بشير عصمت
الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 10:50
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
اليسار بين النعي العدمي والتاريخ الحي: من مأزق الحنين إلى إمكان التجديد
الأزمة تكمن في أن القديم يموت والجديد لم يولد بعد – أنطونيو غرامشي
النقد لا يكتفي بقطع الزهور الوهمية عن السلاسل، بل يكسر السلاسل نفسها – كارل ماركس
لم يكن نشر مقالة بعنوان «اليسار بين أزمة الهوية وأوهام رهابه» في جريدة الأخبار البيروتية بتاريخ ٣ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٥ حدثًا عاديًا. فمن يعرف مسيرة هذه الصحيفة، التي ارتبطت لعقود طويلة بكونها منبرًا أساسًا لليسار اللبناني والعربي، لا يمكنه إلا أن يتوقف عند المفارقة: الصحيفة التي كانت صوت الحركات الطلابية والنقابية والمناضلين ضد النيوليبرالية، تنشر اليوم مقالا لا يعدو كونه بيان نعي لليسار، مكتوب بلغة أقرب إلى مراثي الخصوم منها إلى النقد الذاتي.
يقدّم كريم حداد أطروحته على أنها نقد «للرهاب من اليسار»، لكنه في العمق لا يفعل سوى إعادة إنتاج أطروحات فرانسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ» وصموئيل هنتنغتون عن «صراع الحضارات»، مع تغيير في الألفاظ. فهو ينطلق من فرضية أنّ اليسار اندمج كليًا في النيوليبرالية وصار مجرّد يسار ليبرالي بلا مضمون طبقي. لكنّ هذا القول يفتقد إلى أدنى درجات البرهنة: لا سياسات، لا أرقام، لا تجارب ملموسة. هو مجرد إنشاء يعفي صاحبه من مسؤولية الإثبات. بهذا المعنى، لا نجد نقدًا جدليًا، بل بيانًا عدميًا يكرّر نبوءة موت اليسار.
غير أنّ التاريخ الحديث يكفي لتكذيب هذه النبوءة. فمنذ كومونة باريس، كانت المراثي تتوالى: بعد سحق ثورة 1848، بعد الحربين العالميتين، بعد سقوط جدار برلين. في كل مرة، قال الخصوم إن زمن اليسار انتهى، لكن التناقضات الاجتماعية أعادت إنتاج الحاجة إلى قوى الاعتراض. في أميركا اللاتينية، نشأت حكومات يسارية قاومت و انجزت رغم الضغوط وفتحت مسارات جديدة للتنمية والعدالة. في أوروبا، حتى في أشد مراحل التراجع، حافظت الاشتراكية الديمقراطية على حد أدنى من الكوابح الاجتماعية. وفي لبنان و البلدان العربية، رغم ضعف التنظيمات، ظلّت النقابات والحركات الطلابية والاجتماعية الصوت الوحيد ضد الخصخصة. هذا كله يثبت أن اليسار، حتى مع انهيار مؤسساته التقليدية، لا يختفي، بل يتجدد بأشكال مختلفة.
لكن الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني تبرئة الذات. فاليسار أصيب بضعف بنيوي عميق تمثّل في إغفاله مسائل أساسية: المواطنة كإطار جامع، الجوانب الروحية والنفسية كقوى مادية في حياة الناس، والقدرة على الربط بين الأممية كقيمة سامية للتضامن وبين الالتزام بقضايا الشعب المباشرة. لم تكن المشكلة في «أممية» اليسار كقيمة، بل في تحوّلها أحيانًا إلى تعالٍ على القضايا الوطنية، بما جعل الناس يرون أن أحزابًا أممية تهتمّ بفلسطين أو فيتنام أو أميركا اللاتينية أكثر مما تهتمّ بمشاكلهم اليومية في قراهم وأحيائهم. الفارق شاسع بين أممية تضامنية ترى مصير الشعوب متشابكًا، وبين قومية فاشية تنكر حقوق الآخرين، لكنّ اليسار كثيرًا ما فشل في توضيح هذا التمييز. هنا تَكَوَّن الشرخ بينه وبين جمهوره الطبيعي، وهو شرخ لم يستطع أحد أن ينكره.
إلى جانب هذا الضعف البنيوي، جاء خطاب «ميتافيزيقا التقدم» الذي تحدّث عنه حداد. صحيح أنّ الماركسية لم تكن عقيدة لاهوتية تؤمن بحتمية التقدّم، بل كانت قراءة جدلية للصراع الاجتماعي. لكنّ بعض تيارات اليسار تعاملت مع التاريخ كأنه خط مستقيم مضمون النهاية، فبرّرت باسم «التقدم» سياسات تحديثية همّشت فئات واسعة. هذا الخلل أسهم في عزلة بعض الأحزاب عن مجتمعاتها. غير أنّ المساواة بين الماركسية والليبرالية في هذه النقطة هي تبسيط فاضح. فالليبرالية نظرت إلى السوق كآلية طبيعية للتقدم، أما الماركسية فقد رأت التقدّم نتاج التناقضات والصراع الطبقي. الفرق جوهري، والتعمية عليه ليست بريئة.
وحين يقول حداد إنّ اليسار واليمين باتا واحدًا اقتصاديًا، فهو يغفل تمامًا الأمثلة الحيّة التي تنقض كلامه. التجارب اللاتينية منذ مطلع الألفية لم تكن محض رموز هوية: لقد واجهت النيوليبرالية بالرفض وأطلقت برامج اجتماعية واسعة. حتى في أوروبا، حين تبنّت بعض الحكومات اليسارية سياسات تقشف، بقيت هناك محاولات جادّة لمقاومة منطق السوق المطلق. القول إنّ «الجميع سواء» يساوي بين الاستسلام المؤقت والانصهار البنيوي، وهو قول يائس أكثر منه نقد.
