتسمان وهما يراقبان المشهد. دفعتُ الحوريات عني ونهضت واقفًا لألقي التحية على من أنقذني من ورطتي. أقتربُ أولا من المرأة لأرى وجهاً خجولا سمحاً تحاول أن تشيح بناظريها عني، ويتدلى من عنقها قلادة ذهبية على شكل أشعة شمس، وفي معصمها أساور من حبات اللؤلؤ. بالرغم من كل هذا البذخ في الحلي والمجوهرات وكل تلك الأناقة التي ظهرت بها إلا أنها بدت لي وكأنها فتاة ريفية بسيطة، في ملامحها تواضع أصيل. وجهها بدى لي مألوفا، من بين كل الوجوه لا يمكن أن أنسى من تكون: «من؟ الليدي ديانا؟» «أهلاً وسهلاً». ردت بصوت ناعم خجول. مضت لحظات وأنا غير مستوعب لما حدث لي. كنتُ قبل قليل عالقاً في نهر من العسل اللزج أكاد أغرق فيه، ثم تهبّ لنجدتي أميرة ويلز، تمد لي بشعرها القصير فيطول ويتمدد كحبل إنقاذ أتشبث به قبل أن تنقضّ علي حوريات يلعقن ما علق بي من عسل، لا يمكن أن يحدث هذا سوى في الأحلام أو في جنة عدن، لكني لست متأكدًا بعد من كيفية معرفة الفرق بين أيهما أنا فيه. قطعت الأميرة حبل أفكاري قائلة: «أوه نسيت أن أعرفك بمن معي. هذا هو الفنان جيم كروشي». أنظرُ، فإذا برجل ذي ملامح ايطالية، كثّ الشعر يعلو شفته شارب كثيف، عرفت حين اقترب مني أن شاربه توليفة من اوراق الشجر، يرتدي قميصا مفتوح الصدر تتدلى منه قلادة ذهبية، وبنطالاً من الجينز يذكرني بفتيان الهيبيز. ينفذ دخان سيجاره التي في يده قرب وجهي. رائحة خشبية قوية ومعتقة بعبق القرنفل مع خليط من نفحات التوابل والشوكولاتة وقليل من القهوة المخلوطة بالعسل. حاولت أن ألملم افكاري مستجمعاً قواي لأبدأ حديثي، لكن العبارات تناثرت في ذهني ولم أعرف من أين أبدأ، فتتدخل الأميرة لتنقذني مرة أخرى وتسألني إن أردتُ مرافقتهما نحو بيتها، وأشارت الى ما يشبه الكوخ الصغير في أعلى التلة. ذكّرني منظره بتلك الأكواخ البسيطة التي اعتدنا رسمها صغارا في حصص الرسم بالمدرسة. ظننت لوهلة أنني سأرى قصرا مهيباً على طراز قصر بكنجهام، لكن يبدو أن الأميرة تفضّل العيش البسيط. هل يمكن أن يحيا أحد هنا متقشفًا زاهدًا، يتغدى «جبنة وزيتون ويتعشى بطاطا» كما كانت تقول صباح؟ وهل يُسمح له أصلًا بذلك وكل ما حواليه يضجّ بالمتع والملذات الحسية ليغرق فيها حتى الثمالة؟ لكن ما المانع إذا كان هذا ما يريده؟ أليس فيها كل ما تشتهي الأنفس؟ تُترك بسلام دون أن تغرق نفسها في بحر الملذات ولا يستهويها الانغماس في أنواع العربدة المتاحة. قرأَتْ ما في عيني من تساؤل ثم أطرقت رأسها بخجل مشوب بحذر، وكأنها تخشى الإفصاح عن أمر ما. لكن حين شاهدت حيرتي وأحسّت بما يدور في بالي تشجّعت قليلا وتمتمت بكلمات لم أتبيّنها كاملة، لكني استشفّيت منها أن حياتها المتواضعة وسط كل هذه المتع والملذات الحسية أشبه ما تكون بحياة عاقل وجد نفسه بين مجانين غارقين في نوبة من الهلوسة الجماعية. تملّكني إحساس حينها بأنها ربما رأت فيّ ذلك «العاقل» الذي يستأنس به النزيل الصاحي الوحيد في مصحة ما. اعتذرتُ عن تلبية دعوتها، رغم أن في بالي اسئلة كثيرة تدور حول مصير زوجها وابنائها، لكني آثرت أن لا أفتح هذا الباب معها، لاسيما وانها تبدو راضية مع جيم كروشي. قبل أن أغادر، ناولني جيم صندوقًا