عبد الغاني العونية
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 16:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كأنّ التاريخ استيقظ متعبًا في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. العالم مثقل باللامعنى، بالديون والقلق والوحدة، وبجيل جديد يرفض أن يعيش كما عاش آباؤه: في الانتظار. جيل وُلد في العاصفة، على أنقاض وعود الحداثة، وشاشته صارت مرآة العالم، وجسده ساحة مقاومة بين العمل المرهق والرغبة في الحرية. هذا هو جيل Z، أبناء ما بعد النيوليبرالية، أبناء التناقض الصارخ بين الخطاب الوردي للعولمة والواقع الرمادي لحياتهم اليومية.
في كل مكان نراه يتمرّد: في باريس ومدريد، في نيويورك وتونس، في الدار البيضاء والرباط. يخرج بلا أيديولوجيا جاهزة، بلا قائد، بلا كتاب مقدس سوى «الإحساس بالاختناق». يصرخ ضدّ الغلاء والبطالة والعزلة، ضدّ نظام يبتلع أعمارهم مقابل فتات من الوظائف الهشة.
يتمرد بوسائل غير تقليدية: عبر الميمات الساخرة، الفيديوهات القصيرة، والبوستات التي تفضح عبث السلطة بضحكة. لم تعد الثورة بالبيانات والخطب، بل بالسخرية.
سخرية هي في جوهرها نقدٌ جذري للنظام القائم — كأنّهم يقولون للعالم: «لقد فقدنا الثقة بكم جميعًا، دعونا نعيد ترتيب الحلم على طريقتنا.»
لكن هذا الغضب ليس بلا جذور.
إنه استمرار للخيبة التي عاشتها الأجيال السابقة — جيل حركة 20 فبراير في المغرب، أو حراك الريف، أو احتجاجات الأطباء والطلبة. تلك الحركات كانت تصرخ بالمعنى، تطالب بالكرامة والعدالة. غير أن الدولة امتصتها بالعنف والمناورة، وأعادت تشكيلها كخطر يجب احتواؤه.
جيل Z شاهد كل هذا، ورأى كيف يُقمع الحلم باسم «الاستقرار»، وكيف تُسحق الكرامة تحت شعار «الواقعية». لكنه لم يورث اليأس فقط، بل ورث الحسّ النقدي، والقدرة على المقاومة الرقمية، ورفض التطبيع مع القهر.
إنهم لا يثقون في الأحزاب ولا في النقابات ولا في المؤسسات الرسمية. لقد رأوا سقوط الأيديولوجيات الكبرى، لذلك قرروا خلق أيديولوجيا جديدة من الحياة اليومية نفسها:
أن ترتدي كما تشاء، أن تحب من تشاء، أن تقول لا، ولو بوشم صغير أو تدوينة ساخرة.
تمردهم فردي، لكنه يحمل نزعة جماعية عميقة نحو التحرر.
هو تمرد الجسد ضدّ القمع، والخيال ضدّ السوق، والمعنى ضدّ اللامعنى.
من هذه الزاوية، يبدو جيل Z ابنًا شرعيًا لهزائمنا، لكنه أيضًا محاولة للبدء من الصفر.
ما لم يستطع جيل 20 فبراير قوله في الشارع، يقوله هذا الجيل من وراء الشاشات، بلغة أكثر جرأة، وأكثر صدقًا.
وإذا كانت حركة 20 فبراير قد مثلت لحظة الوعي الجماعي، فإن تمرّد جيل Z هو لحظة الوعي الذاتي الوجودي: وعي بأن المعركة لم تعد فقط سياسية، بل روحية أيضًا — معركة ضد التفاهة، ضد الاستلاب، ضد أن يتحوّل الإنسان إلى منتوج رقمي في سوق بلا قلب.
في المغرب، كما في باقي العالم، يتجلى هذا التمرد في أشكال متعددة:
في الموسيقى الحرة، في الغضب من الأسعار، في رفض الزواج التقليدي، في الانسحاب من وهم «النجاح» كما يقدمه الإعلام.
إنه جيل يقول بصوت واضح: «لسنا ضدّ الحياة، نحن فقط نبحث عنها خارج قوالبكم.»
جيل Z لا يحمل مشروعا ثوريًا مكتملًا بعد، لكنه يضع نواة سؤال ثوري جديد:
كيف نعيش بحرية في عالمٍ لا يؤمن إلا بالربح؟
كيف نحافظ على إنسانيتنا وسط هذا الخراب الجميل؟
بيان جيل بلا أوهام
لسنا أبناء اليقين، نحن أبناء الأسئلة.
