هيثم علي الصديان
الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 00:22
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
كان المتنبي قد قال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا...
مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
تخيّل أنّ بعض رجالات الأسد، الذين قيل كثيراً عن علاقات ربطتهم بالفرقة الرابعة وإيران، وعن دورهم في تجنيد أبناء العشائر لصالح الجيش السوري السابق...
يتسلّلون اليوم عبر استكمال مسيرة الثورة، فيتمكنون من استباحة المدينة التي كانت محرّمة عليهم طيلة عهد سيّدهم، ويتمكّنون من قتل أولئك الذين تجرّؤوا في عهد سيّدهم على ملء ساحة الكرامة، رافعين لافتاتٍ كُتب عليها: (بشار قاتل الأطفال)،(بشار البراميل) (بشار الكيماوي)،(مكانك لاهاي لا دمشق)، ترافقها زغاريد النساء: (ثورتنا منصورة).!!!
كيف كانوا سيتمكّنون من ثكل تلك النسوة، وسفك دماء أولئك الشباب الذين امتنعوا يوماً عن الالتحاق بجيش الأسد، فتركوا فراغاً كبيراً دفع رجالُهم- رجالات الأسد- أثماناً ودماء وأرواحاً لسدّ هذا النقص(يبدو أنّّهم لم ينسَوا إلى اليوم).!!!
فهم اليوم يقفون فوق رؤوس أبناء هذه المدينة الملطّخة بالدماء، عابثين بأجسادهم، شامتين يقولون على أسماع كلّ واحد منهم، ولديهم قناعة بأنهم يسمعونه: "ذق عقق؛ ألست امتنعت عن مناصرة بشّار؟. فانظر حولَك مَن قاتلوك".
هل كان لهم أن يُكملوا ما عاهدوا عليه سيّدَ وطنهم، ويخبروه اليوم: "لتقرّ عينك سيدي الرئيس...! فنحن في وسط ساحة الكرامة وقد ملأناها دماً"..؟!
تخيّل لو أنّ هناك مَن قُتل أخوه زمن بشّار، برصاص ميليشيات ليست من الجيش، إنّما جاءت لتسدّ الفراغ الذي أحدثته الانشقاقات وامتناع كثير من الناس عن إرسال أبنائهم للمشاركة في القتل، وخاصّةً أبناء السويداء، فقرّر أخوه الالتحاق بالثورة والانتقام لأخيه، وها هو اليوم يكمل سيطرة الدولة على الجغرافيا السورية، فيدخل مع الداخلين لمحاربة المارقين... أليس جائزاً أن يكون إلى جانبه قاتلُ أخيه؟! فيدخلان حارةً ويتعاونان على قتل المسلّحينَ فيها؟ ويكون أحدُ هؤلاء القتلى ذاك الشابّ الذي امتنع عن الالتحاق بجيش بشار، ورفض الوقوف إلى جانب قاتل أخيه.. واليوم هو وقاتل أخيه يقفان بزهوّ فوق جثة هذا الشابّ، ثمّ يعانق بعفوية تامّة زميلَه قاتلَ أخيه، قائلاً له: "أنت أخي الذي لم تلده أمّي...!".
كنتُ سأكمل المقال عن خيانة بعض ضعيفي النفوس الذين استهواهم حضن الكيان، لكنّ منشوراً بالأمس تعثّرت به وجدت صاحبه يقول إن الذين هللوا لقصفِ الكيانِ دمشقَ أيّام النظام السابق معذورون؛ فقد أجبرهم بشّار على ذلك.
علماً أنّ هذا القائل المبرِّر كان ابناً بارّاً لسيّد وطنه يوم ذاك... وكان يتباهى بمواقف سيده الوطنية والقوميّة. ولكن ما كان له أن يكون من مكملي مسيرة الثورة لولا ذاك الخلل الذي دخل منه أشباهُه من رجالات الأسد وأمثالهم، ليصيروا ثوّاراً، ويصير أبناء الجبل متّهمين.