في السياق العربي واللبناني، المسألة أعقد. فاليسار لم يكن ضحية «رهاب» فقط كما يدّعي بعض المدافعين، ولم يكن ضحية شماتة خصومه فقط كما يوحي مقال حداد، بل كان ضحية تناقضاته الداخلية. انقسم بين تيارات التحقت بأنظمة سلطوية تحت شعار القومية أو التقدم، وأخرى بقيت أسيرة شعارات كبرى دون برنامج اجتماعي واقتصادي واقعي. لم تنفضّ الجماهير عن اليسار بسبب مؤامرة أو رهاب، بل لأنها لم تجد عنده بديلًا ملموسًا. لكن هذا لا يعني أنّ اليسار مات، بل يعني أنّ عليه أن يجدّد نفسه ليكون بديلًا حقيقيًا.
المقارنة هنا مع مقال كاوا محمود «من أجل بناء الديمقراطية» تكشف كل شيء. بينما يكتب حداد بيان نعي يائسًا، يضع كاوا برنامج عمل مفصّل في عشر نقاط: التنمية البشرية المستدامة بوصفها أساس الديمقراطية؛ رفض الخصخصة المفرطة ؛ تجاوز اختزال الديمقراطية بصناديق الاقتراع عبر التربية المدنية وتعزيز المواطنة؛ مواجهة الشعبوية والوعي الزائف؛ استكمال بناء الدستور المدني العلماني والمؤسسات الدستورية؛ ربط التنمية بمحاربة الفساد والإصلاح السياسي والإداري؛ حماية الحريات العامة وحقوق المرأة والمساواة الجندرية؛ محاربة الإرهاب باعتباره قضية تنموية لا أمنية فقط، وفصل الدين عن الدولة بوضوح؛ مواجهة المركزية المطلقة في العراق والدفاع عن حق تقرير المصير الكردي؛ وأخيرًا، قراءة متأنية للصراعات الدولية والإقليمية مع الدعوة إلى تحالفات واسعة بين القوى الديمقراطية والمدنية واليسارية.
إنّ استدعاء نص كاوا هنا ليس من باب «التعويض» عن مقال حداد، بل من باب إبراز المفارقة: الأوّل يكتب بلغة العدم، الثاني يكتب بلغة البرنامج. الأوّل يرى أنّ اليسار اندثر وصار نسخة ليبرالية هشة، الثاني يرى أنّ بناء الديمقراطية مهمة شاقّة لكنها ممكنة إذا ارتبطت بالتنمية والعدالة والتحالفات الواسعة. الأوّل يستعيد مقولات خصوم اليسار، الثاني يستعيد روح غرامشي في أصعب المراحل: «القديم يموت والجديد لم يولد بعد»، مع إضافة أنّ القديم يعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة، والجديد يحتاج إلى جهد وتحديد ومعرفة بالظروف الموضوعية.
بين هذين النصّين يتجلّى معنى النقد الحقيقي: أن تفتح أفقًا لا أن تغلقه، أن تشخّص الأزمة لتبني بديلًا لا أن تتلذذ بالانهيار. فاليسار ليس أسطورة مقدّسة ولا نصًا جامدًا. هو تاريخ حيّ، متعثر أحيانًا، متراجع أحيانًا، لكنّه يتجدد كلما ازدادت التناقضات وكلما عبّر البشر عن حاجتهم إلى العدالة. إنّ ضعفه اليوم ليس برهانًا على موته، بل على مأزق الحنين الذي يقيّده: حنين إلى مؤسسات انهارت، إلى شعارات فقدت جاذبيتها، إلى أطر تنظيمية لم تعد قادرة على استيعاب تعقيدات العصر. تجاوز هذا الحنين هو الشرط الأول لولادة الجديد.
من هنا، فإنّ القضية ليست في أنّ خصوم اليسار اخترعوا «فوبيا» لتبرير وجودهم، ولا في أنّ «النقد العدمي» يملك الحقيقة، بل في أنّ اليسار الحقيقي لا يزال يبحث عن صيغته الجديدة. وهذا البحث لا يمكن أن يُختزل في الليبرالية التي أثبتت عجزها عن أن تكون بديلًا؛ فالليبرالية في جوهرها إعادة إنتاج لسلطة السوق والتفاوتات البنيوية. ولا يمكن أيضًا أن يظلّ أسيرًا للماضي. عليه أن يبني على القيم السامية للأممية – تضامن الشعوب، العدالة الدولية – لكن من دون أن يهمل المواطنة كإطار ملموس لمعاناة الناس اليومية، ومن دون أن يتغافل عن البعد النفسي والروحي في حياة البشر.
الخاتمة إذن ليست نعيًا بل دعوة. فالتاريخ، وإن شهد انهيار المؤسسات القديمة، لا يزال يفتح المجال أمام قوى الاعتراض لتبتكر مسارات جديدة للعدالة والحرية. واليسار، إذا تحرّر من أسر الحنين واستعاد قيم المواطنة والعدالة والروح التضامنية، قادر على أن يكون بديلًا حقيقيًا، لا تكرارًا لأسطورة قديمة ولا انجرارًا خلف العدمية. أما الذين يكتبون بيانات موت، فلن يحصدوا إلا فراغًا آخر. أما الذين يكتبون برامج بناء، فلهم وحدهم أن يفتحوا الأفق.
#بشير_عصمت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