وُلدنا في عالمٍ فقد بوصلته، بين حربٍ وإعلان، بين جائحةٍ وشاشة، بين وعودٍ ميتة وأحلامٍ معروضة للبيع بالتقسيط.
تعلمنا منذ الصغر أن ننجو، لا أن نحيا. أن نعمل لنعيش، لا أن نحلم.
لكننا تعبنا من النجاة.
نريد أن نحيا، ولو ببطء، ولو ضدّ المنطق.
لسنا ضدّ الدولة، لكننا نرفض أن تُختزل الحياة في رقم وملفّ وباركود.
لسنا ضدّ اليسار، لكننا سئمنا من اللغة الخشبية التي تتحدث عن الحرية ولا تعيشها.
نحن الجيل الذي يرى العالم من خلف الزجاج، في الضوء الأزرق للهواتف، في العزلة المزدحمة بالضجيج.
جيل لم يعد يؤمن بالأبطال، لأنه رأى كيف تُباع البطولة في الأسواق.
لكننا، رغم ذلك، نحمل في داخلنا بذرة عصيانٍ صامتة، تكبر كلما سمعنا كلمة "عادي".
نحن لا نؤمن بالثورات الكبرى، بل بالثورات الصغيرة:
أن تقول لا عندما يجب أن تقول نعم.
أن تحبّ من تُريد رغم الكراهية.
أن تبقى إنسانًا في زمنٍ يريد أن يحوّلك إلى محتوى.
أن تكتب، أن تصرخ، أن تضحك في وجه الكارثة.
لسنا طوباويين، نعرف أن العالم لا يُصلح بضغط زرّ.
لكننا نعرف أيضًا أن اللامبالاة ليست حلًّا.
سنحلم رغم الخراب، سنسخر رغم الخوف، سنرقص في جنازة النظام العالمي القديم.
فليسمّونا فوضويين، غير منضبطين، عدميين — لا يهم.
كل ما نريده بسيطٌ حدّ البكاء:
أن نحيا بكرامة، أن نفكر بحرية، أن نحب دون ترخيص، أن نحلم دون رقابة.
نحن جيل ما بعد الأوهام، لكننا آخر من يؤمن بالمعنى.
نؤمن أن العالم يمكن أن يُعاد خلقه من الصفر،
لا بالرصاص ولا بالشعارات،
بل بالوعي، بالصدق، وبإصرارٍ صغير لا يموت.
نحو يسار إنساني جديد
إذا كان جيل Z قد أخرج الثورة من الشارع إلى الشاشة، ومن المعسكرات إلى غرف النوم، فهذا لا يعني موت السياسة، بل تحوّل أدواتها ولغتها.
اليسار التقليدي الذي ظلّ عالقًا في المعادلات القديمة، يحتاج اليوم إلى إعادة تأسيس جذري: ليس فقط في البرمجيات التنظيمية، بل في فهمه للإنسان، للحرية، للعدالة.
هذا اليسار الجديد يجب أن يكون:
إنسانيًا: يبدأ من الفرد، من الجسد، من التجربة اليومية، قبل أن يحلم بتحويل العالم.
مرنًا: قادرًا على التواصل مع أجيال جديدة، يتعلم لغتها، يفهم رموزها، يحاورها بدل أن يقمعها.
ناقدًا: يراجع أدواته، يحلل السلطة والاقتصاد والثقافة، دون الهروب إلى الشعارات القديمة.
متضامنًا: لا يكتفي بخطاب نظري، بل يشارك في بناء روابط اجتماعية حقيقية، تشارك الحياة والمصير مع الفقراء والمهمشين، ومع كل من يحلم بالعدالة.
جيل Z لا ينتظر الوصفة الجاهزة، لكنه يفتح نافذة على المستقبل.
اليسار الذي يسمع هذه النافذة، ويتعلّم لغة جيل جديد، يمكنه أن يجد في هذا الغضب والفوضى بذرة تجديد ثوري حقيقي: يسار لا يقتصر على الدفاع عن الماضي، بل يصنع المستقبل، إنسانيًا، حرًّا، واعيًا.
في النهاية، يكمن التحدي الأكبر في قدرة اليسار على تحويل السخرية إلى برنامج، والفوضى إلى مشروع، والتمرد إلى أفق — أفق يجعل من السياسة أداة للكرامة، ومن الحرية تجربة جماعية، ومن العالم مكانًا يُحتمل العيش فيه بحق، لا فقط بامتثال.
#عبد_الغاني_العونية (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