|
عندما تكون اللغة هي الحاضنة/ جواد العقّاد يكتب موته واقفًا
سماح خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 01:51
المحور:
الادب والفن
يقول المتوكّل طه: "إنّ الحرب ربّت جواد العقّاد"، وأنا أقول: "إنّ الحرب صقلت جواد العقّاد"، فجواد المولود عام 1998م، والذي كتب قصّته الأولى عن الحبّ والحرب عام 2014م، وشهد أربعة حروب، إنّما هو شهد أربعة عقود، وليس سنوات، فنضجت أفكاره واستوت لغته. وهو القائل: "قبل سبعة أكتوبر كنت أعيش انشطارًا في الذّات والوعي تجاه الوطن والواقع المتأزّم في غزّة"، وأنا أقول: "بعد سبعة أكتوبر أظنّه لملم شتات ذاته وصقل وعيه، واعتلى صهوة جواده، فصار جواد اللغة وفارسها". عندما صدر كتاب "أكتب موتي واقفًا" لجواد العقّاد، وقبل قراءته، تساءلت: ما الجديد الذي سيكتبه جواد في ظلّ الظروف ذاتها، موت، قصف، إبادة...؟، وخاصّة أنّه أصلًا يكتب يوميًّا، فما الجديد؟ ثمّ استنتجت في حينها أنّ الكتابة صارت زاده، بمثابة الطّعام والشّراب بالنّسبة له، فالإنسان الطّبيعي لا يمرّ عليه يوم دونهما، ولكنّ عقلي الّذي لا يتوب عن الأسئلة أسهب في استفساراته: طيب هل يكفي الطّعام والشّراب ليحيا الإنسان المبدع؟ هل يكفي توفّر المكان ليبدع الإنسان؟ هل يكفي وجود شريك أو عائلة ليبدع الإنسان؟ وغيرها من الاستفسارات الوجوديّة لتوفير شرط البقاء، وليس أيّ بقاء، إنّما هو بقاء المبدع وسيرورته، وفي الحقيقة، الجواب: لا. إذن متى يبدع الإنسان؟ إذا شعر بالدّفء، بالاحتواء، بالاحتضان، باللمس، نعم اللمس، وإن كان مجازيًّا، كلّ تلك الأمور مجتمعة تحت شرط استشعارها، تفجّر طاقات المبدع، وتحرّره من كلّ قيد، حتّى لو امتدّت سلسلته وتجذّرت في الماضي، وجواد حتّى ينجو بالإنسان المبدع في داخله، ويكسر تلك السّلسلة ويحطّم تلك القيود، جعل من اللغة حاضنة له، فتحوّلت من وسيلة للتعبير إلى كيان حَيّ يحتضن المعنى والتّجربة، فاحتضنته، واحتوته، وصارت أنثاه الرؤوم، أشبه برحم احتضن تجربته الإنسانيّة، فأعاد تشكيلها ومنحها ولادة جديدة من خلال هذا المنتج الأدبي (أكتب موتي واقفًا). فالكاتب الذي يجعل اللغة حاضنته هو كاتب يخلق عالمه داخل اللغة لا خارجها، وتصبح اللغة فضاء لتكثيف الوجدان والفكر معًا، وليس العكس، فلو احتضن جواد اللغة لأسبغ عليها محيطه مجرّدًا كما هو، بلون الدّم وحقيقة الموت، وشكل القصف والدّمار...، ولجاءت نصوصه توثيقيّة جافّة باهتة رماديّة بلون رماد الرّكام، سوداء بلون الموت، حمراء بلون الدّم، وعندما "لم يفهم العالم لغة الدّم وخانت اللغة الواقع، ص37"، لأنّه لم يحسن احتضانها، شعر العقّاد بأنّه "علينا فعل شيء آخر تمامًا"، فرفض "أن تكون الكتابة فقط وسيلة توثيقيّة ص38"، ولا أن "تقتنع بدور الرّاصد المسجّل للحدث ص41"، وقرّر أن يجعلها "عمليّة تحرّريّة من الواقع، وتعيد النّظر في مفهوم الحريّة ص37"، فجعلها إعلانًا لـ "رفض الموت الذي يحيط به من كلّ زمان ومكان ص38"، وجعلها حاضنة له حين استشعر فيها "الحريّة والأمان وجوهر رؤيته في الحياة ص38"، فصار هذا الحصن المنيع "أداته في مواجهة العالم، وترميم الشّروخ وإخماد الانفجارات الكبرى التي تحدث حولنا وفي دواخلنا ص38"، وهنا أضع خطًّا تحت (دواخلنا) وأؤكد على مقولتي بضرورة توفير حاضنة تشعرك بالأمان والاحتواء والدّفء؛ لتنتصر على الخراب في داخلك قبل خارجك، وهذا ما تمكّن منه العقّاد وهو أن ينظّف هذا الخراب ويلوّن مكانه بألوان قوس قزح! وهل يعقل ذلك؟ قوس قزح في سماء غزة يخترق ضباب القصف والقنابل والتفجير! نعم، هو كذلك عندما "تمنحني قدرة على تحرير ذاتي من الخوف واليأس"، فـ"تحلّق اللغة في ملكوت الذّات"، عندما لا تجد الأخيرة "ضوءًا تقود به عتمة الذّات ص40"، وقد تمكّن العقّاد من تلك الألوان عندما وصفها "شكلا من أشكال الفنون، تساعد الكاتب على التعبير عن همومه وواقعه، وردود أفعاله النفسية والعاطفية، فالكتابة الجيدة لا تقتصر على همّها الفني والجمالي فقط، بل تتضمن هما فكريا، ثقافيا، وسياسيا. فهي تؤسس لوعي جمعي بالحريّة... تساهم في تفكيك الواقع المظلم، والسعي نحو الخلاص ص41"، فصار بذلك "يطمح إلى تغيير العالم ص41"، اللغة احتضنت العقّاد فاستشعر دفأها، وتفاعل معها، فنشأت بينهما كيمياء لغويّة منمازة نوعًا ما، جعلته يتساءل بعد كل حدث مؤثَّث بالقصف والخوف، "الذي يتغلغل في العظام ص42" والفقد "الأبديّ ص42"، الذي "تشهده عيون الموت ص42"، يتساءل: "كيف أكتب هذا المشهد؟ كيف يمكن للكلمات أن تحمل هذا الكم من الرّعب والرّهبة؟"، وهي الأسئلة ذاتها التي أثارتني عندما علمت بصدور الكتاب. يجيب العقّاد نفسه، ويجيبنا، على هذه التّساؤلات، من خلال نصوصه الّتي كتبها، عندما أتى بماء اللغة، وألوان قزحها، وعبير ورودها، ومشاعر عشّاقها...، من خلال هذه المفردات والتّعابير: "حنين، بيت، رفاق، قلب، عشق، أناشيد، غزل، حبيبة، أزهار،...."، وجعلها تتفاعل مع مفردات "الحرب، الرحيل، الموت، الحزن، الشّقاء، الاحتراق، التدمير..."، لينتج حياة شامخة منتصرة فاعلة، ففي نصّه (الحرب مفردة مفخخة)، يقول: "يا أيّتها البلاد، في قلبي قصائد عشق وأناشيد عن البلاد، أبحث عن معنى لك وأنت الهلاك ص45"، يكتبها صاحبها واقفًا، مصرًّا على المضي في البحث عن سبل البقاء والصّمود "ها أنا أجاهد نفسي للعودة إلى ذاتي، في لحظة الموت أبحث عن حياة، في وطأة الخسارة أبحث عن الانتصار. أريد أن أكون إنسانًا ليس من لحم ودم فقط بل من أحلام وذاكرة وأمل وخوف طبيعيّ ص46"، ولا يكتفي العقّاد بذلك بل يريد أن يبرهن للعالم على كلّ ما يعتمل داخله نتيجة تلك التّفاعلات اللغوية، وذلك الدّفء الذي منحته اللغة، فيقول: "أريد أن أقدّم برهانا واحدا لهذا العالم أنّني ولدت في غزة، وأكتب عن الوطن والحب والحياة والبساتين واللغة والوجود الإنساني، وأستطيع أن أفكّر وأنظر في التاريخ والفلسفة، وأستطيع أن أغازل حبيبتي حين تتفتح الأزهار على وجنتيها كلّ صباح. أريد أن يفهم العالم أنني إنسان، ولا أستحقّ كل هذا الموت، ص46". إنّ جوهر النصّ الأدبي لا يقوم على الحدث أو الفكرة وحدهما، إنّما على اللغة نفسها، فهي التي تصوغ العالم الفنيّ، وتمنحه وجوده، ومن هنا نجد العقّاد يؤكّد في نصوصه جميعها على أنّ الكتابة فعل وجوديّ؛ لإثبات وجوده الإنسانيّ، وما هي (أي اللغة/الكتابة) إلا "جدوى وجودية في مجابهة الحرب، ص50"، فهو يكتب تحت القصف والرّصاص؛ ليقول للموت أنه ما زال موجودًا تشهد لغته الموت واقفًا شامخًا. اللغة لا تنقل الفكرة، إنّما تولدها وتؤطرها وتحتضنها، فنجده في نصه (الأطلال والموت القادم من جهات المستحيل)، يؤكّد على أن الكتابة وسيلة يتحدّث الشاعر فيها عن قلبه الذي أطلقه في شوارع غزة فغدا ملاحقًا، وعن علاقة حبه لتلك المدينة التي جعلته يختلق أسبابًا لعدم الرحيل، ثم يعبر عن حالة الحب المعادل للإبحار في أعماقها والضياع فيها بقوله "أتأمل المدينة ثم أكتب عني وعنها، عن حالة الحب التي تجعل