أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالخالق حسين - ثورة 14 تموز لبّت طموحات الشعب والمنصف لا يسميها انقلابا















المزيد.....


ثورة 14 تموز لبّت طموحات الشعب والمنصف لا يسميها انقلابا


عبدالخالق حسين

الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 02:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هذا المقال هو رد على مقال الأستاذ الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد، الموسوم: (تجربة العراقيين من منتصف القرن الماضي.. تطلعات في بناء الإنسان)، المنشور في صحيفة المثقف الغراء يوم 5/11/2025، (رابط المقال في الهامش رقم 1)، وهو مقال جيد كما عودنا السيد الكاتب في مقالاته السابقة الحافلة بالأفكار التقدمية التنويرية القيمة. وأنا متابع لكتاباته، وأعمم البعض منها على مجموعاتي، وأعيد نشر البعض منها على صحيفتي في الفيسبوك. ولكن في هذا المقال المشار إليه أعلاه، وبعد عدة صفحات من الأفكار القيمة، تفاجأتُ أنه وضع ثورة 14 تموز1958، في خانة الانقلابات العسكرية البعثية وجرائمها بحق الشعب العراقي، وشعوب المنطقة، وبذلك فالسيد الكاتب، كما البعض الأخر، راح يحمل ثورة 14 تموز الوطنية الأصيلة، جرائم حكم البعث الفاشي. وأرجو من كاتبنا المحترم أن يتسع صدره لهذه الملاحظات النقدية، ولنكن منصفين لكي (لا نحرق الأخضر بسعر اليابس) كما يقول المثل العربي. فهذا الخلط حفزني لكتابة ونشر هذا الرد رغم نفوري من الكتابة منذ ثلاث سنوات لأسباب صحية، وعمرية، وشيء من الكسل أيضاً! وقد حاولت في البدء نشر تعليق قصير في قسم التعليقات في المثقف، ولكن في الأخير رأيت من الأفضل كتابة مقال مستقل على مهل ودون تسرع،
أبين فيه الحقائق التي صارت أشبه بالبديهيات. وأرجو أن (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.)

والجدير بالذكر أن الأخ الكاتب ليس الوحيد الذي يلقي اللوم على ثورة 14 تموز في عدم استقرار العراق السياسي، وجرائم البعث، بل هناك كثيرون مثله، رغم أن العديد منهم كانوا من أشد المؤيدين للثورة في حينها. وخلاصة حجة هؤلاء أن العهد الملكي كان مستقراً وديمقراطيا، وليبرالياً، وواعداً بالخير العميم، لولا أن جاء عبد الكريم قاسم واقتلع نبتة الديمقراطية الطرية، مما أتاح لحزب البعث الصدامي ارتكاب كل هذه الجرائم البشعة بحق الشعب العراقي وشعوب المنطقة. فمشكلة الذين انقلبوا على ثورة تموز هي ليس لأن الثورة لم تكن ضرورية، بل لأن الذين حكموا العراق بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، جلبوا الكوارث، وبالتأكيد أسوأ بكثير من العهد الملكي، ولذلك صدق قول الشاعر:
رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلما صرتُ في غيره بكيتُ عليه