فاخرًا من السيجار علمتُ منه أنه إنتاج محدود بعد أن قام مجموعة من الكوبيين بلفّه بأيديهم من أوراق تبغ نمت في حقل صغير قريب من نهر العسل، وهو ما يفسر تلك النكهة العسلية التي تفوح منه. يمضيان معاً، وجيم يشدو بصوته الدافئ رائعته: «لو كان بإمكاني أن أختزن الزمن في قارورة، لجعلت أول ما أفعل أن أحتفظ بكل يومٍ يمر، حتى تنقضي الأبدية وتمضي العصور، فقط لأعيشها جميعًا معك». واصلت مسيري بين التلال، صعودًا وهبوطًا دون إحساس بأي تعب أو مجهود. أحيانا تمتلئ الدروب حولي بالبشر في لهوهم وصخبهم، غارقين في نشوة عالمهم الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه، وأحيانا أخرى لا أرى سوى صفوف من الجواري والغلمان يتحركون بانتظام وكأنهم فرق صيانة سماوية، يحرصون على راحة الساكنين لضمان تهيئة الأجواء المثالية لهم. أمشي حيناً على قدمي، وحيناً آخر ترتفع قدماي عن الأرض قليلا، محلّقاً بخفة وكأنّ هناك محركًا ساكنًا من دون صوت مثبتا في باطن قدمي استعمله متى شئت بمجرد التفكير فيه، وهي طريقة تعلمتها من أحد الذين قابلتهم أوّل ما وطئتْ قدماي هذا المكان. وبينما أنا كذلك، التقطت أذني صوت هتافات وصيحات قادمة من وادٍ منخفض. أستمر في التحليق حتى أشرف على ملعب فسيح يحتضن مباراة في كرة القدم بين فريقين وحولهما اصطفت جماهير تلوّح بحماس من فوق مدرجات فضية مطعمة بالزمرد. يحلق بعض الغلمان فوق الملعب يراقبون سير اللعب للتأكد من أن المباراة عادلة بين الطرفين كي لا يستخدم أحد اللاعبين بعض الامتيازات أو الحيل وما أكثرها هنا. استطعت بسهولة أن أميّز قائد الفريق الأول بأسلوب لعبه ومناورته للخصم مرتديا فانيلته الصفراء ورقم عشرة المطرز على صدره. بيليه، ينساب بين الخصوم بمراوغات ساحرة. أما الفريق الثاني بفانيلاته البرتقالية فاحتجت بعض الوقت لأتعرف على قائده يوهان كرويف. ينطلق من الفريق الأول أحد اللاعبين ممشوقي القوام مسرعًا باتجاه المرمى ليسجل برأسه هدفًا في الفريق البرتقالي ثم يلوح بيده للجماهير التي ردت عليه بالتحية والهتاف. دققت النظر، فاذا هو باللاعب ماجد عبد الله. لم أكن من عشاق كرة القدم، فأكملت مسيري دون أن اتوقف ماضياً في هذا العالم العجيب. قد تكون دهشتي خفّت قليلا مع التجوال واعتياد المناظر الساحرة، إلا أنني ما زلت مذهولا بما أرى كمثل طفل صغير يدخل مدينة ديزني لاند لأول مرة في حياته، ينتقل من لعبة لأخرى حتى يجرّب كل ما يجده في مدينة الملاهي ثم يبدأ من جديد. تُرى، هل ستبدو الألعاب جديدة له كل مرة؟ أم سينسى تجربته الأولى ليبدأ وكأنه يبدأ من جديد، وكما لو أنها المرة الأولى؟ أم سيستمر في رؤية العاب لم يرها من قبل وتظهر له تباعاً في سلسلة لا تنتهي؟ لست أدري. كل ما أدري هو أن كل شي هنا يبدو جديدًا وكأنه خرج للتو من علبة الهدايا في قراطيسها التي لم يُنزع عنها غلافها بعد. أكمل مسيري لأرى نوراً يلوح من بعيد فاقترب بخطوات مترددة لأسمع صوتا شجيّاً يغني وحوله التمّت مجموعة من الفتيان والفتيات، وجوه متوهجة بالأنس والطرب. يبدو الصوت مألوفًا لي، أدنو أكثر لأرى عوض الدوخي وهو يشدو برائعته صوت السهارى. في الصف الأول من الحضور استطعت ان أتعرف على ليلى مراد وهي تجلس الى جوار نجيب الريحاني، يتمايلان مع اللحن متشابكي الأيدي، وكأننا في مشهد حي من فيلم غزل البنات. التفتُ الى الجالسة بقربي فإذا هي جارتنا أم سليمان! ابتسمتْ حين رأتني وهنأتني بما أنا فيه. سرعان ما تذكرت زوجها، ذاك الذي كان حضوره لا يغيب عن ناظرها، وزواجهما مضرب المثل في حارتنا بطول العشرة وصدق المودّة. اذكر أنه توفي قبلها لكن مالي لا أراه معها؟ سألتها عنه وسط غمرة الصوت فأشارت بيدها إشارة مقتضبة، وكأنها تقول إنه هناك. في «المكان الآخر». صُعقت من ردها وكأنها تتحدث عن شخص غريب لا يمتّ لها بصلة. أزواج وأمهات وأبناء افترقوا عن أحبّتهم، دون أن يبدو على وجوههم أثر حزن أو فاجعة! أيّ فقد هذا، إن كان «المكان الآخر» هو الجحيم؟ كيف يهنأ المرء وهو يعلم أن له أحباباً مصيرهم الى المكان الآخر. لم أجرؤ أن أسألها أكثر، وتركتها تردد مع الدوخي بصوت متهدّج: أبطى ركابه وراح. الناس في الجنة يبدون وكأنهم منتشون تحت تأثير مخدّر جماعي قوي؛ وجوههم مترعة بالنشوة، أشبه بمن يتعاطى حبوب الهلوسة أو يطفو في ضباب الحشيش. الموت هنا قد دفن معه كل ألم، فلم يبقَ إلا ابتسامات باهتة ساكنة، وبهجة مبرمجة لا تنطفئ. تراهم أحيانًا كالمنوّمين مغناطيسيًا، أو كآلات بشرية تدار ببرنامج واحد مثل الروبوتات؛ وكأنهم في حالة همود او سبات دائم ومشاعر الحب والبهجة مبرمجة فيهم بلا غيرة أو حسد. كأنهم شخصيات كرتونية في عالم من الفانتازيا، أو ممثلين وُضعوا في يوتوبيا لا يملكون فيها أن يكونوا غير سعداء. ومع ذلك، فثمّة قلة متمرّدة لا تُعلن عن نفسها، تتسلل بين الحين والآخر بحثًا عن صدع في السور، تحاول الفرار من هذا الفردوس المبرمج. ينتهي بها المطاف إلى أرض الأعراف، حيث تصطف في طوابير طويلة عند مكتب الشكاوى، تشكو بصوتٍ خافت من النعيم الذي أفرغهم من وعيهم. كأنهم أدركوا أن السعادة التي تُبرمج قسرًا لا تعود سعادة، بل نوعًا آخرَ من السجن، جدرانه ألين من الحرير لكنه يظل سجنًا. لم ألقَ في تجوالي أحداً من أهل العصور السحيقة، أولئك الذين عاشوا قبل الأديان؛ ربما لأنهم لم يكونوا مؤمنين بدين أو عقيدة تُدخلهم في معادلة الحساب المؤجل، فلا مبرّر لاستدعائهم أصلًا وفكرة الثواب والعقاب لم تُولد بعد. جنة الله – في وعي البشر - إنما هي انعكاس يلوح في النفوس أكثر مما هو وعدٌ في السماء. يراها الفقراء والمرضى والمحرومون ملاذًا يتشبثون به ليعوّض قسوة واقعهم، ويتعلّقون بالرجاء أن يكون لهم فيها نصيبٌ يومًا ما. بينما الأغنياء والأصحاء، الذين لا يكادون يحتاجون إليها، يفكرون فيها على أنها ختمُ رِضى من صانع الوجود عليهم، إذ لولا رضاه – في ظنهم – لما أُفيضت عليهم النعم وسالت لهم الحياة رخاءً. الأديان – في أصلها – لم تكن سوى محاولة لتهذيب الدنيا وتحويلها إلى جنّة مؤجّلة، إلى يوتوبيا مؤخّرة، مشروع لتحقيق العدل الغائب وإزالة المعاناة على أمل أن يصبح العالم الأرضي في نهاية أمره صورة مُثلى من العالم المتخيل في السماء، وكأنها تقول للإنسان: لن تبلغَ الجنة هناك حتى تُنشئها هنا. الله، إن صحّ القول، قد أوكل للناس مهمّة إصلاح أنفسهم، منحهم عقلًا وسلمهم به آلة