ما تتميّز به الثورة من غيرها، كالانقلاب والفوز السياسيّ والإنجاز الحزبيّ، أنّ الأخيرات تقاس بإنجازاتها، لكنّ الثورة تقاس بمبادئها، ولا قيمة لانتصارها أو إخفاقها في تحقيق مكانتها وتقدير قيمتها، حين تختلّ تلك المبادئ.
وعليه، فقد يكون زمن عدوّها أوفى لها من زمن انتصارها.
ففي زمن بشّار كان هناك فاصل طُهريّ بين الشبّيحة والمظلومين، بين الصادقين والمنافقين، بين القاتل والمقتول...وأمّا اليومَ بعد أن ولّى عهدُ عدوها، فقد ضاعت المسافات واختلطت الأنساب وتصاهرت المتضادّات.
ليس جديراً بوليّ الدم أن يعوّض بفقده نسبَ طائفته، ويهجر نسبَ قضيّته. فمن امتنع عن إرسال أبنائه ليدمّر بيتي هو أقرب إليّ ممّن لبّى نداء سيّده حتّى لو لم يكن بيتي تدميرَ يديه، فإنّه لا شكّ دمّر بيتَ منكوبٍ آخر في مدينة أخرى. فهذا وذاك المدمّرَانِ ليسا من طائفتي ولست من طائفتهما، وأنا المنكوب وذاك الذي التزم بيته ومدينته شريكا طائفةٍ وانتماء. فالطوائف تُصنع ولا تُفرض، والانتماء مبدأٌ لا نسبٌ.
نحن، سيادة الرئيس، سنقف كلّنا خلفك بل أمامك نحميك بصدورنا العارية حين تكون بندقيتك صوب العدوّ الحقيقيّ للوطن، لأنّها ستكون وقتها بندقيةَ كلّ السوريّين، وسنبتعد عنك كثيراً حين تكون بندقيتك في مكان آخر.
فاختر الجهةَ التي ستصوّب، لنختر مكاننا.
اخترِ الجهةَ التي تجمع القلوب، وهل ثمّة رابطة أقوى من رابطة القلوب...؟! اختر مكانك لتضمن للمساكين من السنّة، الذين لا يعرفون التملّق، مكانَهم من المستقبل؛ ففي بلد تحكمه عقليّة الطائفة ومنطق الطائفيّة لن يُنظر إلينا بوصفنا مواطنين، لنا وعلينا ما كسبت أيدينا، وإنما بوصفنا كائنات تنتمي إلى طوائف محددة، تُعرف سماهم من لهجاتهم ومدنهم ولون بشرتهم وربما من أسمائهم كذلك. اليوم يسود جنون منطقي يجعل عاملَ النظافة، القاطن في أقاصي البلاد على الحدود العراقية، جزءاً من بنية السلطة ومحسوباً عليها، شرطَ أن يكون بحكم الولادة والقدر من طائفة الحاكم.
وقد قال الرسول مادحاً الأنصار: " إنّكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطمع".
هكذا وصف الرسول أنصاره، ومنه يجب أن نقيس القيمة الأخلاقيّة للهبّة والحميّة؛ فأربع عشرة سنة من التّهجير والدمار لم نرَ العشائر تفزع لنصرة المظلوم، وأمّا اليوم والدولة قويّة متمكّنة فهي ليست بحاجة إلى هذه الفزعة، ولو كانت بحاجة ملحّة لما وجدناها.
لقد كان لنا بالأمس القريب مَن جعل طريقَ القدس يمرّ عبر حلب، على دماء الأبرياء المدنيّين، فلا نريد اليوم مَن يقنعنا أنّ طريق القدس يمرّ عبر السويداء، فنتيه في الطريق ونُلحق السويداء بالقدس.
لقد كان أولى بالرئيس الشرع أنّ ينحاز لأهل السويداء، ويحمل لهم وقوفهم مع الثورة، ويتساهل ويلين؛ فلينه لأبناء بلده فيه قوّته وشرعيّته. وكان أولى به أن يتذكّر أنّ الأسد كان يدخل المدن المنتفضة عليه تحت ذريعة أنّه الدولة وأنّهم مخرّبون.
كلّنا بشر نخطئ ونصيب، لكنّ الخطأ في الدماء عسير تصحيحه. وعلى الرغم من ذلك ما زال لدينا ما يكفينا لنصحّح ونصلح.
