أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - رزكار عقراوي - جيل Z 212 واحتجاجات الشباب في المغرب: من الفضاء الرقمي إلى الشارع















المزيد.....


جيل Z 212 واحتجاجات الشباب في المغرب: من الفضاء الرقمي إلى الشارع


رزكار عقراوي
سياسي واعلامي يساري

(Rezgar Akrawi)


الحوار المتمدن-العدد: 8484 - 2025 / 10 / 3 - 23:02
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


يشهد المغرب الان - خريف 2025 - موجة احتجاجية شبابية - جماهيرية واسعة أعادت إلى الساحة السياسية أسئلة جوهرية حول العدالة الاجتماعية، الحقوق الأساسية، تردي الخدمات، والشرعية السياسية للنظام. هذه الحركة التي حملت اسم "جيل Z 212"*، نسبةً إلى رمز الاتصال الدولي للمغرب، لم تولد من فراغ؛ بل جاءت نتيجة تراكم طويل من التهميش، والفقر، وغياب الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم، وانتشار البطالة والفساد. انفجرت الحركة بشكل عفوي بعد حادث مأساوي في مستشفى حسن الثاني بمدينة أغادير، حيث توفيت نساء أثناء الولادة بسبب انعدام الرعاية. تحولت هذه الشرارة إلى انتفاضة اجتماعية امتدت بسرعة إلى مدن كبرى مثل الرباط، والدار البيضاء، وفاس، ومراكش، وتارودانت، وسلا، ووجدة، وسرعان ما أصبحت تعبيرًا عن أزمة شاملة يعيشها جيل كامل من الشباب المغربي، وبالأخص من الطبقات الكادحة.
إن ما ميّز هذا الحراك لم يكن فقط اتساعه وانتشاره الجغرافي، بل أيضًا اعتماده على آليات جديدة في التنظيم والتعبئة انطلقت من الفضاء الرقمي لتنعكس على الواقع الميداني. وهنا تتجلى العلاقة بين التجربة المغربية ومفهوم "اليسار والنضال الإلكتروني"، حيث يلتقي البعد الاجتماعي الملموس مع البعد التكنولوجي والتنظيمي في إنتاج شكل جديد من الفعل السياسي. القوة الجوهرية لهذا النموذج أنه يستعيد مفهوم السياسة من أيدي النخب القديمة ويعيده إلى الشارع وإلى الشباب. ويؤكد دائمًا أن التكنولوجيا ليست محايدة؛ بل هي أداة هيمنة في يد الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تتحول إلى أداة تحرر إذا ما وظفت بشكل يساري تقدمي ومنظم. ما حدث في المغرب يعكس هذه الإمكانية، فقد استطاع الشباب عبر وسائل بسيطة أن يبنوا فضاءً رقميا عامًا بديلًا وحرًا يعبّرون فيه عن رفضهم للاستبداد، والفساد، والظلم، وتهميش حياتهم اليومية. لقد تحولت الفيديوهات القصيرة، والميمات، والنقاشات الرقمية إلى أدوات حقيقية للتعبئة السياسية والتنظيم ولإنتاج وعي جماهيري نقدي، بعيدًا عن الإعلام الرسمي الذي سعى إلى تشويه الحراك وحصره في أعمال عنف وتخريب.


1. التنظيم الشبكي الرقمي للشباب يتجاوز آليات التنظيم التقليدية ويخلق فضاءً نضاليا يساريًا جديدًا

