أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هيثم علي الصديان - ظاهريات الدولة السورية- رحلة المفهوم من الوعي إلى البندقية















المزيد.....


ظاهريات الدولة السورية- رحلة المفهوم من الوعي إلى البندقية


هيثم علي الصديان

الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 08:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا أحد من السوريين اليوم إلا ويؤكد التمسّك بفكرة الدولة وضرورة حمايتها وعدم المساس بها، في الوقت ذاته يجد الجميع ويرى أن مفهوم الدولة غائباً عن واقع الحال، سواء أكان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي؟ فمجريات الأحداث وردود أفعال الناس عليها، تنبئ أن مفهوم الدولة ما يزال ملتبساً غير واضح المعالم ولا مستقر الدلالة في وعي السوريين، لا عقلاً ولا وجداناً. وهذا هو حال ظاهرة الدولة في الفكر الفردي السوري، على أن الجميع يلهج باسم الدولة وبأهميتها وضرورة استقرارها، وما هذا إلا لأن المفهوم في جوهره ليس متحققاً ولا مستقر الدلالة في الوعي الفردي، حتى يمكن أن يتطور وينتقل من الوعي الفردي إلى الوعي الجمعي، الذي عليه التعويل في تحققه واقعاً واستقراره تاريخاً واكتماله صيرورة. فالعيب ليس في الواقع والعطل ليس في الممارسة والتنفيذ، بل العيب في الوعي الفردي المعطِّل لتحققه وتحويله إلى وعي جمعي يمكن من طريقه ترجمته واقعاً وممارسة.
ويمكن أن نعيد صياغة السؤال أو بالأحرى التساؤل ونتجاذب تداوله على نحو آخر :
- هل ثمة سلوك شعبي يترجم مفهوم الدولة وينقله من حيز الشعارات والتداول اللفظي والإعلامي بمستوياته كافة، إلى حيز الواقع والصيرورة التاريخية للبلد، بمجالاته البنيوية المختلفة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟
يسيطر اليوم على وعي الفرد السوري ويملأ شعوره ووجدانه ومخياله فكرة المظلومية الطائفية، وما يترتب عليها ويلحق بها من سردية جور الطوائف الأخرى وتعنتها. وأما مفاهيم مثل: (الدولة، والمواطنة، والوطن)، فهي ليست أكثر من مفردات مخضوضة ممخضة منها دلالاتها ومسحوبة منها ومعزولة عنها، وكأنها مجموعة ألفاظ أعجمية الدلالة والمفهوم ولا يُعرف منها غير حروفها ولفظها. وهي مفاهيم أشبه بكليشيهات تقال تثاقفاً وتزييناً، وتُتداول تكلفاً وتوهماً وتمويهاً على عجز إدراكي كلي لمعاني هذه المفاهيم وفهم جواهرها وتفاصيلها المنطقية المحددة. فما أكثر الذين يتغنون بفكرة الدولة ويلحون عليها، لكنهم في سياقات كلامهم ذاته يوجد ما يؤكد ويقطع الشك باليقين أنهم لا يعون ما يقولون ويلفظون، وأنها ليست أكثر من كلمات تزين سياقات أحاديثهم، ولمّا تتجاوز بعد حناجرهم، أو أبعد من ألسنتهم وعياً ووجداناً.
الدولة ليست أبعد من مفردة تزيينية وهمية ولازمة تضليلية، يتزين بها معظم السوريين اليوم، ويضللون على حقيقة عجز وعيهم ونكوصهم عن استيعاب فكرة الدولة وفهم مفهومها والتفاعل معه عاطفياً؛ فالدولة هي فكرة أولاً، وهي مفهوم بشري، والأهم أنها حالة عاطفية وجدانية يجب أن يكون لها تأثير في الشعور واستقرار في الضمير، حتى يمكن تقبلها جمعياً وتجسيدها تاريخياً.
