بولا ماجد منير
الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 10:05
المحور:
حقوق الانسان
لم أكن قارئًا عظيمًا لكافكا، ولم أتعمّق كثيرًا في سيرته أو في نصوصه، لكن شيئًا في كتاباته كان دائمًا يشبهني، أو يشبه تلك المساحة الرمادية التي أعيش فيها بين التعب والرجاء. كنت أعرفه من بعيد، كاسمٍ يردّده المثقفون وهم يتحدثون عن البيروقراطية والعبث والشر التافه، عن الإنسان الذي سحقته الماكينة الحديثة حتى لم يبقَ منه سوى ظلٍّ خائفٍ لا يعرف لماذا يُعاقَب. لم أكن أدري أنني سأجد نفسي ذات يوم أحد أبطال كافكا، دون أن أقرأ كل كتبه، ودون أن أدخل إلى عالمه بإرادتي. بل هو الذي دخل إلى عالمي، وجلس معي على المكتب، وأمسك بقلمي، ونظر في وجهي وقال لي بصوتٍ هادئ: “أنت الآن تحت الآلة.”
الآلة التي كتب عنها كافكا في قصته في رواية "المستعمرة العقابية" (In the Penal Colony)
القصة فيها آلة — آلة غريبة متقنة الصنع، فيها إبرة تكتب على ظهر المذنب حكمًا يُنفَّذ حرفيًا: الكتابة هي التعذيب، والآلة تسجّل السطر من الداخل إلى الخارج حتى يموت المُدان تحت نصه المكتوب. صاحب الآلة — الضابط — مهووس بكفاءتها، لا بشفقة أو عدل. الضابط يصف الآلة كأنها تحفة فنية: "أنا معجب بسنّ الإبرة. إنها تعمل بلا خطأ." الضحية — رجل بسيط لا يعرف لماذا حُكم عليه؛ السائر أو الزائر الخارجي (المسافر) هو صاحب النظر المنطقي الذي يعاين المشهد بصدمة ويشك في شرعية الممارسة. ، تلك التي كانت تحفر على جسد المذنب عقابه حتى الموت، لم تكن بالنسبة إليّ مجرد خيال أدبي. كنت أراها كل صباح في المرآة، حين أجلس أمام كومة الكتب والملازم، في ذلك الركن الضيق من الغرفة حيث يموت الضوء ببطء. كانت الآلة تأخذ أشكالًا كثيرة: ورقة الامتحان، الجدول الدراسي، صوت المدرس الذي لا يرى فيك سوى رقماً، صوت الأم التي تذكّرك بمستقبلك، نظرة الأب التي تزنك بالمجموع لا بالقلب، وحتى صوتك الداخلي الذي يجلدك إن توقفت لحظة واحدة عن العمل. كل هؤلاء معًا صاروا إبرةً طويلة، دقيقة، باردة، تنقش على جلدي دروسي وأخطائي وخوفي وذنبي. كنت أشعر أنها تكتبني، لا أنني أكتبها.
كنت أجلس بالساعات الطوال، أضغط على نفسي لأبدو مجتهدًا، لأبدو أهلًا لهذه الحرب الصامتة التي يسمّونها “الثانوية العامة”. في البداية كنت أحسب أنني أتعلم، ثم أدركت بعد وقتٍ أنني فقط أتحمل. جسدي بدأ يتشكل وفق إرادة الآلة: ظهري انحنى، عيوني فقدت بريقها، يداي صارتا ترتجفان من طول الإمساك بالقلم، رأسي يمتلئ بضجيجٍ لا يعرف الصمت. الألم صار رفيقًا يوميًا، كأن بيني وبينه عهدًا قديمًا. كان يبدأ من منتصف الظهر ويمتد حتى الرأس، كأنه خطّ طويل من الحبر المسموم تكتبه الآلة على عمودي الفقري. كل فقرة كانت كلمة جديدة من كلمات العقاب.