ما يميز هذه الحركة ليس فقط مطالبها العادلة التي تركزت حول تحسين الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل ومحاسبة الفساد والعدالة الاجتماعية، بل الأهم هو شكلها التنظيمي الإلكتروني-الرقمي وأدواتها التي تجسد بدقة أفكار اليسار الإلكتروني**. فقد جرى تنظيمها إلى حد كبير خارج الأطر التقليدية للأحزاب والنقابات التي ضعف تواصلها مع الأجيال الجديدة لأسباب عديدة، وتحولت في نظر الكثير من الشباب والشابات إلى هياكل بيروقراطية جامدة لم تعد قادرة على التعبير عن هموم الناس. في المقابل، فتح الفضاء الرقمي آفاقًا جديدة لتنظيم مختلف كليًا، قائم على المرونة والسرعة والانفتاح. تحولت المنصات مثل تيك توك وإنستغرام وفيسبوك إلى أدوات للتعبئة والتحشيد، كما تحولت خوادم ديسكورد إلى ما يشبه "مراكز شعبية رقمية" للنقاش، والتخطيط، واتخاذ القرار بشكل جماعي وأفقي.
هذا النمط التنظيمي الجديد يعبّر عن تجاوز جوهري لمفهوم القيادة الفردية أو الهرمية والمركزية الصارمة. لم يعد هناك زعيم أو لجان قيادية هرمية تتحكم في مجرى الأحداث، بل مجموعات شبكية أفقية، كل منها يتخذ قراراته الميدانية بشكل مستقل ضمن أهداف عامة مشتركة. هذه اللامركزية لم تكن علامة ضعف، وانما مصدر قوة، لأنها جعلت من الصعب على السلطة والاجهزة الامنية اختراق الحركة أو استهدافها بقيادة واحدة. فحتى مع إغلاق حسابات أو اعتقال ناشطين وناشطات، ظلت الحركة قادرة على إعادة إنتاج نفسها وتوسيع مساحتها التنظيمية. هذه القدرة على البقاء والتجدد تعكس الروح الحقيقية للتنظيم والحراك الالكتروني-الرقمي، حيث التنظيم ليس مجرد جهاز جامد بل شبكة حية قابلة للتوسع والتحول وفق الظروف.
البنية الشبكية سمحت للحركة بالانتشار السريع والسهل على مستوى جغرافي واسع، من المدن الكبرى إلى المناطق الطرفية، كما مكّنتها من تجاوز القمع الميداني والرقابة الرقمية. فقد حاولت السلطة مرارًا إغلاق الحسابات أو حجب المحتوى أو استهداف المنسقين، لكن الطبيعة اللامركزية جعلت تلك المحاولات محدودة الأثر. ففي اللحظة التي يُغلق فيها حساب، يظهر حساب جديد، وفي اللحظة التي يُكسر فيها رابط تنظيمي، تُفتح قنوات بديلة. هذه الديناميكية تضع السلطة أمام معضلة حقيقية، لأنها تواجه "سيرورة تنظيمية جماهيرية" بشكل جديد يصعب التحكم بها، وليس تنظيمًا تقليديًا يمكن تفكيكه باعتقال قياداته.
التنظيم الشبكي الرقمي هو شكل جديد من الثقافة السياسية والتنظيم السائد بين الشباب والشابات اليوم. فالنقاشات التي دارت على خوادم ديسكورد لم تقتصر على الشعارات أو الخطط الميدانية، وانما تحولت إلى فضاء تعليمي متبادل، حيث يشارك الشباب تجاربهم، يناقشون الاستراتيجيات، وينسجون لغة مشتركة للنضال. بهذا المعنى، الفضاء الرقمي كان وسيلة للتواصل، وتحول إلى "مدرسة يسارية جماعية متعددة المنابر" تنتج وعيًا سياسيًا جديدًا يتجاوز وصاية الأحزاب التقليدية وخطاب النخب المثقفة. إن ما نشهده هنا هو ولادة فعلية لفضاء يساري جديد، ينهض من الأسفل، من المبادرات الذاتية، من العمل الجماعي، ويستند إلى التكنولوجيا كأداة تحررية بدل أن تبقى أداة للهيمنة في ظل سيطرة الشركات الرأسمالية الرقمية والدول الاستبدادية.
يمكن القول إن التنظيم الشبكي الرقمي الذي أبدعه الشباب المغربي هو التعبير العملي عن مقولة اليسار الإلكتروني بأن الفضاء الرقمي قد أصبح اليوم ساحة مهمة للصراع الطبقي. وكما أن المصانع والمزارع والمكاتب هي ساحة المواجهة الأساسية بين رأس المال والعمل، أصبح الإنترنت اليوم المصنع الجديد المكمّل لإنتاج الوعي ولتنظيم المقاومة. الفرق أن هذا المصنع الجديد ليس ماديًا محصورًا في جدران، بل فضاء مفتوح متحرك، تتسع فيه دوائر النقاش، وتولد فيه المبادرات بسهولة كبيرة. ويمنحها طابعًا عالميًا وأمميًا، لأنه يكسر الحدود الوطنية ويخلق إمكانيات للتواصل والتنسيق بين حركات متباعدة جغرافيًا لكنها متشابهة في الجوهر.
إذا ما قارنا الحراك المغربي بتجارب أخرى في المنطقة، نجد أن له طابعًا مميزًا. ففي تونس مثلًا استُخدمت المنصات الرقمية منذ 2011 في التعبئة، لكن بشكل أولي. وفي لبنان 2019 تحولت واتساب وتلغرام إلى أدوات محورية في تنظيم المظاهرات. بينما في المغرب 2025، شهدنا دخول جيل كامل لا يعرف السياسة إلا عبر الرقمنة ويعتبر الفضاء الرقمي امتدادًا طبيعيًا لحياته. هذا ما يجعل حراك "جيل زد 212" أول انتفاضة رقمية بالكامل تقريبًا في دول العالم العربي، ويؤكد أن مستقبل النضال اليساري لن يكون ممكنًا دون استيعاب هذه التحولات وتوظيفها بشكل فاعل، من خلال بناء أمميات يسارية رقمية وبدائل تكنولوجية تقدمية تتجاوز الحدود الوطنية وتنسق وتربط بين التجارب في كافة أنحاء العالم.