وعلى الحاضنة العربية – خاصّة المملكة العربية- ألّا تتخلّى عن الدور التاريخي المنوط بها اليوم، في الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي- الوطني السوري، وهذا يكون من خلال اتخاذ خطوات عملية فاعلة نحو كلّ مكونات الشعب السوري، من دون الاقتصار على مكوّن محدّد بعينه، ففي كثير من هذه المكوّنات من الانتماء العروبي ما لا يقبل الشكّ أو المزاودة أو المساومة؛ وفي هذا قطع الطريق على يد العبث الإسرائيليّة المتسلّلة عبر بعض الثغرات حين غابت عين الرعاية العربية.
الجور المضاعف
كم من أبٍ فُجع بابنه أو ابنته، وكم من أخ فُجع بأخيه أو أخته، وكم من ابن فُجع بأبيه أو أمّه.... وكم وكم وكم...!!! كان هذا في عهد الأسد.
واليوم كذلك الأمس، كم من أبٍ فُجع بابنه أو ابنته، وكم من أخ فُجع بأخيه أو أخته، وكم من ابن فجع بأبيه أو أمّه.... وكم وكم وكم...! هذا في عهد الشرع.
وكم من مواطن ظُلم في عهد الأسد..!
وكم من مواطن ظلم في عهد الشرع وغُبن حقّه..!
- ما الذي سيحدث؟:
سيجري لملمةُ الفواجع والمظالم على أساس جمعيّ؛ هذا المفجوع مقابل ذاك المفجوع، وهذا المظلوم مقابل ذاك المظلوم.
هذا يعني: أنّ المفجوع الأوّل تحمّل ديّةَ المفجوع الثاني، والمفجوع الثاني أخذ ديّته من المفجوع الأوّل. وهذا يعني أنّ القاتل الأوّل قدّم قتيله فديةً عن القاتل الثاني، والقاتل الثاني قدّم قتيلَه فديةً عن القاتل الأوّل.
ثم يتصالح القاتلان، ليبنيا دولتنا الجديدة...!!!
وهذا يعني: أنّ المظلوم الأوّل سيأخذ حقّه من المظلوم الثاني، والمظلوم الثاني سيتكلّف خسارة المظلوم الأوّل؛ فيكون المظلومُ ضحيّةَ ظالمٍ مرّة، وفداءَ ظالمٍ مفدّى مرّةً ثانية.
ثمّ يعود هذان الظالمان لينضمّا إلى هذين القاتلينِ ويشاركانهما بناء البلد..!!!
هذا ما يجري في سوريا بين اليوم والأمس... الضحايا مطايا في العهدين، والجناة ،هم الورثة.
كأنّ الضحيّة يدفع دمَه وهو حيّ، ليرثه الجاني بعد موته.
فضحيّةُ الأمسِ هو وحده مَن سيدفع فديةَ ضحيّةِ اليومِ. وأيّ ظُلم اليومَ سيتكلّف غرامته مظلومُ الأمس لا غير.
وسنعيش في دولة يكون المفجوعون أصحابَ أحقاد وضغائن ونعرات[أي مواطنين سيّئين]، بينما القتلة والظالمون أصحاب نهج متسامح متصالح[أي مواطنين صالحين].
لهذا فضحيّة الأمس هو الأولى بالدفاع عن ضحايا اليوم؛ فجُناة اليومِ لا ينتصرون لضحايا الأمس، بل ينتقمون على حسابهم.
الثّورة اليوم تمثّلها الطّوائف الأخرى، فهم الأقرب إلى روحها، بعد أن زال الأسد وحاجزه الأسديّ، فليمدّوا لهم يد الثّقة والمساندة تعمرْ البلد. والأهم ألا نُسهم في إعادة أقطاب النظام السابق، فإنهم لن يعودوا ليصلحوا ما خرّبوا، وإنما يعودون ليثبتوا أنهم كانوا على حق، وأن على الشعب أن يعتذر لهم لأنه خذلهم بين معارض ومحارب ومشكك ومتقاعس ومتذمّر ولائم؛ فهربوا جناة ليعودوا منقذين.
#هيثم_علي_الصديان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