فثورة تموز كانت الضحية، لمؤامرات داخلية وخارجية، وعلى رأسها الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، في مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة أمريكا، وبين الاشتراكي الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي، ولم يكن السبب لأن الثورة لم تفِ بوعودها في تقدم العراق، بل العكس هو الصحيح، لأن الثورة حققت السيادة الوطنية العراقية، وأعظم المنجزات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وجاءت بأفضل حكومة وطنية نزيهة هدفها السيطرة على الثروات النفطية لمصلحة الشعب العراقي، وهذا ما رفضته أمريكا وحلفاؤها، واعتبروا أن الشعب العراقي خرق الأعراف والتقاليد السائدة، وخرج عن الطاعة، لذلك عملوا على معاقبة هذا الشعب وإعادة الحصان الجامح إلى حضيرته، وإعطاء الشعب العراقي درساً لن ينساه في الطاعة، وليكون عبرة لمن اعتبر من الشعوب العربية وغيرها. ولذلك اختاروا لهذه المهمة القذرة حزب البعث لما عرِفَ عنه من قسوة وهمجية في الانتقام من الخصوم لتحقيق الغرض الدنيء، إذ كما صرح أحد قادة البعث (علي صالح السعدي) أنهم جاؤوا إلى السلطة بالقطار الأمريكي، ويقصد أن مؤامرة 8 شباط 1963 كانت بتدبير الاستخبارات الأمريكية المركزية (CIA). وهناك دراسة أكاديمية (رسالة ماجستير) لطالب في إحدى
الجامعات الأمريكية بعنوان:
(التدخلات السرية الأمريكية في العراق خلال الفترة 1958-1963: جذور تغيير النظام في العراق الحديث بدعم أمريكي.)(2)

ومع الأسف، انخدع الضباط القوميون العرب الناصريون وساروا في ركاب المؤامرة بتأثير حبهم للوحدة العربية الاندماجية الفورية، وسحر الرئيس عبدالناصر عليهم، فابتلعوا الطعم، وشاركوا في المؤامرة ودفعوا الثمن باهظاً فيما بعد. أما حزب البعث فقد تبين أنه من الأساس صناعة الاستخبارات الغربية وخاصة الأمريكية، والبريطانية لتدمير العراق والدول العربية الأخرى لصالح إسرائيل، وهذا الاعتقاد ليس من بنات نظرية المؤامرة، بل هذا ما حصل وتأكد فيما بعد بدون أي شك.

هل حقاً كان العهد الملكي ديمقراطياً ومستقراً؟
في البدء، أود التوكيد لأولئك الذين يذرفون دموع التماسيح على العهد الملكي، أن العراق لم يرَ الاستقرار في جميع مراحل تاريخه المكتوب، أما العهد الملكي فكان من أشد العهود اضطراباً، وذلك بسبب تأسيس الدولة العراقية الحديثة على أساس عنصري وطائفي، لشعب منقسم على نفسه إلى عدة مكونات متصارعة، ومن البديهي أن أية دولة تتأسس على العصرية والطائفية لا يمكن أن تكون قابلة للبقاء. وأهم شاهد على صحة ما نقول هو ما قاله أحد أبرز وأهم المؤسسين للدولة العراقية الحديثة، ألا
وهو الراحل الملك فيصل الأول الذي عمم مذكرة في عام 1933، على أعضاء من الحلقات الحاكمة، والمقربين من الحكومة، جاء فيها قوله:
"العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية، مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلية، بينهم أشخاص ذو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي منها بدعوى أنها ليست من عنصرهم، وأكثرية شيعية جاهلة، منتسبة عنصرياً، إلى نفس الحكومة، إلا إن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين، كل ذلك جعل مع الأسف هذه الأكثرية، أو الأشخاص الذين لهم مطامع، خاصة الدينيين منهم، وطلاب الوظائف بدون استحقاق، والذين لم يستفيدوا مادياً من الحكم الجديد، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة، ويشوِّقون هذه الأكثرية للتخلي من الحكم الذي يقولون بأنه سيء بحت، ولا ننكر ما لهؤلاء من التأثير على الرأي البسيط الجاهل.(3) (عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص11، مطبعة دار الكتب بيروت، 1983).
وفي مكان آخر من المذكرة كتب الملك عما يقوله الشيعة: "إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي، حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها. (نفس المصدر، ص11).
وعن شعب العراق أضاف الملك: “وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي… (المصدر السابق، ص12).
ولكن لسوء حظ الشعب العراقي، أن الملك مات مبكراً في العام نفسه، 1933، الذي أصدر فيه مذكرته هذه، لذلك بدأ الصراع الدموي بين الشخصيات الحاكمة نفسها، فكان أول انقلاب عسكري في الدول العربية هو الانقلاب العسكري بقيادة الفريق بكر صدقي في العراق، عام 1936، ويعتقد البعض أنه تم بتواطؤ الملك غازي، الذي كان معادياً للغرب، ومتعاطفاً مع النازية الهتلرية الألمانية بدوافع وطنية وقومية.

