سعيد الريشة
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 15:41
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المسألة الاجتماعية هي في صلب هوية اليسار ، ومنها اشتُق اسم الاشتراكيين (هي حرفيا الاجتماعيين)، ومن ثمة يمثل النضال الاجتماعي (العمالي والشعبي) أرضية اليسار بامتياز. فالقضايا الاجتماعية لن تجد لها حلا داخل المجتمع الرأسمالي، إنما تستدعي قطائعا جذرية مع هذا المجتمع. رغم ذلك لا نجد لليسار المغربي الدور الفاعل والوزن المؤثر المفترضَين في النضالات العمالية والشعبية.
نظمَّ شباب جيل- زد نقاشات سياسية على منصة ديسكورد، ولم يجرِ استقبال أي وجهٍ يساري جذري إلى تلك النقاشات. بينما حضرتها وجوه ليبرالية (غير ديمقراطية جذرية) وحتى إسلامية. يمكن تصنيف أغلب الذين أطروا هذه النقاشات ضمن المعارضة الليبرالية(ناقصة النزعة الديمقراطية)، أي خبراء اقتصاديون وصحفيون يجعلون من اقتصاد الريع والاحتكار والفساد موضوعا حصريا لانتقاداتهم، ويطالبون برأسمالية نقية قائمة على التنافس “الشريف”، كمدخل للتخلص من التخلف الاقتصادي وما ينتج عنه من مآسٍ اجتماعية.
لماذا لم يستدعِ شباب جيل- زد اليسار الجذري إلى تلك النقاشات؟ الجواب بسيط وأقرب إلى كل بداهة: لأن اليسار الجذري القائم حاليا في المغرب لا يوحي بالثقة لأولئك الشباب. ليس اليسار الجذري، حاليا، قوة سياسية يعتبرها الشعب جهة تستحق التوجه إليها بحثا عن أجوبة للمعضلات التاريخية التي يواجهها المجتمع والاقتصاد، لذلك لا يلآمُ الشباب إذا توجهوا إلى قوى سياسية أخرى يرونها جديرة بذلك. وفي هذا السياق يكون هناك ميل داخل اليسار الجذري لخفض رايته، أو حتى إخفائها، مخافةً من ذلك النفور، والاكتفاء بقول إن ما يفعله الشباب هو ما يجب أن يكون، وفي هذا تخلٍّ عن كل هوية سياسية تميِّز اليسار الجذري، والتحاق ذيلي بالعَفوية، بدل بسط المنظورات السياسية أمامها، وفي التحديد الأخير: تحولٌ لليسار إلى مؤخرة بدل أن يكون طليعة، وترك الساحة فارغة لمشاريع سياسية غير عمالية؛ ليبرالية ورجعية دينية.
لا يسار دون حركة نقابية قوية ومستقلة
كل الاحتجاجات السابقة، وليس فقط الأخيرة التي خاضها الشباب تحت لواء جيل- زد، كان فيها دور اليسار الجذري، كقوة ذات برنامج وشعارات نضال وخطة ذات أفق، ضعيفا جدا، إن لم يكن منعدما. وكان اسهام مناضلي ومناضلات قواعد هذا اليسار ناجما عن انخراطهم المحلي، لا عن توجيه حزبي وطني.
لا يمكن الحديث عن اليسار ودوره دون ربطه بالحركة العمالية المنظَّمة، أي النقابات في حالة المغرب. هذه الأخيرة هي تحت هيمنة قوى سياسية غير عمالية. كل النقابات في المغرب تهيمن عليها بيروقراطيات عبارة عن أذرع نقابية لأحزاب غير عمالية، أو بيروقراطية موالية مباشرة للملك (الاتحاد المغربي للشغل). لذلك حتى إن كان منظور اليسار المغربي سليما وخطه السياسي صلبا، فإن ما يجعله قوة مادية منعدمٌ حاليا بالمغرب؛ أي النقابات العمالية المستقلة.