2. المطالب المرفوعة تعكس جوهر اليسار الحي القائم على العدالة الاجتماعية وحاجات الجماهير

ما يثير الانتباه في تجربة الشباب المغربي أن المطالب التي رفعوها في الشارع والفضاء الرقمي، رغم بساطتها المباشرة، تحمل مضمونًا يساريًا عميقًا رغم عدم انتماء معظمهم الى أي تنظيمات سياسية، وقد أدرك هؤلاء الشباب، بوعي أو بحدس سياسي جماعي، أن قوة أي حركة تحررية تكمن
في بناء أرضيات مشتركة. لم ينشغلوا بالجدالات والصراعات الفكرية والنخبوية. فرغم اهمية هذه الجدلاات في تطوير اليسار فكريا، فأنها استنزفت وشتت قوى اليسار لعقود، بين مدارس فكرية وأيديولوجيات متناحرة وتفاصيل نظرية، بل تجاوزوا هذا التعب الفكري وأعادوا البوصلة إلى ما يهم الجماهير الكادحة فعلًا، والانطلاق من الواقع على الارض نحو النظريات وليس العكس، اليسار هنا لا يُقاس بمن يرفع الشعارات الماركسية أو يكتب حول أو يكرر السياسات الاشتراكية نظريًا فقط، بل بمن يساهم عمليًا ونظريا وفي ارض الواقع في تغيير حياة الجماهير الكادحة نحو الأفضل، في الصحة والتعليم والعمل والكرامة والحقوق والعدالة..... الخ، ويؤثر في مسار نضالهم اليومي وان كان بخطوات محدودة وبشكل تدريجي.
فالمطالب التي صاغوها تدور حول تحسين التعليم العمومي، ضمان الرعاية الصحية المجانية والفعالة، توفير فرص عمل تضمن الكرامة الإنسانية، محاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد. هذه المطالب تمثل جوهر الفكر اليساري الحي، لأنها تضع الظلم والصراع الطبقي واحتياجات الناس اليومية في المركز والانطلاق منها.


3. القمع الميداني والرقمي يكشف آليات السيطرة الحديثة ولكنه يعزز وعي المقاومة الرقمية