هكذا هو الوعي الفردي للسوريين اليوم مع هكذا مفاهيم، يتساوون في ذلك جميعهم، لا فرق بين عامل أو مدير، ولا بين مهمش بسيط أو مثقف نخبوي، ولا بين فقير أو غني، ولا بين مواطن أو مسؤول.

■ عقل الدولة بين السلطة والحدود:
لا غرابة أن ينتهي هذا الوعي الفردي للدولة إلى رؤية أخرى ملتبسة حول ثوابت الدولة والتزاماتها، وحول حق الفرد على دولته وواجبها عليه. ولنا لتوضيح الصورة أن نقارن بين ردود الفعل الجمعي للمعارضة الإيرانية حين تعرضت بلدهم للضربات الإسرائيلية- الأمريكية، وردود الفعل الجمعي ذاته للمعارضة السورية من الضربات الإسرائيلية- الأمريكية للدولة السورية طوال فترة الثورة السورية المسلحة؛ فالمعارضة الأخيرة رأت فيها ضربات للنظام، في حين أن المتقدمة رأتها عدواناً على بلدها. وما هذا إلا لأن وعي العقل الفردي للمعارض الإيراني يعي مفهوم الدولة وتصوراتها الذهنية على نحو مختلف عن وعي العقل الفردي للمعارض السوري وتصوراته للدولة ومفهومها، ولو على مستوى التنظير والتصريح فقط، إذ حالَ وعيُهُ السياسي والأخلاقي المستند إلى إرث فارسي قديم، إرث مفعمة ذاكرته التاريخية بنظرية الدولة وفكرتها وتمثلاتها السردية والوجدانية وثوابتها وأعرافها المحرمة، حالَ هذا بينه وبين التجرّؤ على المساس بتلك المحرمات التي لطول العهد بها صارت ثوابت مسيطرة على الوعي الفارسي الجمعي، فالتزمها الفرد بغض النظر عن نوازعه الذاتية وأهوائه الشخصية وكوامن نفسه البشرية؛ وهو ما يترجم الصورة البلاغية والمنطقية لمفهوم الدولة وحدودها المقدسة في وعي الفرد الإيراني ابن الوعي الجمعي الفارسي، ترجمةً مختلفة عن تلك التي قدمها موقف المعارض السوري حيال موقف مشابه من الدولة وحدودها، والمحرم فيها من المباح.
والتصور العقلي الوجداني لمفهوم الدولة صار من مسلمات الفكر السياسي المعاصر ومن المفاهيم القارة في الوعي الفردي المعاصر، وبات المفهوم ظاهرة حياتية لازمة للوجود البشري، على المستويين الفردي والجمعي. ويمكن لنا هنا أن نستحضر مثالاً آخر من بلد آخر عن تجذر هذا المفهوم في وعي شعبه، وكيفية ترجمته في ظرف سياسي آخر مشابه لما ذكرناه وحيال حالة سياسية مماثلة؛ ففي تركيا الجارة، جرت في يوليو 2٠١٦ محاولة انقلاب عسكري على الرئيس ( رجب طيب أردوغان)، عملية انقلابية للاستيلاء على السلطة والإطاحة بالنظام، مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. وقد استطاع العسكر الانقلابيون السيطرة على معظم مقرات الجيش، وعلى المجال الجوي لأنقرة، وعلى أكثر ساحات المدن وشوارعها. لكن زعيم أعرق حزب تركي (كمال قلجدار أوغلي) رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض (CHp)، الحزب الأتاتوركي العلماني القومي، كان أول المبادرين فأصدر بياناً رفض فيه الانقلاب وأعلن وقوفه إلى جانب الشرعية الديموقراطية، التي تتمثل في رئاسة أردوغان، الرئيس الإسلامي المناوئ لقيم العلمانية الأتاتوركية، والخصم الرئيس لحزب الشعب ولزعيمه. فهو لم ينتصر لأردوغان، لكنه انتصر لمفهوم الدولة وثوابتها الدستورية والديموقراطية. انتصر للدولة التي يرأسها خصمه الحزبي والسياسي والأيديولوجي، ورفض انقلاباً أقرب إلى رؤيته الحزبية والأيديولوجية، انقلاباً يمكن أن يأتي به رئيساً ولو شكلياً. وما هذا إلا لأن مفهوم الدولة وثوابتها متجذرة في الوعي الفردي ومسيطرة على الوعي الجمعي هناك. حاله حال الوعي السياسي الإيراني المعاصر الذي استشهدنا به للمقارنة وتوضيح التباين. وهذان مثالان للتمثيل من نماذج معاصرة لا حصر لها وتشاركُنا هذا العالم جغرافياً وزمانياً، بيد أنها- وللأسف- لمّا تشاركْنا وعيَ مفهوم الدولة ووعي ارتباطاته السياسية وثوابته القِيميّة والمعيارية.