الحرب الدائمة في العراق
من يراجع تاريخ العراق خلال الأربعة قرون الماضية، يعرف أن ما يجري فيه اليوم ليس جديداً. فتاريخ العراق كله كان عبارة عن حروب واضطرابات متواصلة، داخلية وخارجية. كما يجب أن نعترف مسبقاً، أن الشعب العراقي لديه الاستعداد الكامل للعنف وذلك نتيجة لتاريخه الدموي وثقافته البدوية الموروثة كما أسلفنا.
وهناك مقولات لشخصيات تاريخية عن صعوبة حكم الشعب العراقي، من بينها، وحسب التسلسل الزمني: اسكندر الكبير، والإمام علي، ومعاوية، والحجاج، والجاحظ. وتجنباً للإطالة، أدرج فقط وصية معاوية لابنه يزيد وهو على سرير الموت ، يقول ابن الاثير في تأريخه (فلما مرض معاوية الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد وقال له: انظر أهل العراق، فان سألوك ان تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فإنَّ عزل عامل أيسر من ان تُشهر عليك مائة الف سيف)، وفي رواية أخرى قيل عشرة ألاف سيف.

كما يؤكد الراحل العلامة علي الوردي، أن الشعب العراقي كان في حرب داخلية دائمة خلال أربعة قرون من الحكم العثماني وقسماً من العهد الملكي. ناهيك عن الحروب التي شنتها السلطة البعثية ضد الشعب منذ 8 شباط 1963 إلى 9 نيسان 2003.

لقد خصص الوردي فصلاً كاملاً من كتابه القيم (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) بعنوان (الحرب الدائمة في العراق) فيقول: أن أهم معالم الثقافة البدوية في الصحراء هو الحرب الدائمة. فالحرب في
الحياة الصحراوية هي الأصل، والسلم فيها عرض طارئ. وحين ندرس المجتمع العراقي في العهد العثماني نجد هذه الظاهرة موجودة فيه على نمط يكاد لا يختلف في أساسه الاجتماعي عما هو موجود في الصحراء. فقلما كانت تمر فترة في العراق دون أن يقع فيها قتال على وجه من الوجوه. وهذا القتال كان على أشكال مختلفة نذكرها فيما يلي على التوالي، حسب أهميتها وسعة نطاقها:
1-القتال بين القبائل بعضها مع بعض،
2- القتال بين القبائل والحكومة،
3- القتال بين المحلات في المدينة الواحدة،
4- القتال بين القبائل والمدن،
5- القتال بين المدن بعضها مع بعض،
6- القتال بين المدن والحكومة.

ولكن كاد الشعب العراقي أن يتخلص من ثقافته البدوية المتخلفة، وما ترتب عليها من حروب داخلية بين مكوناته، لولا اغتصاب حزب البعث للسلطة ثانية عام 1968 والذي عمل على بعث ثقافة البداوة، وإعادة الشعب إلى التقسيمات القبلية والعشائرية من جديد، حيث أعاد خلق الذهنية البدوية وسياسة الحروب العبثية. فعهد البعث هو الآخر كان أشبه بحياة البدو في الصحراء، عبارة عن حروب متواصلة.

ومن كل ما تقدم، نعرف أن العراق الملكي لم يكن بلداً مستقراً كما يعتقد البعض، وحتى لم يكن واعداً بذلك، وفي هذا الخصوص يقول المؤرخ العراقي الراحل الدكتور كمال مظهر أحمد: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام [الملكي] في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة." (د.كمال مظهر أحمد،
سعيد قزاز أمام محكمة التاريخ، صحيفة الإتحاد، العدد 402، الصادر
يوم 22/12/2000.)