لم تكن الحركة الشبابية في المغرب مجرد موجة احتجاجية سلمية تُواجه بخطاب سياسي أو وعود إصلاحية، بل جرى التعامل معها من أول لحظة كتهديد وجودي للنظام، وهو ما انعكس في القمع الميداني القاسي الذي واجهه الشباب. قوات الأمن استخدمت الرصاص الحي في بعض المناطق، خصوصًا في لقلية قرب أغادير حيث سقط شهداء برصاص الدرك، إضافة إلى الغاز المسيل للدموع، والضرب بالهراوات، والملاحقات الليلية، واعتقال المئات بينهم نسبة عالية من القاصرين. هذا القمع لم يكن رد فعل منفلتًا بل سياسة مدروسة تهدف إلى ترهيب جيل بأكمله، وكسر إرادته قبل أن يترسخ وعيه التنظيمي. ترافق القمع الميداني مع أسلوب ممنهج لعزل المناطق المشتعلة، عبر حواجز أمنية وتطويق للأحياء الشعبية، وقطع طرقات لمنع انتقال المتظاهرين بين المدن. تم استخدام الاعتقال الجماعي كأداة لتفريغ الشوارع. لكن الأهم أن السلطة ركزت على استهداف الشباب والقاصرين، لأنهم كانوا العمود الفقري للحركة، وهو ما يكشف إدراكها أن الخطر الحقيقي يأتي من هذا الجيل الجديد الذي لا يهاب الشارع ويملك أدوات تنظيم رقمية عصية على الاحتواء.
هذا الوجه الخشن من القمع الميداني تزامن مع الوجه الناعم الرقمي. الاعتقال الرقمي، والاغتيال الرقمي كلها آليات موازية استهدفت الفضاء الإلكتروني للحركة. تم حذف حسابات وحجب محتوى وتقييد الوصول إلى النقاشات الجماعية في محاولة لعزل الشارع عن الفضاء الرقمي الذي يغذيه. وهكذا رأينا كيف أصبحت السلطة تمارس "القمع المزدوج"، في الشارع عبر الهراوة والرصاص، وفي الشبكة عبر الخوارزميات وحجب المنصات.
لكن ما لم تتوقعه السلطة أن هذا القمع، بدلًا من أن يوقف الحراك، عزز وعي المقاومة الرقمية والميدانية معًا. ففي الشارع، ابتكر الشباب أشكالًا جديدة للتجمع مثل المظاهرات الليلية المتنقلة، والاعتماد على مجموعات صغيرة بدل المسيرات الكبرى، واستخدام الأحياء كفضاءات للاحتجاج المحلي. هذا التكتيك جعل من الصعب على الشرطة القضاء على الحركة دفعة واحدة، وفتح إمكانيات للتنظيم القاعدي المحلي. وفي الفضاء الرقمي، انتقل النقاش بسرعة من الحسابات المحجوبة إلى حسابات بديلة ومنصات أكثر أمانًا، مع انتشار استخدام VPN والتشفير.
القمع الميداني كشف حدود النظام الاستبدادي، لأنه لم يعد يواجه فقط كتلة غاضبة بل جيلًا رقميًا قادرًا على التكيف. ومع كل محاولة قمع، كان الشباب يعيدون إنتاج تنظيمهم بشكل أكثر مرونة، ويطورون وعيًا بأن الصراع مع الدولة ليس جزئيًا بل شامل، يطال الجسد في الشارع والوعي في الشبكة. وهنا يظهر جوهر ما يسميه اليسار الإلكتروني بـ"المعركة الطبقية الرقمية"، حيث أدوات القمع الحديثة تلتقي مع الأدوات الكلاسيكية.
لقد أصبح واضحًا أن السيطرة على الشارع لا يمكن فصلها عن السيطرة على الفضاء الرقمي، وأن الدولة حين تسقط الرصاص على الأجساد فإنها في الوقت نفسه تسقط الحجب على الحسابات. لكن المقاومة أيضًا تتطور في الاتجاهين: في الشارع بتوسيع التكتيكات الميدانية الشعبية، وفي الشبكة بابتكار أدوات حماية وتنظيم بديلة. هذا التفاعل بين الميدان والرقمي هو الذي يفتح أفقًا حقيقيًا لليسار الإلكتروني كي يطوّر مشروعًا أمميًا لتحرير الإنسان والتكنولوجيا في آن واحد. هذه القدرة على تجاوز القمع الرقمي تعكس وعيًا سياسيًا متزايدًا بضرورة السيطرة على الأدوات وبناء أدوات تكنولوجية يسارية تقدمية بديلة، وعدم تركها بالكامل بيد الشركات الرأسمالية الاحتكارية والدول الاستبدادية.