وهذا، القصور في التصور واضطراب دلالاته لا يقتصر على الفرد السوري وحده، من دون العرب. بل هو التصور الجمعي ذاته الذي يترجمه الوعي العربي في سلوكيات أفرادهم ومنجَّماً في مواقفهم من دولهم وأحوالها، وقد بان هذا جلياً في مواقف المعارضة العراقية من حربي الخليج وسقوط النظام- الدولة العراقية تحت الاحتلال أولاً، ثم الهيجان الطائفي تالياً. فثمة اختلاف جوهري بين الوعيين: العربي والفارسي، أو العربي والتركي، في استقبال مفهوم الدولة وتصوره. وذلك لأن مفهوم الدولة حديث عهد في الوعي الجمعي العربي، ولمّا يتمكن بعد من التغلغل إلى منطقة النفوذ الأعمق والأقوى في التكوين النفسي البشري من العقل العربي- السياسي، منطقة اللا وعي الفردي ومن ثَم الجمعي الاجتماعي- السياسي. فالعرب لم يعرف تاريخُها الدولة إلا مع العصر الحديث. وأما قبل فلا مكان للدولة في نمط معاشهم ونظام حياتهم. وحين جاء الإسلام فإنه أقام نظرية الدولة على أسس منسوجة من تصور القبيلة المترحل، الذي يقدم أولوية رزقه وبهائمه( الأنعام) على الأرض والموطن، فيخلي أرضه ويهجر دياره متى أجدبت ليبحث عن موطن رزق جديد له ولأنعامه. ولهذا كانت دولته دوماً هي رسوماً يعمرها حيناً، ثم يتركها للبِلى من بعده والخراب. وأما رزقه فهو نعمته ومغنمه( غنم-غنائم/ نعمة- أنعام). حتى الحرب والدفاع فهما لحماية مواطن الرزق( كلأ وماء وأنعام) أو حرب عليها، والذود عن العرض هو ذود عن النساء من السبي وحرب عليها. فالوطن مرتبط بالرزق ومتغير بتغير مصادره، والشرف الرفيع كامن في الذود عن العرض من السبي وفي القدرة على السبي والظفر بمواطن الرزق واغتصابها: ( نَسبي ولا نُسبى). فجاء الإسلام ليكمل نسج مفهوم الدولة ويتمم بنيانها، على أساس التوسع الدائم؛ ما جعل مسألة الحدود هامشية، واستقر عرفها على عدم استقرارها واستحالة ثباتها وغياب تعريفها. وقد أقام العرب في ظل الإسلام إمبراطورية كبرى من دون المرور بمرحلة الدولة، وما يقال عن مرحلة (دولة المدينة) فهي تسمية غير دقيقة، والأصل فيها أنها نواة التكوين الإمبراطوري المتحرك الحدود. أي أن العرب بلغوا مفهوم الإمبراطورية من دون المرور بعهد الدولة وتأسيس مفهومها. فكان فكرهم السياسي – الاجتماعي ينطلق من تهميش قيمة الأرض ويشرع في الإعلاء من قيمة الانسجام والقوة، ولذلك كان هذا الوعي السياسي يعطي الأولوية للقبائل والمجموعات البشرية المنضوية تحت رايته التي تمده بالجنود والقوة، ويقدمها على مفهوم الاستقرار وثبات الحدود. بل جعل الاستقرار في دوام