التفكير وترك لهم السبيل لينشغل عنهم بما هو أعظم. فاخترعوا الدين كرحلة في الطريق، يتوكأ عليه بعضهم لأنهم لا يقوون على السير عراة من اليقين، فيما واصل آخرون المسير بغير حاجة إليه. ها أنذا أرى مصائر البشر، فالمؤمن منهم وجد نفسه هنا، لا لشيء سوى أن نصيبه من الحساب لم يُستوفَ في الدنيا. أمّا غير المؤمن، فمكانه ليس هنا أصلًا؛ إذ لم يُقرّ بوجود هذه العوالم، فكيف يُستدعى إلى مسرح لم يعترف به من البداية؟ من ظلمَ غيره وضُبط في حياته الفانية ورُدّ الحقّ إلى أصحابه، فلا حاجة لمحاسبة ثانية، بل يُفتح له الملكوت لينعمَ بما كان يظنّه، ومن لم يُضبط وهو مؤمن فسيلقى حسابه هنا كما هو ظنّه. ستبقى المظالم تقع بين الناس ويفلت منها من يفلت، مؤمنا بهذا المكان او غير مؤمن، غير أن اللوم في ذلك يقع على البشر أنفسهم، لأنهم لم ينضجوا بعد، في مسيرتهم الطويلة، نحو جنتهم التي ينوون تحقيقها على الأرض وسيظلون متعلقين بهذا المكان لإلقاء عجزهم عليه وتجيير مهمة تحقيق العدالة ورفع المعاناة إليه، إلى أن يبلغوا يوما جنتهم المصنوعة بأيديهم في دنياهم الفانية. وحين تتحقق تلك اليوتوبيا المنشودة على الأرض، تنتفي حينها الحاجة الى جنة السماء. دار السلام ليست وعدًا معلّقًا في الغيب بقدر ما هي مرآة لمحاولات البشر في صياغة العدل ورفع المعاناة عن عالم الشهادة. أما الله، فهو في مكان أبعد، ينظر من عليائه، تاركًا لعباده أن يكتبوا بأنفسهم فصول خلاصهم، حتى لو اضطروا إلى اختراع أديانٍ بأكملها كي يحتملوا عناء الطريق.
#سامي_الذيب (هاشتاغ)
Sami_Aldeeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
-
كتاب جديد عن المرشدية - دعوة للمساهمة
-
سريانية القرآن الكريم - د سامي الذيب مع أحمد سعد زايد ونكتة
...
-
ترجماتي الثلاث للقرآن باللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالي
...
-
ترجماتي الثلاث وطبعتي العربية للقرآن بالتسلسل التاريخي، وكتا
...
-
تجديد النص القرآني
-
مع الأستاذ مجدي حسين: توريط أم تطبيق الشريعة؟
-
من اسقاط نظام الأسد إلى إسقاط حضارة سوريا بالكامل
-
المطران متى روهم رئيس أساقفة السريان الأرثوذكس يتحدث عن الوض
...
-
شاهد على الأحداث - علامات استفهام حول السنوار
-
نحن على أبواب ردة عظمى وحروب ردة - شاركوا في النقاش
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
المزيد.....
-
بشبهة إيماءة مسيئة لامرأتين يهوديتين… الفاتيكان يحقق مع حارس
...
-
ما هو التحالف الدولي ضد تنظيم -الدولة الإسلامية-؟
-
-المفترس: الأراضي الوعرة- يعيد الروح إلى شباك التذاكر محققا
...
-
مستعمرون يحطمون قبورا في مقبرة باب الرحمة قرب المسجد الأقصى
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وينفذون جولات استفزاز
...
-
يهود ضد الصهيونية والاستعمار
-
الاحتلال يعتقل 8 مواطنين غرب سلفيت بينهم أسير محرر
-
إيران تتاهل الى نهائي كرة الصالات بدورة العاب التضامن الاسلا
...
-
السودان.. كيف أخرج الإخوان الجيش عن -المسار الوطني-؟
-
رئيس الوزراء العراقي: المسيحيون مكون أصيل وشريك في ترسيخ الت
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|