تعرَّض العمل النقابي لمحاربة شديدة طيلة عقود، وقد تُوِجت هذه المحاربة بإصدار القانون المكبل لحق الإضراب، الذي، ويا للمفارقة، دخل حيز التنفيذ عمليا ثلاثة قبل انطلاق نضالات جيل- زد… وكان هذا هزيمة تاريخية بدون معركة للحركة النقابية ولليسار الجذري، ما حال دون إسناد حراك شباب جيل- زد من طرف الحركة النقابية.
لا تنظر الطبقة العاملة، خصوصا أجيالها الشابة، إلى النقابة، نظرة استحسان. إذ أدى القمع متضافرا مع سياسات البيروقراطيات النقابية القائمة على مواكبة هجومات الدولة تحت اسم “الشراكة الاجتماعية”، إلى إفقاد النقابة الاعتبار في أعين الشغيلة، ما دفع هؤلاء الأخيرين إلى البحث عن بدائل تنظيمية للتعبير عن غضبهم: تنسيقيات فئوية في القطاع العمومي، وهو ما يجعل المقاومة العمالية مشتتة ومتشظية بلا برنامج نضالي موحِّد، وبدون أفق سياسي.
لن يكون لليسار دور فعلي، أي في التحديد الأخير دور قيادي، دون حركة عمالية منظَّمة ومستقلة سياسيا عن الدولة وأحزاب البرجوازية. غياب هذه الحركة يجعل حركات النضال الشعبي والعمالي، وضمنها حراك جيل- زد، فريسة قيادات سياسية تعبِّر عن مشاريع سياسية غير عمالية، أي مشاريع سياسية برجوازية، وضمنها تلك المُركزة على محاربة الفساد والاحتكار والريع. فزوال الاحتكار والريع سيجعل قسما من فرص الاغتناء الاقتصادي الكبرى، التي تستأثر بها المَلكية والرأسمال الكبير الملتف حولها حاليا، في متناول أقسام أخرى من الرأسماليين المستائين من ذاك الاحتكار، ولكن على حساب الطبقة العاملة، التي ستظل عرضة للاستغلال، سواء من قبل الرأسمال الاحتكاري، أو الرأسمال الداعي إلى المنافسة الحرة. إن تلك المشاريع السياسية البرجوازية المعارضة بقيادتها للنضالات الشعبية والعمالية، إنما تستثمر سياسيا هذه النضالات لصالح طبقة أخرى، أو بالأحرى أقسام من نفس الطبقة البرجوازية، على حساب الطبقة العاملة وعامة الشعب المقهور.
يسار وحركة نقابية لا تُغذيهما موجات التجذر الاجتماعي
عكس سبعينيات القرن العشرين، حيث تدفقت موجات الشباب الذي تجذر سياسيا ملتفا حول راية الماركسية اللينينية متسفيدة من سياق عالمي ملائم، نرى العكس منذ العقد الأخير من القرن العشرين. لم تؤدِّ جمعية المعطلين- ات إلى تغذية اليسار والحركة النقابية بأطر وقاعدة جماهيرية. نفس الشيء لاحظناه مع حركة العشرين من فبراير سنة 2011، والحرَاكات الشعبية (خصوصا حراكي الريف وجرادة 2016- 2018)، بل جرت محاربة هذا اليسار واستبعاده، في حالة خاصة هي حالة حرَاك الريف.
حتى في النضالات العمالية، مثل نضالات الأجيال الجديدة من شغيلة التعليم (أساتذة- ات التعاقد المفروض)، لم تُغذِّ اليسار، بل أضعفته، حيث لم يجتذبها الخط النقابي الذي اتبعته نقابة الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي، حيث قيادة منتسبة إلى اليسار الجذري.
في هذه النضالات الفئوية (التي تجري خارج النقابات) تظهر طلائع وطاقات شابة كفاحية، لكن دون أن تتجذر سياسيا، وما أن تنتهي تلك النضالات الفئوية، حتى يكف قسم مهم من تلك الطلائع عن النضال، ويتبنى المتلحق منها بالنقابات نفس السلوكيات البيروقراطية، التي كانت تلك الطلائع تنتقدها عندما كانت في صفوف التنسيقيات الفئوية.