كذلك كان الحكام في العهد الملكي يحتقرون جماهير الشعب، وفي هذا الخصوص يقول الوردي:
"إن جلاوزة العراق، ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ينظرون إلى الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار. ولعلهم لا يشعرون بهذا الاحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو كامن أغوار نفوسهم، اللاشعور من أنفسهم، فهم ينساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحياناً.7 (د.علي الوردي، خوارق اللاشعور، الوراق للنشر-لندن، ط2، سنة 1996، ص 227.)

كذلك، يتهم البعض ثورة تموز أنها فتحت الباب للانقلابات العسكرية، وهذه مغالطة شنيعة تدل على جهلهم بتاريخ العراق، وأنصح كل من يريد أن يفهم العراق وشعبه أن يقرأ كتب العلامة الوردي وكتاب الباحث الراحل حنا بطاطو (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق)، وهو مترجم إلى العربية بثلاثة مجلدات ترجمة جيدة. فمرحلة الانقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بانقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، كما ذكرنا أعلاه، وما تلاه من خمسة انقلابات عسكرية مستترة أخرى وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958. (8) (راجع د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1920-1958، دار الحصاد-دمشق، ط1، سنة 2000.)
وبذلك فإن تسييس العسكر قد حصل في العهد الملكي، وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً لتسييس العسكر.

هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟ (9)
فماذا جرى يوم 14 تموز 1958، هل هو انقلاب عسكري أم ثورة عدة مرات، ولكن بلا جدوى، لذا أعود بشهادة شخصيتين أكاديميتين، وهما:
المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسن الذي قال: "أن الثورة العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية. والشاهد الثاني هو المؤرخ الأكاديمي ألأمريكي حنا بطاطو حيث أيد ذلك بقوة الموضوعية عندما سأل: هل ترقى أحداث 14 تموز (يوليو) إلى مستوى الثورة أم أنها مجرد انقلاب؟ ويجيب قائلاَ: "والواقع إن إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة، يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية أن تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف... والواقع إن 14 تموز أتى معه بأكثر من مجرد تغيًر في الحكم. فهو لم يدمرً الملَكية، أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية فحسب، بل أن مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق. ولقد دمرت إلى حد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر المشايخ، ملاكي الأراضي ولكبار ملاكي المدن، وتعزز نوعياً موقع العمال المدنيين والشرائح الوسطى، والوسطى الدنيا في المجتمع. وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لإنتقال المِلكية من ناحية، ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى. (10) (راجع حنا بطاطو، ج3، ترجمة عفيف الرزاز، ص 116).

لماذا حصلت ثورة 14 تموز العراقية؟
في انتخابات عام 1954 البرلمانية في عهد حكومة أرشد العمري، كان هناك هامش من الحرية لأحزاب المعارضة الوطنية للترشح، حيث حصلت المعارضة على 11 مقعداً من مجموع 131. فلم يتحمل نوري السعيد هذا العدد القليل من نواب المعارضة، فقام بانقلاب القصر على زميله العمري بعد 24 ساعة من افتتاح البرلمان. ولذلك يئست القوى الوطنية من أي أمل في الإصلاح السياسي السلمي،
وخاصة في تلك الظروف الحبلى بالانفجار.