4. تحويل الطاقة الشبابية العفوية إلى مشروع تحرري جذري منظم

رغم قوة هذا النموذج، تظل التحديات كبيرة. غياب التنسيق المركزي قد يتحول إلى نقطة ضعف إذا لم تتبلور رؤية استراتيجية طويلة الأمد. والأهم أن المطالب الجزئية تحتاج إلى ربط بأفق تحرري شامل حتى لا تبقى الحركة في دائرة الإصلاحات. هنا تبرز ضرورة وجود اليسار الأرضي - الإلكتروني منظمًا كتيار فكري وتنظيمي يعمل على تحويل الطاقة العفوية إلى مشروع سياسي تحرري يجمع بين النضال الرقمي والميداني على الأرض، ويربط بين المطالب المباشرة والرؤية الاشتراكية الجذرية، ويستند إلى أرضيات مشتركة تتسع للجميع وتبني تحالفات واسعة من أجل التغيير الجذري.
هذا الحراك الشبابي والجماهيري يعكس بوضوح روح اليسار المتفتح الذي يرفض الانعزال داخل النخب الفكرية ويعمل على فتح منابر متعددة للنقاش والعمل المشترك. في فضاءات النقاش الرقمي لم يكن هناك وصي أيديولوجي ولا بناء هرمي مفرط، بل كانت هناك نقاشات حرة، وأصوات متعددة، وحرية في طرح الأفكار. غير أن ما كان يثبت ويستمر ويترجم إلى فعل سياسي هو تلك النقاط التي تلامس حياة الناس. هنا يتجسد المعنى الحقيقي للديمقراطية القاعدية التشاركية، حيث يصبح التنظيم الجماعي أداة لتوحيد الجهود حول ما يخدم الجماهير، لا حول ما يُرضي النخب المثقفة. إن هذا التوجه يفتح أمام اليسار فرصة تاريخية لتجديد نفسه، شرط أن يتخلى عن نزعة الاحتكار الفكري وعن ثقافة الانقسام التي شلته طويلًا.
فالشباب والشابات أرسلوا رسالة واضحة: لن ننتظر حلولًا من فوق، ولن ننشغل بخلافات عقيمة، بل سنبني عملنا على القضايا التي تهم حياة الناس اليومية. هذا الوعي العملي الجدلي هو ما يمنح الحركة قوتها ويجعلها قادرة على الانتشار والتمدد. فشغيلات وشغلية اليد والفكر لا يعنيها كثيرًا ما إذا كان النص المرجعي هو ماركس أو لينين أو تروتسكي أو ماو أو غيرهم من المفكرين رغم دورهم و مكانتهم التأريخية العظيمة في الفكر الانساني، بقدر ما يعنيها أن تجد مستشفى مجهزًا، مدرسة محترمة، فرصة عمل، مساواة، وكرامة في حياتها اليومية بعيدا عن الفساد و الاستبداد... الخ. هذه هي النقاط المشتركة التي شكلت أرضية الالتقاء، وهي التي يمكن أن تتحول إلى قاعدة لليسار كي يبني مشروعًا تحرريًا جذريًا يتجاوز الوضع الحالي ويستعيد دوره كأداة للتغيير نحو التحرر الاشتراكي.