التوسع، وأعطى مفهوم الضرورة لقانون نشر الرسالة وتبليغها؛ فكان دخول المدن والأقاليم يستند على دعامتين: (نظرية التبليغ)، و(جباية الخراج والفيء والغنائم، وتقاسمها بين خزائن الدولة وكسب القبائل- المجموعات المقاتلة وحصتها). فالأرض كانت مورد رزق، والحدود كانت حدود التبليغ، والوطن كان دوماً مواطن التوطين( للقبائل-المجموعات المسلمة). والرسول العربي نفسه(ص) قد ترجم هذا من خلال صلح الحديبية الذي قايض فيه الجماعة بالأرض( المؤمنون مقابل مكة المشركة). ويأتي المعتصم العباسي بعد مئتين وسبع عشرة سنة من ذاك الصلح فيشنّ حرباً ليست لتحرير أرض قد احتُلّت، وإنما لأجل مسلمة أُهينت فاستغاثت، حرباً لأنها مسلمة أوّلاً، ولأنها استغاثت به ثانياً، وليس لأنها مواطنة من رعايا الدولة؛ فهي حرب وغزوة ومغانم وسبايا وحرق وتدمير( وهذا كان عرف حروب ذاك الزمان وتنتهجه كل دوله وإمبراطورياته)، أي هي من محددات الوعي الإمبراطوري ومحفزاته وليست من محددات وعي الدولة ومفاهيمها المرتبطة بها، وهي حرب استغلّها ابن أخيه لينقلب عليه ويضحي به وبجيشه ويتركهم خارج حدود إمبراطوريته تحت رحمة الروم مقابل الحكم والسلطة لو مُكّن له ذلك. وهذا ما قد يفسر اليوم ما يشاع حول الفرضية الأمنية بين الدولتين السورية والإسرائيلية من أخبار وتكهنات عن إمكانية مقايضة الجولان- الدرزي مقابل طرابلس- السنية. وهناك من يتحدث عن عدم إشكالية التخلي عن السويداء-الدرزية- لو أمكن الحصول على مقابلٍ يدخل ضمن ثوابت الوعي الجمعي العربي الراهن- مقابلَ أرض درزية مجدبة أو قليلة الخيرات والموارد؛ فالدولة ترسم حدودَها مواطنُ الانسجام الجماعي- المذهبي المتحولة، وليس الحد الجغرافي الثابت.
ويمكن الزعم أن الوعي الفردي المصري يكاد يكون الاستثناء في تصوره البلاغي وإدراكه المنطقي لمفهوم الدولة، وذلك لأن اللا وعي الجمعي المصري اليوم هو سليل اللا وعي الجمعي الفرعوني القديم، وقد تجلى هذا النسب اللا وعيي في الوعي الجمعي المصري الحاضر، وبان تأثيره وسطوته على وعي الفرد المصري؛ فهو وعي لم ينقطع عن إرثه السياسي- الاجتماعي القديم ولم يفقد تأثره به، على خلاف مناطق أخرى كالعراق وسوريا اللتين شهدتا انقطاعات تاريخية وهزات طائفية وموجات هجرة وتهجير أفقدت الذاكرة قدرتها على التواصل مع الوعي الجمعي القديم، وليصير منتهى الحدود الزمنية لسلفيتها لا يتجاوز الألف سنة، وقد نسي اللاوعي الجمعي المعاصر تصورات السلف السومري والأكادي والأشوري والبابلي والفينيقي عن طبيعة الوجود السياسي- الاجتماعي.