إبحاري إلى أعماق الغرق والضياع مع أني أحفظ ملامح معشوقتي، وأعرف الحزن المديد في ذاكرتها، وأتلمس جراحها في جسدي وقلبي، أحفظها لكنني فتى الضياع، غزة معشوقتي القاسية، وأنا ضائع كطفل يتيم، ص48"، وفي السّياق ذاته يظهر تفاعل العقّاد وتماهيه بين مفردات الحب والحرب وهو يتحدّث عن حبّه لبيروت إثر نزفها المتكرر "إنّها ليست مدينة، إنما هي قصيدة لا تنتهي، وحبيبة تحمل ملامح من نحب، ومدينة متجدّدة ما زالت تهمس في آذان الشعراء، وتشبه الحب في كلّ شيء... أنا لست آخر الشعراء لكنها بلا شك آخر المدن الجميلة". اللغة احتضنت جواد وتبنّته، وعندما تماهى معها استطاع أن يحتضن أطفال غزة كلهم "حين أكتب أشعر وكأنني احتضنت أطفال غزة كلهم، ص51"، ويظنّ العقاد أنّ تجربة النّزوح من مدينة خان يونس جعلت حياته بلا ملامح ولم يبق سوى رماد الذكريات والأحلام والعمر والبيت، وبعد انهيار حياته التي كانت بالأبيض والأسود تختلط فيها الفرح والحزن والخوف والأمن والألم والراحة، والموت والحياة...أصبحت حياة كارثة، لكنّ التجربة الحقيقة وتلحّفه وتدثّره بها جعلته يتحدث بحرارة ومصداقية الحدث "إن التجربة مهمة في الكتابة، إذ تعطي اللغة حرارتها وصدقها العاطفي، إلا أنني لم أتوقّع مطلقًا الوصول إلى هذا الحد من التجريب!"، وأنا أقول لم أتوقع وصوله إلى هذا الحد من التفاعل والتماهي، فيكمل "نعم، تجريب المعاناة...والاستماع إلى قصص الناس البائسين والخائفين وتحليلاتهم السياسية، أو بالأحرى العاطفية، فكل شخص يقول ما يتمنى أن يحدث، في انتظار نهاية المشهد العبثي، ص53". وفي حديثه عن مدينته خانيونس "بسيطة كأول الشعر، حنونة كأول القبلات، كان عليك أن تذوقي الموت وأذوق المرّ؛ كي نعرف الحبّ المستحيل، ص74" يؤكّد على لغته الحاضنة الرحم الولادة التي تخلو من رائحة الموت، كما لن يحمل في سفره لغة الجراح، إنما لغة بيضاء.... وخلاصة القول: إن العقّاد تمكّن في 147 صفحة أن يحافظ على اللغة كحاضنة لتجربته بأحداثها الصّعبه، وما حملته من مرارة ووجع وموت وإبادة...، ولم يسمح للغة أن تكون مجرد أداة تنقلها.
#سماح_خليفة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا الآن؟ رحلة مع توماس إريكسون
-
ثيّمة العروبة ومقوماتها في قصيدة -وطني الكبير- لمحمد شريم.
-
زيارة مفاجئة لأطفال المحرقة
-
بينَ المُتَنبّي والدكتور أيمن العتوم وسماح خليفة (قولٌ على ق
...
-
أسطرة الواقع بين الذات والوطن في قصيدة فدوى طوقان -تموز والش
...
-
صورة المرأة الشرقية في عيون استشراقية غربية
-
-الخاصرة الرخوة- رواية تنويرية
-
أشواك براري جميل السلحوت والعبر المستفادة
المزيد.....
-
قناطر: لا آباء للثقافة العراقية!
-
المخرج الايراني ناصر تقوائي يودَّع -خاله العزيز نابليون-
-
إنجاز جديد للسينما الفلسطينية.. -فلسطين 36- بين الأفلام المر
...
-
وليد سيف يسدل الستار على آخر فصول المشهد الأندلسي في رواية -
...
-
موسم أصيلة الـ 46 يكرم أهالي المدينة في ختام فعاليات دورته ا
...
-
الوجع والأمل في قصص -الزِّرُّ والعُرْوَة- لراشد عيسى
-
المخرج المصري هادي الباجوري يحتفل بعقد قرانه على هايدي خالد
...
-
سينمائيو بلغاريا ينصرون غزة ويغضبون إدارة مهرجان -سيني ليبري
...
-
سينمائيو بلغاريا ينصرون غزة ويغضبون إدارة مهرجان -سيني ليبري
...
-
تايلور سويفت تواصل تحطيم الأرقام القياسية.. بيع 4 ملايين نسخ
...
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|