ومع مرور الأيام، بدأت أفقد أشياء كثيرة دون أن ألحظ. هجرت الكتابة، التي كانت يومًا متنفّسي الوحيد. هجرت الشعر، الذي كان يربطني بالحياة حين كانت تضيق. هجرت القراءة لأنها لم تعد تهمّ أحدًا، ولأنها لا تدرّ درجات. هجرت الفلسفة لأنها تثير أسئلة لا إجابات لها، والآلة لا تحب الأسئلة. هجرت أصدقائي، ضحكي، هواياتي الصغيرة، تلك المتع التي كانت تمنحني معنًى في عالمٍ بلا معنى. صرت أعيش كمن دخل في ممرٍّ ضيّق لا يرى له نهاية، وكلما تقدّمت شعرت أنّ الجدران تقترب أكثر.
كنت أقول لنفسي: لقد تركتُ ذاتي على الباب، كما يترك السجين ثيابه عند دخوله الزنزانة. كل ما يدخل معي هو جسدي، لأن الروح لم يُسمح لها بالعبور.
كنت أسمع دائمًا من حولي أصواتًا تمجّد “كفاءة الآلة”. الأهل يفتخرون بأن أبناءهم لا ينامون، بأنهم يدرسون حتى الإعياء، بأنهم صاروا أشبه بجنودٍ في معركةٍ مقدسة ضد الفشل. والمدرسون يكرّرون أن الألم جزءٌ من الطريق، وأن “التعب في الثانوية راحة في الجامعة”. حتى أنا، كنت أصفّق لنفسي أحيانًا عندما أنجح في كبت خوفي، أو عندما أواصل الدراسة رغم الوجع. لم أكن أدرك أنني أصفّق لجلادي. كنت أتعذب وأشكرهم لأنهم سمحوا لي أن أتألم بكفاءة.
ثم بدأت أرى المشهد كما لو كنت أقرأ رواية لكافكا: كل شخص يؤدي دوره في صمت. المدرس الذي يشرح دون شغفٍ كأنه يؤدّي طقسًا يوميًا، الأم التي تنتظر النتيجة كمن ينتظر الحكم، الأب الذي يحدّق في ورقة الدرجات كأنها مرآة الشرف، الطالب الذي يكتب بلا معنى، والمسؤول الذي يراقب من بعيد ويقول إنّ النظام ناجح لأنّ الآلة تعمل. لكن لا أحد يسأل: ماذا عن الذي تحت الإبرة؟ ماذا بقي منه بعد أن انتهت مهمتها؟ لا يهم حالة المذنب طالما الآلة لازالت تعمل بكفاءة؟ لا يهم خرج سليم أم مريض أم ميت حتى؟ أني لميت وأنهم لميتون.
كنت أحيانًا أضحك، لا لأن الموقف مضحك، بل لأن العجز نفسه مضحك. كنت أضحك من شدّة القهر، كما يضحك كافكا من عبث الواقع في كتاباته. كنت أرى زملائي حولي مثل شخصياته: وجوهٌ خائفة، أجسادٌ نحيلة، عيونٌ مطفأة، يركضون في ممراتٍ ضيقة لا يعرفون نهايتها، وكلّ واحدٍ منهم يظنّ أنه مذنب لكنه لا يعرف الجريمة. “أنا محكوم عليّ، لكني لا أدري لماذا”، كنت أقولها بيني وبين نفسي كثيرًا، كما لو أنني بطل رواية *المحاكمة*، أحاكم على ذنبٍ لم أرتكبه، ولا أملك حتى أن أسأل القاضي من أنا.