وهذا يفسر لنا جانباً من حالات التضارب والاضطراب عند القوى والأحزاب السياسية العربية بين خطاباتها النظرية وتطبيقاتها السياسية، أي بين النظرية والممارسة أو بين منطلقاتها النظرية وترجمتها الفعلية، وبين كونها معارضة وحالها حين تكون في موقع السلطة، وما ينتج عن ذلك من ازدواجية في المعايير ومتاجرة بالقيم النظرية؛ فهي تستند في نظرياتها على القيم السياسية والاجتماعية المعاصرة التي تُؤطَّر بها المفاهيم الدستورية الناظمة للدول، لكنها تكاد تتخلى عن ذلك كله حين تمارس السلطة. وحتى التيارات السياسية الدينية تجدها تنوّه بالثوابت الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وتتخذ منها وسيلة دعائية للتجييش ضد السلطة، ثم تتناسى هذا كله حين تدخل معترك التدافع السياسي على الحكم، وتضحي بها جملة وتفصيلاً في سبيل تمكينها من السلطة. ولهذا نجد قضايا مثل الصراع العربي مع إسرائيل- على سبيل المثال لا الحصر- يصير مادة قابلة للدعاية والتفاوض في المعترك السياسي وتجاذباته الدولية، ولا مشكلة مع تنحيته تحت فتوى التسويف والتمكين، أي لحين تتهيأ الظروف والأسباب بيدها، فيمكن لها من إعادة تفعيلها. وهذه ذهنية سياسية مترجمة يمكن أن نقيس مقارباتها ونمدها على غيرها من القضايا الأخرى؛ إذ يصير مفهوم الحكم هو الثابت الوحيد في الحياة السياسة وعمود خيمتها، بين المفاهيم الأخرى ليست أكثر من أوتاد قابلة للتساهل والتقديم والتأخير بحسب دورها من تثبيت عمود الخيمة الرئيس. فتمسي كلُّ مفاهيم الحياة السياسية والعقد الاجتماعي التي تؤطر مفهوم الدولة وقيمها وثوابتها وسائلَ تفاوض على الحكم والسلطة. فلا ثوابت غير هذا العمود، ولا محرمات سواه. ومن هنا يمكن أن نفهم ما انتهت إليه الثورة السورية بعد أكثر من أربع عشرة سنة طلباً للتغيير الديموقراطي الذي ينهي عهد الاستبداد، فيتوَّج نصرُها بشعار: " مَن يحرر يقرر"، ولتمسي تضحيات الشعب نسياً منسياً خلف باب الأمس، ولتصبح شعاراتها في الحرية والشرعية الشعبية قرباناً وأضحيةَ عيدِ العهد الجديد، الذي كبّر وسمّى واستهل حِلِّه من إحرامه بنحر رقبة تلك الشعارات وسفك دمها صبيحةَ عيدها. ثم شاع بين أوساط مؤيدي هذا العهد مقولة: " أخذناها بخشوم البواريد؛ فمن أرادها عليه أن يُشهِر بندقيته ويجرّب". وكأنها دستور جديد وبديل من شعارات الأمس الثوري التي ضُحي بها، أو كأنها عجل السامري المذّهب الذي اشترته الثورة بأضحية صبيحة عيدها، التي أكلتها جموع الحشود المحتفلة بالعيد والمحتفية بالعهد.