5. من الشبكة إلى الشارع... آفاق يسار متجدد

من المهم التأكيد أن اليسار الإلكتروني لا يطرح نفسه كبديل عن قوى اليسار التاريخية أو عن التجارب التنظيمية التي راكمت نضالات هائلة في كافة المجالات عبر عقود. بل هو استمرار وتطوير لها ومكمل لها، ويضيف بعدًا جديدًا إلى الأدوات السياسية والتنظيمية والفكرية التي يستخدمها اليسار في معركته الطويلة والمعقدة ضد الرأسمالية والاستبداد. ما يميزه أنه يستجيب لواقع جديد تشكّل بفعل الثورة الرقمية، حيث توسعت أدوات الصراع لتشمل الفضاء الرقمي، والمنصات، والشبكات التي باتت تتحكم بالوعي الجماهيري وتحدد مسار النقاشات العمومية.
إذن هو لا يلغي دور الأحزاب اليسارية والنقابات والحركات الاجتماعية القائمة، بل يدعوها إلى التطوير والتجديد، إلى إدخال البعد الرقمي في استراتيجياتها التنظيمية والسياسية، وإلى تجاوز الجمود البيروقراطي والانغلاق الأيديولوجي. إن التحدي الذي يواجه قوى اليسار اليوم ليس فقط في مواجهة الرأسمالية التقليدية وانظمة الاستبداد، بل في مواجهة الرأسمالية الرقمية التي أعادت إنتاج السيطرة الطبقية بأشكال أكثر نعومة وخفاء، عبر البيانات والخوارزميات والرقابة الرقمية الشاملة.
إن ما أبدعه الشباب في المغرب يمثل دعوة صريحة ومُلحة لكافة قوى اليسار. لم يعد التنظيم السياسي خيارًا أحاديً الاتجاه؛ بل يجب أن يكون متعدد المنابر، مفتوحًا، مرنًا، وشفافًا يستفيد ويتعامل بذكاء مع أدوات العصر الرقمي. هذه الرؤية المكمّلة لا تعني التخلي عن الهياكل الكلاسيكية التي راكمت تاريخًا من النضال الطبقي، بل تتطلب إعادة بنائها بشكل أفقي ومرن لتكون أقرب إلى الجماهير وقادرة على التفاعل السريع، خاصة مع الأجيال الجديدة. تجربة الشباب المغربي مثال حي من خلال ابتكار تنظيمات رقمية شبكية فعالة، لكن هذا لا يلغي الحاجة المُلحة إلى أطر سياسية وتنظيمية ونقابية قادرة على حماية هذه الطاقات، وتوجيه الاحتجاجات، وتحويلها إلى مكتسبات دائمة.
هذا يقتضي تحقيق التكامل الجدلي بين القديم والجديد: بين النضال الميداني والزخم الرقمي، وبين الخبرة التاريخية لليسار والجرأة والمرونة التي يجلبها الجيل الرقمي. هذه الجدلية بين الاستمرار والتجديد هي ما قد يمنح الحركة اليسارية اليوم إمكانية النهوض من جديد، محليًا في دول الجنوب وعالميًا بشكل عام. لذا، فإن اليسار الإلكتروني هو دعوة إلى تجديد المشروع اليساري بأكمله؛ عبر تطوير وتحديث أدواته التنظيمية، والسياسية، والفكرية، والرقمية، والتقنية، وغيرها، والعمل المشترك والتحالفات وفق نقاط الالتقاء الجوهرية. كما يشدد على ضرورة تعزيز الدور القيادي للشباب داخل تنظيمات اليسار، بما يضمن تجديد الدماء الفكرية والتنظيمية وفتح المجال أمام طاقاتهم الإبداعية والمتجددة لتكون في صلب القرار والعمل النضالي. وتعزيز علاقة اليسار بحياة الجماهير الكادحة والأجيال الشابة في زمن الهيمنة الرأسمالية والاستبداد. فالمستقبل ينتمي إلى اليسار الذي يستوعب أن ساحة الصراع الطبقي اليوم تمتد من أعماق الشارع إلى أبعد نقطة في الفضاء الرقمي. لقد أثبت حراك جيل زد 212 أن العلاقة بين القوى اليسارية والأجيال الشابة لا يمكن أن تتطور وتترسخ إلا بدمج النضال الميداني على الارض مع أدوات التنظيم الرقمي واشكال جديدة من التنظيم والخطاب السياسي. وهو درس ليس للرفاق والرفيقات الاعزة في القوى اليسارية والتقدمية في المغرب فقط، بل لليسار العالمي كله.


***************************
الهوامش:
* جيل Z زد: هو الجيل المولود منذ منتصف التسعينيات حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، نشأ في بيئة رقمية، يستخدم التكنولوجيا ووسائل التواصل كجزء أساسي من حياته اليومية، ويمتزج عنده العالم الواقعي بالافتراضي، ما يجعله أكثر قدرة على التعبئة والتنظيم عبر الفضاء الرقمي.
** اليسار الالكتروني هو تيار يساري حديث يسعى إلى تطوير أدوات وخطاب واليات تنظيم اليسار التقليدي عبر توظيف التكنولوجيا الرقمية والفضاء الشبكي في التنظيم والنقاش والتعبئة. لا يطرح نفسه بديلا عن قوى اليسار التاريخية، بل مكملًا ومطورا لها، ويدعو إلى إدماج المنابر الرقمية والديمقراطية التشاركية مع النضال الميداني من أجل ربط القضايا النظرية بحاجات الجماهير الكادحة اليومية.