يُعزى هذا إلى ضعف اليسار وعجزه عن أن يتشكَّل كقوة سياسية ذات مصداقية وجذابة للشباب. وهذا بدوره يُعزى إلى تشتت هذا اليسار وعصبويته الذين يمنعان تطوره بالفعل الموحد.
لا دور فعلي لليسار دون وحدة فعله
ما يفاقم الأمر هو التجزؤ الشديد والعصبوية الفائقة داخل اليسار المغربي. ليس هناك أدنى تعاون رفاقي بين مكونات اليسار المغربي، بل رفض لذلك التعاون رغم تواتر فرصه وتنوعها. وعادة ما يجري تبرير تلك العصبوية استنادا إلى خلافات تاريخية سحيقة. والأمَّر أن واقع النضال الاجتماعي بالمغرب لا يطرح بعدُ على جدول الأعمال موضوع تلك الخلافات. لسنا إزاء ثورة نختلف حول مصائرها وطبيعتها، فهذا قد يأتي في لاحق الزمن. نحن إزاء نضال شعبي وعمالي وتجذر اجتماعي لا يوازيه تجذُّر سياسي، بل رفض كلي للتسيس.
إن إسقاط الخلافات الأيديولوجية على حركة لا تزال في طور ابتدائي من شأنه أن يدمِّرها، وهذا ما جرى مرارا، إذ أدت الخلافات الأيديولوجية بين أطراف اليسار إلى تخريب تعبئات اجتماعية وديناميات نضالية جبارة؛ ضمنها نضالات جمعية المعطلين- ات وتنسيقيات مناهضة ارتفاع الأسعار ونضالات أساتذة التعاقد المفروض.
المهمة الأولوية لليسار حاليا هو إيقاظ الطبقة العاملة وعامة المقهورين ات سياسيا، وهذا يستدعي البحثَ عن عناصر التوحيد وأرضيات التلاقي، وليس التركيز فقط على نقاط الاختلاف والخلاف. فهذه سيأتي وقتها عندما تنضج الحركة العمالية والشعبية، وتَطرح على اليسار أسئلة ليست واردة حاليا، أما الإصرار عليها فسيعني العمليةَ معكوسة: أن يطرح اليسار على الحركة التي لا تزال في طور ابتدائي سياسيا أسئلة ليست بعدُ مستعدة لها. لا يعني هذا طبعا عدم نقاش تلك المسائل، لكن ليس كبرنامج عمل آني، بل في حقل الدعاوة، على أن لا يمنع ذلك النقاشُ والسجالُ وحدةَ اليسار على أرضية النضال العمالي والشعبي.
ينفر الشباب من اللغة المشحونة أيديولوجيا، لذلك نراه لا يلتفت نحو اليسار، بل ينفر منه. وإذا توجهنا إلى الشباب حاملين خلافاتنا الأيديولوجية والسياسية فإنما نحكم على أنفسنا كيسار بالموت، وعلى أولئك الشباب بالبحث عن جهة سياسية أخرى لرفع مظالمها إليها؛ إن لم تكن المعارضات السياسية البرجوازية، فإلى المَلكية ذاتها كما حدث مع حراك جيل- زد.