لذلك قال زعيم الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم، في احدى خطبه أن الناس يئسوا من الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية، ولذلك تدخل العسكر في صبيحة يوم 14 تموز 1958. نعم في الساعة الأولى من العملية، كانت انقلاباعسكرياً، بلا شك، ولكن ما أن سمع بها الشعب حتى وخرج إلى الشارع من أقصى العراق إلى أقصاه تأييداً للعملية، وتحويلها من انقلاب عسكري إلى ثورة حقيقية، وبقيت كذلك إلى يوم اغتيالها في انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، وبما حققته من منجزات ثورية في جميع المجالات خلال عمرها القصير أربع سنوات ونصف، ضعف ما حققه النظام الملكي خلال 38 سنة من عمره. فهذا التأييد الجماهيري العارم كان عبارة عن تصويت الشعب ومنحه الشرعية للثورة.
نعم، حصلت تجاوزات جماهيرية بعد الثورة، راح ضحيتها أبرياء، وهذه ظاهرة نجدها في جميع الثورات بعد إسقاط الأنظمة المستبدة، وفي هذا الخصوص يقول فردريك أنجلز: "لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة."

الثورة حتمية تحدث ولا تصاغ، كالقدر المكتوب
كان حكام العهد الملكي، وخاصة نوري السعيد وعبد الإله، ظالمين بكل معنى الكلمة، و(الظلم لو دام دمر يحرق اليابس والأخضر)، ولا يمكن مطالبة الشعب بالسكوت على الظلم وعدم الثورة خوفاً من احتمال أن يكون البديل أسوأ كما تبيّن بعد اغتصاب البعثيين للسلطة، لأن الأمور مقرونة بأوقاتها، وهذا الاحتمال موجود دائماً وفي جميع الثورات. وليس من حقنا مصادرة حقوق جيل الخمسينات بما نعرفه اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين. إذ يقول المثل الإنكليزي: (After the event every body is clever) أي (بعد فوات الأوان كل واحد يدعي الذكاء.)
فبالنسبة لنظام صدام حسين مثلاً، هل من المنطق السكوت عنه لأنه كان هناك احتمال أن يأتي أسوأ منه؟
إن هذا الكلام يفنده منطق التاريخ، فيناقش الراحل علي الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون) هذا الموضوع. وابن خلدون هذا كان لا يعترف إلا بالثورات الناجحة. ويحاجج الوردي موقف ابن خلدون قائلاً: "لو اتبع الثوار هذا المبدأ الخلدوني منذ قديم الزمان لما ظهر في الدنيا أنبياء ولا زعماء ولا مصلحون، ولصار الناس كالأغنام يخضعون لكل من يسيطر عليهم بالقوة، حيث يمسي المجتمع بهم جامداً يسير على وتيرة واحدة جيلاً بعد جيل.
ويضيف الوردي قائلاً: وقد غفل ابن خلدون عن ناحية أخرى من تاريخ الثورات. فالثورة قد ينتهي أمرها إلى الفشل، ولكنها على الرغم من ذلك قد تكون ذات أثر اجتماعي نافع. إنها قد تحرك الرأي العام وتفتح أذهان الناس إلى أمر ربما كانوا غافلين عنه. وكثيراً ما تكون الثورات الفاشلة تمهيداً للثورة الناجحة التي تأتي بعدها. حيث تكون كل واحدة منها بمثابة خطوة لتمهيد الطريق نحو الثورة الأخيرة.
وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف درُكر (Peter F. Drucker) حيث قال: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ
تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية.
وبناءً على مقولة المفكر الأمريكي أعلاه، يجب ألا نلوم المظلومين في الثورات وحتى الفاشلة منها، بل يجب ان نلوم الحاكمين المستبدين الذين وقفوا عقبة كأداء ضد التغيير والتطور. إذ يردد خصوم ثورة تموز مقولة في المنطق أن الأمور تعرف بخواتيمها. وطالما جاء البعث الصدامي للسلطة فثورة تموز فاشلة! هذه المقولة لا تنطبق على الثورات، كما بينا أعلاه.
فالمجتمع العراقي قد تغير كثيراً لكن بقي النظام الملكي بلا تغيير بسبب تعنت نوري السعيد وعبدالإله وتمسكهما بالسلطة. فنوري سعيد صار رئيساً للوزراء 14 مرة، وكان هو الذي يحكم حتى عندما لم يكن في الحكومة. علماً بأن 50% من مرحلة الحكم الملكي كان حكماً عرفياً، أي حكم العسكر، ودورة برلمانية واحدة فقط أكملت مدتها الشرعية أربع سنوات، أما الدورات الأخرى فكان البرلمان يحل عند تغيير رئيس الوزراء، وتجرى انتخابات حسب مقاس الرئيس الجديد يقرر من يفوز من المرشحين لمجلس النواب. فهل هذا دليل على استقرار العراق الملكي؟