الآلة لم تكتفِ بجسدي لم تكتف بألام الظهر والمفاصل بسبب الجلوس المستمر على المكتب المؤلم والنظر الذي يقل بسبب القراءة والمحاضرات المستمرة لتصل في النهاية لسير هم واضعينه لك يقولون عليه بفخر إنه آخر ما توصلت إليه الآلة من كفاءة أنها الكليات القمة في التعذيب، بل بدأت تلتهم روحي أيضًا. كل يوم كانت تأخذ قطعة صغيرة مني. يومٌ تأخذ ضحكتي، ويومٌ تأخذ دهشتي، ويومٌ تأخذ قدرتي على الحلم. وفي كل مرة كنت أقول: لا بأس، هذا ثمن المستقبل. لكن ما هو هذا المستقبل؟ ولماذا عليه أن يأتي على حسابي؟ كأن الحياة نفسها مؤجلة إلى إشعارٍ آخر، إلى يومٍ تأتي فيه النتيجة، أو القبول الجامعي، أو الوظيفة. كأن كل شيء حقيقي في حياتي يجب أن ينتظر نهاية هذا الامتحان الأبدي.
كنت أرى نفسي أحيانًا في صورة كافكا نفسه، حين كان يخاف من أبيه ولا يقدر على الصراخ. أنا أيضًا كنت عاجزًا عن الصراخ، ليس لأن الصوت خنقني، بل لأن لا أحد سيسمع. الصراخ في نظامٍ كهذا جريمة. الاعتراض يعني أنك متمرّد، والتساؤل ضعف، والإنسانية رفاهية. فصرتُ مثل “المسخ” في روايته الأخرى، أستيقظ كل يوم على شكلٍ جديدٍ من الانسلاخ، أتحوّل ببطءٍ إلى شيءٍ آخر، مخلوقٍ يعيش ليؤدي وظيفةً محددة، لا ليشعر أو يختار. وكل همه ماذا أقول لمديري أو لأهلي إذ خذلتهم بدرجاتي أو لم أحقق مشتهاهم وأنا في الأصل متحول لحشرة فيتحول تعاطفهم تدريجيًا إلى نبذ ورفض والتخلص مني تخلص من عار.
وها أنا أكتب الآن، لا لأنني أملك الأمل في أن يتغير شيء، بل لأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي أستطيع أن أتنفس بها. أعلم أن كلماتي لن تغيّر العالم، وأنها ستضيع مثل صرخةٍ في صحراء بلهاء، صحراء لا تعرف سوى الصمت. لكن ربما هي محاولتي الأخيرة لأثبت لنفسي أنني ما زلت إنسانًا، أن فيّ بقايا روحٍ لم تلتهمها الآلة بعد.
كل ما حولي صار بيروقراطيًا حتى في الألم. هناك استمارة للحزن، وتعليمات للبكاء، وحدودٌ للصراخ. النظام يحدّد متى تتعب ومتى تفرح ومتى تنام. وحتى حين يراك تنهار، يكتب في تقاريره: “يعمل بكفاءة عالية”.
وأنا، الذي كنت يومًا أكتب الشعر وأتأمل الغيوم وأتعلم الفلسفة وأتحدث وأناضل عن الحقوق والواجبات وأقرأ الابحاث العلمية وافسرها للناس وأكون الصداقات واشجع العالم واصور محتوى وأقدم خدمات وتعليمية مقابل المال ، صرت رقمًا في جدول، وحالة في تقرير. وحين أنظر الآن إلى ظهري المتقوّس، أحسّ أن الإبرة لم تخرج بعد، وأنها ما تزال هناك، تكتب عليّ بهدوءٍ جملة طويلة لا تنتهي: “هذا هو النظام، وهذه هي الكفاءة.”
لكن رغم كل ذلك، في مكانٍ بعيدٍ من داخلي، هناك صوت صغير لا يريد أن يصمت، صوتٌ عنيدٌ يقول: إن الإنسان خُلق ليشعر، لا ليُدار. إن الآلة مهما كانت دقيقة، لن تعرف أبدًا كيف تحب، أو كيف تحلم، أو كيف تكتب عن وجعها. لا اريد التغير ولكن على الأقل لا أريد أن أًلام على ما كتبت.
ربما لهذا السبب أكتب الآن. لأن الكتابة هي الصرخة الوحيدة التي لم تستطع الآلة أن تبرمجها."
بولا ماجد منير توفيق
#بولا_ماجد_منير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