أطياف اليسار
في المغرب يساران. يسار إصلاحي يمثله الحزب الاشتراكي الموحَّد وفيدرالية اليسار الديمقراطي، ويضم مناضلين جذريين غير مقتنعين باليسار الجذري كما هو، أو يفضلون العمل في حزب أكبر من قوى اليسار الجذري. هذا اليسار هو تنويع للمعارضة الاتحادية كما صاغها برنامجيا عبد الرحيم بوعبيد في أواسط سبعينيات القرن العشرين، تحت شعار “النضال الديمقراطي”، أي استعمال المؤسسات القائمة من أجل الحصول على هامش سلطة تتنازل عنه المَلكية، واقتصاديا يدافع عن رأسمالية التنافس الشريف ودولة الحق والقانون، أي دولة تضمن لكل أقسام الرأسماليين نصيبهم من فرص الاغتناء الاقتصادي الكبيرة. يهيمن هذا اليسار على قسم من الحركة العمالية المنظَّمة؛ الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ويستعملها سياسيا لصالح مشروعه السياسي غير العمالي. لكن يجب الانتباه إلى أن هناك تناقضا بيِّنا بين قيادة هذا اليسار وجزء من قاعدته، خصوصا الشابة، الأكثر كفاحية وجذرية، والتي تتواجد دوما في النضالات الشعبية والمقاومات العمالية، ناهضة بدور وازن فيها. بدون هذا التمييز ستبقىى تلك القاعدة فريسة الخط السياسي لقيادة اليسار الإصلاحي: التعبير عن التضامن عن بعد مع النضالات الاجتماعية، ومناشدة الحاكمين لإصلاح الوضع وانتظار المواعيد الانتخابية، ويقطع الطريق أمام تجذرها سياسيا.
وهناك ما يُمكن نعثه باليسار الجذري، أي الذي يذهب في نزعته الديمقراطية إلى نهايتها، ويُعلن نظريا موقفا جذريا من الرأسمالية، ومن ثمة انتسابه إلى مشروع مناهضتها. هذا اليسار أضعف بكثير مقارنة باليسار الإصلاحي، وتأثيره السياسي وإشعاعه الجماهير أقل بما لا يقاس بما لدى اليسار الإصلاحي. ويعزى جزء من أسباب هذا الضعف، إلى تشظي هذا اليسار وعصبويته وضعف انغراسه في الحركة العمالية المنظَّمة.
سيكون من شأن التقاء نضالي وسياسي بين القاعدة الكفاحية الموجودة في أحزاب اليسار الإصلاحي واليسار الجذري، بناء قوة سياسية ستشكل راية تجمع حولها قسما من الشباب الذي يتجذر في أتون النضالات الشعبية والمقاومات العمالية اليومية. وهذا سيغذي اليسار، ليس فقط عدديا بطاقات شابة، بل سيحمل إليه أوكسجين النضال، إذ سيطرح داخله القضايا اليومية كما يعيشها الشعب.
كما بالإمكان تلاقٍ نضالي بين اليسار الإصلاحي واليسار الجذري في نطاق واسع من قضايا النضال. فاليسار الإصلاحي يطرح دوما المسألة الاجتماعية، وإن بمنظوره الخاص: “الدولة الاجتماعية”. بالإمكان تلاقٍ بين هذين اليسارين حول النضال من أجل الديمقراطية وحرية التعبير وحق التنظيم والدفاع عن حق الإضراب العمالي…. إلخ.
طبعا ليست المهمة سهلة، فالصعاب القائمة كبيرة، لكن تذليلها في متناوَل اليد، لو تخلى اليسار عن عصبويته وانفتح على بعضه البعض، وفي نفس الوقت، توجَّه إلى الشعب والشباب، محتلا مكانه الطبيعي: مقدمة النضال فعلا وليس ادعاءً…
كل تخلف عن الجدية في توحيد فعل اليسار المناضل إنما سيترك المجال فسيحا لقوى المشاريع الرجعية المتخذة الدين وسيلة للهيمنة على الجماهير المقهورة والسير بها نحو ترسيخ علاقات الاستغلال والاضطهاد الرأسمالية، في ظل استبداد مقنع بآليات انتخابية، كما حال النموذج الأول لهكذا “بديل” المتمثل في جمهورية إيران الإسلامية.
التجربة التاريخية لقوى اليسار المغربي، وما يتدفق من طاقات كفاحية متنوعة بالساحتين العمالية والشعبية، يؤهلان هذا اليسار للسير قدما على طريق توحيد فعله ومن ثمة مقدرته إلى مزيد من الانغراس الجماهيري الذي سيساعد بدوه في تطوير الرؤية الاستراتيجية. والرهان هنا قائم في مقام أول على مناضلي قاعدة اليسار ومناضلاته.
#سعيد_الريشة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