لماذا يعادي الحكام الجدد ما بعد 2003 ثورة 14 تموز العراقية وقائدها؟
والسؤال هنا، لماذا يعادي الحكام الجدد ما بعد 2003 ثورة 14 تموز العراقية، وعداءهم الشديد للزعيم عبد الكريم قاسم؟ ولماذا رفضوا جعل يوم 14 تموز عيداً وطنياً، وهو يوم تأسيس جمهورية العراق؟ ولماذا رفضوا العلم العراقي وشعاره في عهد تموز وفيهما كل رمزيات التاريخ العراقي ومكوناته، ولماذا فضلوا عليه علم وشعار جمهورية البعث التي تسمى بجمهورية الرعب؟ الجواب هو: لأن نزاهة الزعيم قاسم، ومنجزات الثورة تفضح فسادهم، لذلك يعملون كل ما في وسعهم لحذف وإزالة ثورة تموز من ذاكرة الشعب العراقي، تماماً كما عمل البعثيون، ولكن هيهات، فالتاريخ يمهل ولا يهمل، فقد انتهى البعث في مزبلة التاريخ، لأن في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

خلاصة القول: إن ما حصل يوم 14 تموز كان ثورة وطنية أصيلة وحتمية فرضتها ظروف موضوعية وتاريخية ملحة. وكانت الثورة حصيلة نضال جماهير شعبنا منذ ثورة العشرين، مروراً بالانتفاضات
الشعبية، والوثبات الوطنية، لتحقيق الاستقلال السياسي الكامل، والسيادة الوطنية، والديمقراطية. وكانت السلطة الملكية ديمقراطية في المظهر، وديكتاتورية في الجوهر بواجهة برلمانية مزيفة، وقد استنفد دورها، وصارت عقبة كأداء أمام التطور الحتمي بحكم التاريخ، وقضت على أي أمل في إجراء التغيير المطلوب بالطرق السلمية. لذلك لم يبق أمام قيادات القوى الوطنية والأحزاب السياسية وتنظيمات الضباط الأحرار، سوى اللجوء إلى القوة، خاصة وقد توفرت لها الشروط الموضوعية والعوامل الذاتية لتحقيق التغيير التاريخي المطلوب بالثورة المسلحة. لذلك فمعاملة ثورة 14 تموز 1958 كما الانقلابات العسكرية البعثية مؤسف جداً وغير صحيح نرجو من أهل الحل والعقد إعادة النظر من هذه الثورة
العراقية الأصيلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر
1- عبد الأمير كاظم زاهد: تجربة العراقيين من منتصف القرن الماضي.. تطلعات في بناء الإنسان
https://almothaqaf.org/opinions/984281

2- التدخلات السرية الأمريكية في العراق خلال الفترة 1958-1963: جذور تغيير النظام في العراق الحديث بدعم أمريكي.
US Covert intervention In Iraq Arabic version.pdf

وهذا رابط النسخة الإنكليزية الأصلية:
U.S. COVERT INTERVENTION IN IRAQ 1958-1963: THE ORIGINS OF U.S. SUPPORTED REGIME CHANGE IN MODERN IRAQ
file:///C:/Users/abdul/Documents/My%20document/Academic%20Studies/U.S_and_The_Baathists_Iraq.pdf

3- عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص11، مطبعة دار الكتب بيروت، 1983).
4- (نفس المصدر، ص11).
5- (نفس المصدر، ص12).
6- د.كمال مظهر أحمد، سعيد قزاز أمام محكمة التاريخ، صحيفة الإتحاد، العدد 402، الصادر يوم 22/12/2000.
7- د.علي الوردي، خوارق اللاشعور، الوراق للنشر-لندن، ط2، سنة 1996، ص 227.
8- (راجع د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1920-1958، دار الحصاد-دمشق، ط1، سنة 2000.)
9- عبدالخالق حسين: هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=643455

10 راجع حنا بطاطو، الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية في العراق، ج3، ترجمة عفيف الرزاز، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت، ص 116).

روابط ذات صلة:
عبدالخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز 1958
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=684592

عبدالخالق حسين: هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=64

عبدالخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

وهناك قائمة طويلة بالمنجزات نشرت على مواقع الانترنت بوم 13 تموز 2018، وهذا رابطها:
منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خلال فترة حكمه
http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

ثورة وزعيم... كتاب الدكتور عبد الخالق حسين عن الزعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958
https://foulabook.com/ar/book/كتاب-ثورة-وزعيم:-ثورة-14-تموز-1958-العراقية-وعبدالكريم-قاسم-pdf

رابط كتاب د. عبدالخالق حسين: الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق
https://foulabook.com/ar/book/كتاب-الطائفية-السياسية-ومشكلة-الحكم-في-العراق-pdf



#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا ألغت قيادة ثورة 14 تموز مجلس الإعمار؟
- الإسلام بين التفخيخ والتفخيذ (2-2)*
- الإسلام بين التفخيخ والتفخيذ (1-2)
- في الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز العراقية
- المحنة الأوكرانية تسير حسب المخطط الأمريكي
- حول الاحتجاجات على تكريم توني بلير بوسام الفروسية
- العراق ومستقبله المظلم!
- من المسؤول عن الإسلاموفوبيا؟
- من وراء محاولة اغتيال الكاظمي؟
- المشاركة في الانتخابات واجب وطني
- قراءة في كتاب أنتوني فلو: هناك إله (2-2)
- قراءة في كتاب أنتوني فلو: هناك إله(1-2)
- حول الدعوات المشبوهة لهدم تمثال المنصور ومرقد أبي حنيفة
- حول المليشيات الولائية مرة أخرى
- أسلم طريق في مواجهة المليشيات المنفلتة
- إيران وأمريكا وإسرائيل صراع ظاهري وتخادم فعلي
- لا لأسلمة المحكمة الإتحادية العليا
- حوار مع القراء حول التدخل الإيراني والأمريكي في العراق(2)
- حوار مع القراء حول التدخل الإيراني والأمريكي في العراق(1)
- متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟


المزيد.....




- تصويت حاسم بمجلس الشيوخ الأمريكي لإنهاء أطول إغلاق حكومي
- من زعيم لهيئة تحرير الشام إلى زيارة ترامب: التحول الجذري للر ...
- مسلحون يخطفون ناشطة على -تيك توك- ويعدمونها علنا في شمال مال ...
- الخارجية الفنزويلية: البلاد مستقرة ومستعدة لصد أي اعتداء
- الرئيس اللبناني يشدد على التزام بلاده الصارم بمكافحة تبييض ا ...
- السودان: ناجون من الفاشر يتحدثون عن هجمات عرقية نفذتها قوات ...
- اتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين على إنهاء أطول إغلاق حكوم ...
- -الشيوخ الأميركي- يصوت على مشروع قانون لإنهاء الإغلاق الحكوم ...
- ترامب معلقاً على استقالة المدير العام والرئيسة التنفيذية للأ ...
- الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية للولايات المتحدة


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالخالق حسين - ثورة 14 تموز لبّت طموحات الشعب والمنصف لا يسميها انقلابا