****************************
المصادر:

1. Le Monde Afrique – Moroccan protesters call for prime minister’s resignation (2 أكتوبر 2025)
https://www.lemonde.fr/en/le-monde-africa/article/2025/10/02/moroccan-protesters-call-for-prime-minister-s-resignation_6746020_124.html
2. AP News – Moroccan youth protests erupt after deaths in Aga-dir- hospital (1 أكتوبر 2025)
https://apnews.com/article/912ca1a9dbc42e6d3d2f8a1067eb12f9
3. Reuters – Morocco’s youth, police clash for fifth night of protests demanding education, health care (1 أكتوبر 2025)
https://www.reuters.com/world/africa/moroccos-youth-police-clash-fifth-night-protests-demanding-education-health-care-2025-10-01
4. The Guardian – First deaths in Morocco’s youth-led anti-government protests as police open fire (2 أكتوبر 2025)
https://www.theguardian.com/world/2025/oct/02/first-deaths-in-moroccos-youth-led-anti-government-protests-as-police-open-fire
5. Al Jazeera – 7 أسئلة تشرح ما يجري في احتجاجات جيل زد بالمغرب (2 أكتوبر 2025)
https://www.aljazeera.net/news/2025/10/2/7-%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%AD-%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AC%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%B2%D8%AF
6. First killings in Morocco since Gen Z protests erupted
https://www.bbc.com/news/articles/cgrqpekyxpvo
7. The most prominent intellectual and organizational foundations of the electronic left
https://libcom.org/article/most-prominent-intellectual-and-organizational-foundationselectronic-left-e-left



#رزكار_عقراوي (هاشتاغ)       Rezgar_Akrawi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بثلاثين لغة عالمية، يصدر كتابي حول الذكاء الاصطناعي مجانا بد ...
- رقابة وسيطرة ناعمة، عبر الذكاء الاصطناعي كأداة قمع سياسي متد ...
- هل نعيش في عبودية رقمية؟ كيف يسيطر الذكاء الاصطناعي على عقول ...
- البابا والفاتيكان، حق إلهي أم احتكار ذكوري؟ رجال كهول يقصون ...
- كسر الفجوة الرقمية بين اليسار والرأسمالية، مهمة اليسار العاج ...
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول كتابه: ال ...
- الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ...
-   الحزب الشيوعي وسائرون، أجمل تحية وتهنئة بذكرى التأسيس، ملا ...
- نحو – إعدام! - عقوبة الإعدام
- حول اغتيال - السليماني -، إرهاب الدولة وثقافة الإعدام والاغت ...
- من اغتال رفيقي وصديقي نذير عمر؟ في ذكراه بعد ربع قرن من الجر ...
- حول إدارة الاختلاف في الأحزاب اليسارية - الإشكالات الأخيرة ف ...
- عفرين! .... الدولة القومية؟ أم دولة المواطنة والحقوق؟ .... م ...
- اليسار و«الاستفتاء» في إقليم كردستان.. ما العمل والمهمات؟
- حوار حول الذكرى المئوية للثورة البلشفية
- نعم لمبادرة الأمم المتحدة حول الاستفتاء، لا للتعصب والكره ال ...
- رسالة إلى اللقاء اليساري التحاوري الثاني في العراق
- استفتاء من اجل الاستقلال؟، ام تعزيز وتكريس الدكتاتورية والفس ...
- نحو مقاطعة الاستفتاء حول استقلال إقليم كردستان العراق!


المزيد.....




- نداء المشاركة في المسيرة الوطنية بالرباط يوم الأحد 5 أكتوبر ...
- كوت ديفوار تحظر التظاهر قبيل مسيرة للمعارضة
- إغلاق قناة -ناصر-.. وأسرة عبد الناصر تتحرك لإنقاذ الأرشيف
- هتافات المتظاهرين في المغرب.. لا نريد كأس العالم، نطالب بتحس ...
- الداخلية المغربية: أكثر من 70% من المتظاهرين قاصرون
- اعتقال متظاهرين مؤيدين لفلسطين أمام مصنع للأسلحة في فرنسا
- السودان: حوار مع المسؤول السياسي للشيوعي بالعاصمة القومية…
- جيل العولمة الرأسمالية والثورة التقنية والرقمية والنضال المي ...
- الجبهة الديمقراطية تثمن الموقف الكولومبي بطرد بعثة الاحتلال ...
- الأحزاب الحكومية تعلن استمرار حرب الطبقة البورجوازية على  ال ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية! / طلال الربيعي
- مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ... / مسعد عربيد
- أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا ... / بندر نوري
- كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة / شادي الشماوي
- الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: ... / رزكار عقراوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - رزكار عقراوي - جيل Z 212 واحتجاجات الشباب في المغرب: من الفضاء الرقمي إلى الشارع