إنها ذهنية سياسية يمكن أن تتحلّل من كل ثوابتها الأخلاقية والدينية والإنسانية في سبيل الثابت الوحيد الذي يعقله وعيها السياسي: مجد الحكم وشهوة السلطة. ولأنها ذهنية واحدة في عجزها عن الإدراك السياسي لمفهوم الدولة وارتباطاته القِيَميّة الأخلاقية والجمالية والدينية، فهي دوماً تعيد التصور ذاته والسلوك عينه حياله؛ فالمعارضة السورية للنظام السابق كانت تشنّع عليه استباحة إسرائيل لأرضه، ليجابه هذا التشنيع بصمت تام وتغافل محكم من مؤيدي ذاك النظام. واليوم استعارت معارضة الأمس، بعد أن أصبحت مؤيدة، صمتَ مؤيدي الأمس وتغافلهم عن الاستباحة التي ما تزال مستمرة، استعارته لتصمت بدورها عن التقارب مع الكيان، عن إشاعات مقايضة الجولان، لا بطرابلس بل بقبول النظام الجديد وعدم زعزعة أمنه، عن قتل الأبرياء المدنيين على الهوية، عن مظاهر التأسيس لاستبداد جديد لا يختلف عن استبداد سابقه الذي اتخذوه شرعية قيام ثورتهم، عن حالات الخطف التي كانوا يستنكرونها أيام النظام السابق، عن التمييز الطائفي الذي صار عرف دولة وظاهرة اجتماعية وإعلامية وثقافية طاغية، عن الفساد الإداري وتقديم الولاء على الخبرة، عن إبعاد الثوريين وتقريب فاسدي الأمس ضمانة للولاء وعدم الاعتراض- وهي السياسة نفسها التي اتخذتها أمريكا إذ نحّت كل أطياف المعارضة واختارت الأكثر مديونية لها لأن فيه ضمان انصياعه لها- عن إشاعات العمالة، عن وعن وعن... إنه صمت مطبق عن كل ما يمكن أن يكون موبقاً أو حراماً أو عيباً أو خيانة؛ لا شيء معيب، ولا شيء موبق، ولا شيء محرم، ولا ضير في خيانة... المهم هو الحكم والسلطة ومجد التمكن من رقاب الناس وخيارات البلد. وهذا حال مؤيدي الأمس فهو لا يختلف كثيراً. أولئك المؤيدون الذين استعاروا بدورهم صوت المعارضة الأمس؛ فهي تبادل أصوات ومقايضة مواقف، مواقف يحددها المكان من السلطة وليس المكان من مفهوم الدولة وثوابته. صمت وقبول ورضى وتسويق وتسويغ من دون خجل أو تأنيب ضمير، ولو واجهت أي منهم بما يترتب على موقفه من هتك للمحرمات والأخلاق والثوابت، فلن تجد له أذناً صاغية، لأن وعيه للمفاهيم مختلف، فلا تحرّج ولا ورع، بل يراها معيقات تحول بينه وبين وعي المصلحة والمنفعة التي لا تعي إلا الفردية المتحصنة بوعي الجماعة المصلحية. فهو وعي لا ينتج ندماً أو استحياء بل تسارعاً وتصارعاً من أجل شهوة الكسب التي تنظر بعين الريبة والاستغفال والغباء لكل تلك المفاهيم والقيم والثوابت الوهمية. أنه وعي الدولة الملتبس بوعي الغنيمة والنعمة والإغارة والسبي. وعي فردي يفضي إلى وعي جمعي سياسي، تمسي ضوابطُه وسائلَ تحلّل، ويبيت وقد استقر في وجدانه أن فكرة الله وسيلة لا غاية؛ حينها نكون أمام وعي أخلاقي لا يرى حراماً في الحرام. وهو ما يؤسس لخطر تمكين هذا التصور في اللاوعي الجمعي الذي يحتاج إلى مئات السنين لعلاجه. وحين يمسي وعي الفرد تقف حدوده حيث تقف مصلحته، هذا يعني أنه بات وعياً حيوانياً محرّراً من الأخلاق، فيكون وعياً فردياً، يفضي إلى وعي جمعي لا محالة سيصبح على كارثة تفسّخ المجتمع وانتظار رحمة الأجل التي تنهي معاناته وتحكم بزواله.

■ نهاية الدولة بين الهاوية والعرب:
تمر سوريا اليوم بأصعب مراحل تاريخها المعاصر وأخطرها. وليس هناك من وعي جمعي فاعل قادر على حمايتها والحفاظ عليها. ولذلك لا بد من يد العون العربية القادرة على انتشال الدولة من براثن الزوال؛ فلا منقذ اليوم ولا منجاة غير اليد العربية الكفيلة ببث الحياة في جسد هذا المفهوم المجرد من معناه والعاجز عن تحققه وانبثاقه. لقد كانت سوريا: قطب بلاد الشام، وقلب العروبة النابض، ومرتكز الحركة التقدمية للمنطقة، ومنبع رجالات الثقافة والمعاصرة، تلك الرجالات التي أغنت الثقافة العربية وخدمتها حين عجزت عن تحقيق ذاتها في بلدها وداخل حرم جامعاتها المنهوبة من سطوة الوعي الوهمي المزيف. واليوم يقع على عاتق العرب الحفاظ على هذا المنبع، لأن في ضياعه وجفافه تمهيداً لضياع استقرار المنطقة وجفاف أحد أهم مواردها. اليوم أمام عجز الدولة المصرية عن القيام بهذه المهمة وضعف العراق وبُعد الجزائر عن التأثير، وفي ظل توجه بعض السياسات العربية المرعب نحو دسترة الأصولية وتحويلها إلى دساتير تُحكم بها الدول وتأسس على أساسها نظمها، والسعي من قِبلها إلى نشرها وتعميمها على ما استطاعت إليه سبلها من الدول والأنظمة والجماعات قدر استطاعتها وتمكن نفوذها المالي والدعائي والسياسي من الامتداد والنفوذ والصناعة- وسوريا من تلك الدول المستهدفة- بعد ذلك كله وأمام هذا الواقع العربي المنهك ليس هناك من يد قادرة على المد والمساعدة وعليها تقع مسؤولية الإنقاذ والنجاة غير المملكة العربية السعودية، فهي اليوم المؤهل العربي الوحيد لهذه المسؤولية. فلا منقذ غير اليد العربية التي يمكن أن تحمي الدولة السورية من دون أطماع ومصالح. وفي ظل ما يتهددها من عجز جمعي داخلي وأيادٍ إقليمية تتسابق على نهشها وافتراسها، لا بد من مسارعة اليد السعودية وإنقاذها. ولكن على أصحاب القرار السعودي أن يعيدوا التفكير في توجهاتهم نحو هذا البلد، ويعيدوا تصحيح استراتيجيتهم في دعم سوريا والأطراف التي عولوا عليها في حماية بنية الدولة وإعادة بنائها وتكوينها. يجب على المملكة أن تسارع إلى البحث عن الوعي السوري القادر على استيعاب مفهوم الدولة وتحقيق وجودها وحمايتها من التمزق والاندثار، وتحاشي الوعي المزيف الذي يسير بها نحو نهايتها وتمزيقها وموتها.
تذييل: للفيلسوف الألماني هيغل كتاب شهير – بل أشهر كتبه- ترجم إلى العربية تحت عنوان (ظاهريات الروح): أي تجسد المفاهيم في الوعي البشري، وكيفية إدراكها العقلي أو الروحي. ثم صار (علم الظواهر) أحد أهم حقول الفلسفة المثالية الميتافيزيقية ومن أشهر حقول العلوم الإنسانية ومناهجها في التفسير والتأويل. وهو ما صار اليوم تحت مصطلح (الفينومينولوجيا/ phenomenology).



#هيثم_علي_الصديان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظاهريات الدولة السورية- رحلة المفهوم من الوعي إلى البندقية


المزيد.....




- تصريح جديد لترامب حيال جدل ترشحه لولاية رئاسية ثالثة.. ماذا ...
- فيديو إسرائيلي مزعوم يُظهر حماس وهي -تُفبرك- عملية العثور عل ...
- مباشر: مقتل 50 فلسطينيا على الأقل بينهم 22 طفلا في غارات إس ...
- ترامب: التعديل الدستوري لا يسمح لي الترشح لولاية رئاسية ثالث ...
- باكستان تعلن فشل محادثات السلام مع أفغانستان
- 63 شهيدا بينهم 24 طفلا في قصف إسرائيلي على منازل وخيام بغزة ...
- عبد الله حمود.. أول عمدة مسلم لمدينة ديربورن بولاية ميشيغان ...
- طوفان أرهورمان الرئيس السادس لقبرص التركية
- كاثرين كونولي.. رئيسة أيرلندا المدافعة عن فلسطين
- 63 قتيلا منذ استئناف الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هيثم علي الصديان - ظاهريات الدولة السورية- رحلة المفهوم من الوعي إلى البندقية